في دراسة أمين الريحاني، عادة ما يغوص النقّاد والدارسون في شخصية الفيلسوف والمفكر والأديب والكاتب والروائي والمؤرخ والناقد والرسام والرحالة وكاتب السير والثائر والمصلح الاجتماعي والسياسي… وهذه كلها صفات وألقاب استحقها الريحاني عن جدارة… ويزيد!
لكن أمين الريحاني حُرم حقّه في القاء الضوء بما فيه الكفاية، وبما يستحقّ، على صفة أساسية ميّزت شخصيته، هي صفة القارئ: لقد كان هذا الرجل قارئا سياسيا مميزا واستثنائيا ورؤيويا لامعا.
في بداية القرن العشرين فهم أسس النظام العالمي وواكب اتجاهاته، وكيفية تطوّره وتغيّره، في ضوء العوامل المؤثرة فيه من حروب، وتحالفات، واصطفافات، وثورة صناعية مع ما رافقها من نظريات اقتصادية وسياسية، وأدوار زعامات وقادة عالميين.
من العالم الجديد، من الولايات المتحدة الاميركية، راقب امين الريحاني التحولات في “نظام وستفاليا” (WESTPHALIA) نتيجة الحرب العالمية الأولى وذيولها على العالم الامبراطوري القديم، في أوروبا وملحقاتها الاستعمارية في آسيا وافريقيا.
لم يقبل امين الريحاني للعرب موقع المتلقي والمتأثّر، ولم يشأ الاستسلام لما يرسمه لهم كبار ذلك الزمان، فحزم حقائبه وعاد من الولايات المتحدة الاميركية الى لبنان، لينطلق منه الى العالم الذي كوّن له في فكره تصوّرا، الى العالم العربي الذي أراده عالما فاعلا ومؤثرا، لا عالما متفرّجا على ما يقرره له وعنه الكبار.
لم يكتف أمين الريحاني للبنان بحدود توصف بأنها طبيعية، جعلت منه كبيرا في الجغرافيا بعد سقوط السلطنة العثمانية، بإقرار من مؤتمر فرساي الذي عقدته الدول الحليفة بعد الحرب العالمية الأولى، لتقرير مصير الأراضي والشعوب التي كانت تخضع للدول المهزومة ومنها السلطنة العثمانية.
أراد أمين الريحاني لبنان كبيرا في دوره بالشراكة مع عمقه العربي، خصوصا في الجزيرة العربية، التي استشرف تأثير موقعها الجغرافي المحوري المميز، وثرواتها الاقتصادية الدفينة، وامكاناتها السياسية المغمورة، فاعتمد نفسه سفيرا للبنان الى العرب، وسفيرا للعرب الى العالم، وانطلق في رحلاته الى ملوك العرب.
لم يكن في سفره مجرد سائح مستطلع، أو مستكشف شغوف بكتابة ما يرى، أو واصفا لطبيعة الصحراء، أو متعرفا على العادات الاجتماعية للقبائل العربية، وعلى أنسابها وامتداداتها والعلاقات فيما بينها، وثقافتها وتراثها ومعتقداتها، ولم يكن مجرد ساع لبناء علاقات شخصية مع ملوك وأمراء وسلاطين، بل كان واحدا من آباء علوم العلاقات الدولية، قبل تأسيسها كاختصاصات اكاديمية مستقلة.
رفض أمين الريحاني أن يتعرف على العرب من كتب بريطانية وفرنسية، وبلغات غير “لغة الضاد”… وأراد أن يتعرّف بنفسه، ويعرّف العالم على العرب من خلال رؤية عربي واثق بنفسه وبقدراته، وطموح الى الندية في العلاقة مع العالم وسياساته وثقافاته وحضاراته ومعتقداته وقيمه.
لا نغالي إذا قلنا بأن مضمون كتاب “ملوك العرب”، شكّل أساسا لنظام اقليمي عربي يكون جزءا من النظام العالمي، فاستبق أمين الريحاني بذلك غيره وزمنه في بلورة مفهوم “النظام الإقليمي” الشريك في بناء “النظام العالمي”، بدل التبعية الوطنية والاقليمية للنظام العالمي من خلال الأحلاف والتموضع في معسكرات يبنيها الكبار ويديرونها وفقا لمصالح دولهم.
لقد أظهر أمين الريحاني في كتاب “ملوك العرب” أنه مواطن عالمي، لم تنتقص عالميته من لبنانيته وعروبته، لكنه أولى قضايا العالم الأوسع ومشاكله ما تستحق من اهتمام، مما سمح له بفهم مبكر لقواعد “النظام العالمي” والعوامل المؤثرة في تبدّله، وتوقه الى أن يكون العرب في صلب هذا النظام، ومن الذين يستفيدون منه، لا من الذين يدفعون ثمن موازين قواه. لقد راهن على “قوة التوازن” في زمن “موازين القوى”.
وهو من أجل ذلك، لعب دور “الموفد الجوّال”، و”الوسيط النزيه”، و”المحاور المنفتح” على تفهم أفكار الآخرين وتطلعاتهم ورؤاهم لمصالح شعوبهم… بحث عما يجمع بين الأديان، ونبذ ما يفرّق… سعى الى تقريب وجهات النظر بالمرونة تلافيا للحروب… كان “رجل جمع” في زمن غرق فيه العالم العربيّ خصوصا، والعالم عموما، في القسمة والضرب والطرح … فنجح حينا وفشل حينا آخر… لكنه، في كل الأحوال لم ييأس من المضيّ في محاولاته حتى رمقه الأخير، فاستحقّ لقب “رجل دولة” في تفكيره ورؤاه وإدائه، من دون أن يكون في موقع المسؤولية أو يطمح اليها.
عاش أمين الريحاني العولمة قبل العولمة بقرن كامل… فكان رجل سياسات ولم يكن رجل مناكفات سياسية ووصولية وانتهازية…
كنا، ونحن شباب في مقتبل العمر، نحسد أمين الريحاني لأنه عاش في زمن الملك عبد العزيز… لكننا في هذه الايام تساوينا في الحظ معه لأننا نعيش في زمن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز – حفظهما الله.
وكم كان فرح أمين الريحاني عظيما لو أنه يشهد اليوم ما تعيشه الجزيرة العربية من أحلام لم يسمح له القدر بأن يعيشها في زمانه.
استقرار سياسي وأمني، في محيط اقليمي دائم الاضطراب.
عروبة حديثة أسقطت الأيديولوجيات السياسية والدينية الجامدة، واستبدلتها برؤى انفتاحية تزرع التنمية المستدامة حتى في الصحاري القاحلة، وتبني اقتصادات في خدمة الإنسان ورفاهيته…
سياسة خارجية تجعل من هذه الدول، محط انظار صنّاع القرار الدوليين في الولايات المتحدة الاميركية وروسيا والصين واوروبا وغيرها…
شراكات استراتيجية تضع العرب في قلب العالم، وتشكل الأساس الصلب لتحويل الشرق الأوسط الى واحة توازن عالمي، بعدما كان على مدى القرن الماضي ساحة صراعات ونزاعات لا يزال بعضها مستمرا الى اليوم…
انفتاح وتسامح ديني في مواجهة نظريات صراع الحضارات وحروب الأديان…
عروبة تطويرية (EVOLUTION) بدل العروبة الثورية (REVOLUTION)…
عروبة تشاركية (PARTNERSHIP) بدل العروبة الاشتراكية (SOCIALIST)…
عروبة تعددية (PLURALIST) تقوم على احترام حدود الدول وسيادتها واستقلالها وأنظمة الحكم فيها، والخصوصيات السياسية والدينية والقومية والثقافية والحضارية لشعوبها، بدل “العروبة الاندماجية التذويبية” (FUSION).
عروبة يحلم بها، ويعمل لها بجهد وثبات وتفان، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي عبّر عنها بقوله: “أريد أن أرى الشرق الأوسط في السنوات الخمسين المقبلة أوروبا جديدة…إنها حربي ولا أريد أن أغادر هذه الدنيا قبل ان أحقق هذا الهدف”. أطال الله بعمره ليسير بنا الى حيث يستحق ونستحق، الى عروبة نموذجية تواكب القرن الواحد والعشرين، تفتح ذراعيها للدول والشعوب العربية المأزومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، للخروج من أزماتها، وتتسع لكل الدول العربية من المغرب الى المشرق، من أجل بناء نظام عربي جديد، يكون أساسا لنظام اقليمي جديد، شريك للنظام العالمي المتغير باستمرار.
أخيرا، ولأننا نجتمع في رحاب دارة الملك عبد العزيز، لا بد من ملاحظة من صلب موضوع لقائنا.
إن العلاقة الوطيدة التي ربطت الملك عبد العزيز، بالمثقفين والأدباء ورجال العلم، ومنهم أمين الريحاني ليست صدفة أو مسألة عابرة، بل انها سياسة اعتمدها عن سابق تصور وتصميم. إنها سياسة تعكس ميزة في القادة الكبار بتنا نفتقدها عند الكثير من السياسيين زالزعماء على مستوى العالم. فمعظم حكام عالمنا الحاضر وسياسيوه غرقوا في المادة والمصالح والمظاهر، فحصروا معشرهم وصداقاتهم وعلاقاتهم واهتمامهم وتقربهم بأهل المال والثروات والوجاهة والسلطة والنفوذ…
إن اجتماعنا اليوم دليل على أن إرث الملك عبد العزيز، صديق المثقفين واهل العلم والمعرفة، انتقل الى أولاده وأحفاده وصولا الى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز المعروف بثقافته وسعة اطلاعه، وبحرصه على السهر على ثقافة عائلته الصغيرة، وعائلته الكبيرة أبناء المملكة وبناتها، والى ولي عهده صاحب السمو الملكي الامير محمد بن سلمان الذي أولى الثقافة والفن والأدب والعلم والانسان اهتماما مميزا واستثنائيا في رؤية 2030 للمملكة العربية السعودية… والى صاحب السمو الملكي الامير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس إدارة هذه الدارة العابقة بالتاريخ والتراث والفكر والعلم وهي عوامل بدونها لا مستقبل ولا نمو ولا ازدهار ولا تقدم.
شكرا للمملكة وقيادتها، ولدارة الملك عبد العزيز الزاهرة والقيمين عليها، على الدعوة وعلى تنظيم هذه الفاعلية… حماكم الله وأمدكم بالصحة والعافية لقيادة العرب نحو مئوية جديدة!