“مصدر دبلوماسي”
سرد الامين العام الراحل لحزب الله السيد حسن نصر الله فصلا من طفولته إبان تأبينه لوالدته ام حسن التي رحلت في أيار\مايو الفائت، وذلك في كلمة ألقاها في ختام مراسم تقبّل التعازي في مجمّع سيّد الشهداء في 28 أيار\مايو 2024.
قال السيد حسن الذي استشهد في حرة حريك في 27 أيلول\سبتمبر الجاري بعد غارات اسرائيلية أمطرت مقر قيادة حزب الله بـ80 طنا من المتفجرات ألقتها طائرات أف 15، للنيل منه:
الوالدة الفقيدة المرحومة منذ زواجها عُرفت بأم حسن، إسمها السيدة نهدية هاشم صفي الدين، ولدت من أبوين هاشميين حسينيين، يعودان بالنسب الشريف إلى الشهيد زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، كانت امرأة مؤمنة طبية طاهرة هادئة قلما ما غضبت، يعني خلال عشرات السنين، لا أعرف إذا فعلت ذلك مرة أو إثنين أو ثلاثة، قلما غضبت، كانت قليلة الكلام، كثيرة الصمت، تتحدث إذا تكلمت بالقدر اللازم، تجيب على قدر السؤال، لا تتدخل في شؤون الاخرين، أنا لا أبالغ في كل هذا الوصف، كل من يعرف والدتي يعرف هذه الصفات، لا تتدخل في شؤون الاخرين، لا تسيء لأحد ولم تؤذي أحداً، لا بقول ولا بفعل، لا تحمل في نفسها حقداً او كراهية او غلاً او حتى حسداً لأحد، كانت عائلتها أولويتها المطلقة، العناية بهم، تربيتهم، حمايتهم، خدمتهم، الزوج والأولاد، وكان لها تسعة أولاد، أربع شباب وخمسة صبايا، اليوم أصبحوا كبارا بالسن طبعاً، والدتي كانت امرأة قنوعة لم تجادل يوماً حول مسكن او ملبس او مأكل، أغلب عمرها مع الوالد والعائلة قضته في غرفتين وغالباً في غرفة واحدة، من الممكن بالسنوات الأخيرة أصبح لديهم ثلاثة غرف، كانت معينة جداً في حمل الأعباء.
الوالد والوالدة
في البدايات كان لوالدي دكان يعمل فيه وكانت تعينه في الدكان وتحضر معه صباحاً ومساء، كانت معروفة بالصبر، امرأة صابرة محتسبة، كانت بارة بوالديها، والدها في سنواته الأخيرة كان كهلاً شيخاً عجوزاً كبيراً مريضاً وأبت إلا أن يكون في بيتها، لسنوات تجلس عند سريره وتخدمه في الليل وفي النهار، كانت تخدم الجميع وتتأذى من أن يخدمها أحد، وكانت محبة للجميع، امرأة عاطفية، كان الشهيد هادي حفيدها الأول، أحبته وأحبها وتأثرت كثيراً لشهادته وكانت تذكره على الدوام، وكانت شاكرة لله سبحانه وتعالى حامدة له طول العمر، وفي مرضها الطويل الذي طال سبع سنوات، ثماني سنوات، وكانت تُعاني من الآلام، دائمًا عندما كانت تُسأل كيفك يا حجة؟ الجواب الوحيد الحمد لله، الشكر لله.
حي شرشبوك
فضل الوالدة والوالد علينا أنا وإخواني وأخواتي لا يُوصف، نحن وُلدنا في حي من أحزمة البؤس من أحياء الفقراء في شرق بيروت المُسمى بحي “شرشبوك” في جوار منطقة الكرنتينا، وعشنا في ذلك الحي تقريبًا خمسة عشر سنة، لم يكن في حيّنا مسجد ولا مُصلّى ولا عالم دين ولا نشاط ديني، ولا المدارس التي ارتدناها من ابتدائية ومتوسطة وثانوية. لم يكن هناك تعليم ديني ولا نشاط ديني، ولكن ببركة هذين الوالدين مَنّ الله علينا أن هدانا للإيمان والتدين وعرفنا الصلاة والصوم وتلاوة القرآن وخشية الله منذ الصغر، في هذه البيئة، في هذا المحيط البعيد أو الأجنبي أو الحيادي عن كل ما له صلة بالدين والتدين والنشاط الديني. وأعظم نعمة بعد الوجود والذي واسطة الوجود هم الوالد والوالدة هي نعمة الإيمان، ببركتهما وبفضلهما مَنّ الله تعالى علينا بذلك. وكذلك نعمة الانتماء إلى الخط السياسي الذي كُنّا فيه وما زلنا فيه، في ذلك الحي لم نكن نعرف أحدا ولم يزرنا أحد، حي مسكين، بعيد، معزول، حتى الذي يريد أن يقوم باستقطاب سياسي آخر شيء يفكر بحي “شرشبوك”، ولكن ببركة الوالد والوالدة وكُنّا شُبانًا صغارًا، تسع سنين، عشر سنين، أنا وإخواني عرّفونا إلى سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر، حبّبونا به، كانت صورته أمام أعيننا، في الدكان وفي البيت، وكانت سيرته دائمًا على ألسنتهم، ومن الموقع التربوي والأبوي ومن البدايات انتمينا إلى مدرسته وإلى خطّه وإلى حركته وما زلنا سواءً كٌنّا أنا وإخواني، سواءً كُنّا في حزب الله أو في حركة أمل.
تنوع
كان ببالي أن أقول فكرة ولكن أنا لا أريد أن أطيل عليكم، لكن أذكرها بشكل مختصر جدًا، من ذكرى الوالدة والوالد في حي “شرشبوك”، هذا الحي لم يكن حيًّا كبيرًا ولكنه كان مُتنوّعًا، كان فيه لبنانيون وفلسطينيون، وكلهم طبعًا فقراء، وكان هناك في الحي عرب من العشائر العربية الذين يسمّونهم الآن عرب المسلخ، عرب الكرنتينا، كانوا عندنا في الحي، وأكراد، هجّروا من بلدانهم ولاحقًا حصلوا على الجنسية اللبنانية، وأرمن، وكان في الحي شيعة وسنة، وكان في الحي فقراء من مختلف المناطق اللبنانية، وكله مختلط، جيران، ليس مثل الآن أحياء مفروزة طائفية، لا، يعني هذا البيت هنا شيعي وفي البيت الآخر سني أو أرمني وكردي، هكذا، حي مختلط، الجيران كلهم جيران مختلطين، وكان هذا الحي وأهله في الستينات وبداية السبعينات قبل الحرب الأهلية يعيشون مع بعضهم كجيران، أنا أذكر ذلك جيدًا، طبعًا الوالد والأهل يتذكرون أحسن مني، سلام وأمن وجيران ومحبة ومودة وتكافل ولهفة، إذا أحد مرض، إذا أحد جُرح، إذا أحد صار عليه شيء، لم يكن بلحظة من اللحظات أنّه مسلم ومسيحي وسني وشيعي ولبناني وفلسطيني وأرمني وكردي وعربي يمكن أن يُشكّل حاجزًا أو مانعًا بين هؤلاء، جاءت الحرب الأهلية، مزّقت البلد.
لكن أنا أريد أن آخذ من تجربة هذا الحي عِبرة للمستقبل وحتى في الحاضر أنتم تجدون عندما يحصل خصومات بين قوى سياسية وتيارات سياسية ثمّ يتصالحون نجد أنّ الناس يُسارعون إلى بعضهم البعض، الناس مسلمين ومسيحيين، كلّ الناس في هذا البلد هم يريدون حقيقة أن يعيشوا مع بعضهم بسلام وأن ينسجموا وأن يألفوا ويتآلفوا، وعندما يُتاح لهم أدنى فرصة لذلك يُسارعون إلى ذلك. المشكلة عندنا هي في الصراع السياسي، هي في أداء بعض الزعامات والقيادات السياسية التي تُحوّل الصراع السياسي إلى صراع طائفي، التي تُحوّل الخلاف السياسي إلى أحقاد تُنشر بين الناس وتراكم بين الناس.
في ذكرى الوالدة وقد عادت الذاكرة إلى حي “شرشبوك” أتمنى أن نعود إلى تلك الأيام التي يعيش فيها الناس جميعًا بوئام وسلام وأن يُنظّموا اختلافاتهم السياسية بعيدًا عن التحريض والتجييش وإشاعة مشاعر وعواطف الحقد والبغضاء بين الناس، وهذا أمر متاح وممكن.