
تشييع السيد حسن: أبو علي مرافقه التاريخي يحرس نعشه في المدينة الرياضية أمس الاحد
“مصدر دبلوماسي”
كتبت مارلين خليفة:
وسط مشهدية مهيبة لا تشبه سوى الجنائز التي سجلها التاريخ في الذاكرة الجماعية للشعوب ودّعت الجماهير في بيروت الامينين العامين لحزب الله السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين في تشييع تاريخي امتدّ من ليل السبت حتى ساعة الوداع الكبرى يوم امس الاحد في المدينة الرياضية. كانت الجماهير قد بدأت بالتوافد منذ الليلة السابقة ما اضطر المنظمين الى فتح أبواب المدينة الرياضية قبل الموعد المحدد حيث احتشدت الحشود من الجنوب والبقاع والشمال وبيروت والجبل قاطعة الطرقات سيرًا على الأقدام ليكون وداعها للسيد نصر الله بحجم ما قدّمه لها على مدى اثنين وثلاثين عامًا.

“تسونامي السيد”
لم يكن هذا التشييع حدثًا عابرًا، بل كان أشبه بتسونامي بشري اجتاح شوارع العاصمة ولبنان وصولًا إلى المدينة الرياضية. أعداد المشاركين فاقت المليون ومئتي ألف شخص في مشهد قلّ نظيره حتى في جنازات القادة التاريخيين. وللمقارنة، فقد حضر جنازة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قرابة خمسة ملايين شخص فيما قُدّرت أعداد المشاركين في جنازة رفيق الحريري بحوالي مليون شخص. لكن ما ميّز تشييع السيد نصر الله كان الطابع العابر للحدود، إذ حضرت وفود من إيران والعراق واليمن وأميركا وفنزويلا والبرازيل والبرتغال ودول أفريقية عدة حيث لفت الحضور الكبير لرجال الدين الأفارقة الأنظار.
من إيران، وصلت راية الإمام علي الرضا مغمورة برائحة المسك والعنبر لتُخصص في مرقد السيد نصر الله ففاحت روائحها بين الجماهير التي بدت وكأنها تبايع السيد مرة أخرى في مشهدية تضمنت أصوات الهتافات المتعالية وصور السيد المرفوعة في الأيدي والقلوب.
المعركة الإعلامية: المرتزقة في مواجهة الحقيقة
وكما كان متوقعًا، سعت بعض الجهات الإعلامية إلى التقليل من حجم هذا الحضور الاستثنائي، في محاولة بائسة لتزييف الحقيقة. بينما أكدت مشاهد البث المباشر والمقاطع المتداولة حجم الحدث، راحت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على خصوم الحزب تروج لأرقام تقلل من شأن التشييع، وهو ما اعتبره المتابعون محاولة واضحة لطمس معالم هذا الزخم الجماهيري. بل وصل الأمر إلى حد استئجار بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي للتغريد ضد الحدث حيث بلغ سعر التغريدة الواحدة 500 دولار أميركي في مشهد يعكس هشاشة الإعلام المأجور الذي بات يبيع مواقفه لمن يدفع أكثر.

لكن الحقيقة كانت واضحة كالشمس. لقد كان هذا التشييع رسالة صارخة بأن نصر الله لم يكن مجرد قائد سياسي، بل رمز مقاومة عالمية، تمامًا كما أصبح تشي غيفارا رمزًا للثورة في أميركا اللاتينية أو كما تحوّل نيلسون مانديلا إلى أيقونة للنضال ضد الاستعمار. إن إرثه السياسي والعسكري بات أبعد من لبنان، ليجد صداه بين أحرار العالم.
إسرائيل تحلّق… والجماهير تردّ
ذروة المشهدية السوريالية كانت حين حلّقت طائرات إسرائيلية من طراز “أف-35” على علوّ منخفض فوق المدينة الرياضية، محاولة استفزاز الجماهير الموجوعة. لكن الردّ جاء تلقائيًا، إذ علت القبضات في الهواء وارتفعت الصرخات: “الموت لإسرائيل” و”هيهات منا الذلة”، في مشهد ذكّر بالحرب الاخيرة حين كانت بيروت تهتز تحت وقع القصف الإسرائيلي لكنها ترد بصمود وإرادة صلبة.
“أبو علي” يظهر بعد اغتيال السيد حسن
للمرة الأولى منذ اغتيال السيد نصر الله، ظهر مرافقه الشخصي “أبو علي” محاطًا بجثمان قائده معانقًا النعش ومتطلعًا إلى السماء حين حلّقت الطائرات الإسرائيلية مجددًا. كانت لحظة مؤثرة تفاعل معها الحاضرون الذين رأوا في هذا المشهد تعبيرًا صارخًا عن الولاء والوجع في آنٍ معًا.
ارتدادات التشييع: نحو الانتخابات النيابية للعام 2026
التداعيات السياسية لهذا الحدث قد تكون أعمق مما يتوقع خصوم الحزب. فإذا استمر هذا المدّ الشعبي حتى الانتخابات النيابية المقبلة في 2026 فإن صندوق الاقتراع قد يكون صاعقة تقلب كل الحسابات وخصوصًا مع ما يُحكى عن محاولات فصل بيئة الحزب عنه عبر عرقلة إعادة إعمار المنازل المدمرة في الجنوب والضاحية الجنوبية. هذه الاستراتيجية التي تتبناها بعض الدوائر الدبلوماسية الغربية والعربية قد لا تصمد أمام مشهدية الأمس حيث بدا واضحًا أن جمهور نصر الله ما زال وفيًا بل قد يكون اليوم أشد تماسكًا مما كان عليه في حياته.
لقد كان تشييعًا مدوّيًا، زلزل بيروت وترك أثرًا يتجاوز حدود اللحظة. هو ليس مجرد وداع بل بداية مرحلة جديدة في تاريخ المقاومة مرحلة قد تكون لها ارتدادات تمتد حتى الانتخابات المقبلة، وحتى أبعد من ذلك.
محاور خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم خلال مراسم تشييع السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين
اثناء التأبين في المدينة الرياضية، كانت كلمة لأمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم الذي بدأ خطابه بالبسملة وحمد الله والصلاة على النبي محمد وآله ثم وجه تحية إجلال للحشد الكبير الحاضر في مراسم التشييع، مشيدًا بالمشاركين من مختلف الطوائف والقوى السياسية. كما وجه التحية الخاصة لممثلي الرؤساء اللبنانيين، مؤكدًا أهمية هذه المناسبة التي تجمع كافة الأطياف تكريمًا للقادة الراحلين.

تحدث الشيخ قاسم عن السيد حسن نصر الله بوصفه قائدًا استثنائيًا، مشيرًا إلى دوره الوطني، العربي، والإسلامي، واعتباره “قبلة الأحرار” في العالم. وأكد أن نصر الله لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل كان رمزًا للمقاومة والمدافعين عن قضايا المستضعفين، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
ثم استعرض الشيخ قاسم المسيرة العلمية والجهادية لنصر الله، منذ نشأته الدينية في النجف الأشرف تحت إشراف السيد محمد باقر الصدر، وانتقاله إلى بعلبك لمواصلة نشاطه الحوزوي تحت رعاية السيد عباس الموسوي. وتطرق إلى دوره البارز في تأسيس حزب الله عام 1982، وتدرجه في المسؤوليات داخل الحزب وصولًا إلى توليه الأمانة العامة بعد اغتيال السيد عباس الموسوي عام 1992.

أكد الشيخ قاسم أن السيد حسن نصر الله قاد المقاومة في لبنان وأصبح رمزًا لوحدة الأمة والمقاومة معًا، مشيرًا إلى خصاله الشخصية من التواضع، الوفاء، والشجاعة، وصولًا إلى استشهاده أثناء وجوده في غرفة عمليات المقاومة. وأكد أن فقدانه خسارة كبيرة، لكنه باقٍ في نهج المقاومة الذي تركه، مشددًا على التزام الحزب بالسير على خطاه.
ثم استشهد الشيخ قاسم بعبارات نصر الله حول التمسك بالمقاومة مهما كان الثمن، مستعيدًا كلماته بعد اغتيال السيد عباس الموسوي، حين قال: “هذا الطريق سنكمله لو قُتلنا جميعًا، لو دُمرت بيوتنا على رؤوسنا، لن نتخلى عن خيار المقاومة.”
نقل الشيخ قاسم رسالة تعزية من المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي، الذي أكد أن فقدان نصر الله خسارة نادرة، لكن أثره وجهاده سيستمران لعقود. كما جدد قاسم العهد والبيعة لمسار المقاومة، داعيًا الحشود إلى ترديد شعار “إنا على العهد يا نصر الله” ثلاث مرات، تأكيدًا على استمرار النهج الذي قاده.
وداع السيد هاشم صفي الدين: القائد الحبيب والمؤازر
ثم انتقل الشيخ قاسم للحديث عن السيد هاشم صفي الدين، مشيدًا بمكانته ودوره الكبير في المقاومة. وأوضح أنه كان من مؤسسي حزب الله منذ 1982، والتحق بحوزة قم المقدسة لمتابعة دراسته الدينية، ثم عاد إلى لبنان للمشاركة في العمل الجهادي، وتدرج في المسؤوليات حتى أصبح رئيسًا للمجلس التنفيذي. كما سلط الضوء على جهوده في دعم المؤسسات التربوية والاجتماعية، ودوره الحاسم في تجهيز المقاومة.

وأشار إلى أن صفي الدين استشهد بعد ستة أيام فقط من توليه منصب الأمين العام، خلفًا للسيد حسن نصر الله، مؤكدًا أن الحزب فقد قائدًا بارزًا كان رفيق درب نصر الله وعضده الأساسي.
وجه الشيخ قاسم التحية إلى الشهداء الذين سقطوا في العملية التي استهدفت قيادتي الحزب، مشيدًا بدمائهم التي امتزجت على طريق القدس، وخصّ بالذكر عدداً من القيادات العسكرية الذين كانوا برفقة السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، ومن بينهم مسؤولون إيرانيون ولبنانيون.

اختتم الشيخ قاسم خطابه بالتأكيد على التمسك بنهج المقاومة كخيار وحيد، مشددًا على أن الحزب لن يتراجع رغم الخسائر الفادحة. كما قدم التعازي لعائلات الشهداء، متمنيًا لهم الصبر والثبات، ومجددًا العهد على استمرار النضال حتى تحقيق النصر.