مارلين خليفة
صحيفة السفير
2010
يتغنّى الجنرال كلاوديو غراتسيانو وهو يتهيأ لمغادرة مقرّه في الناقورة في 28 الجاري بشعبية حصدها لدى الجنوبيين هي ثمرة قيادته المتزنة لقوات “اليونيفيل” المعززة بعد حرب تموز 2006. قبل ثلاثة أعوام، كان “اللواء” غراتسيانو الذي رقّي أخيرا الى رتبة فريق “ما يوازي رتبة العماد جان قهوجي” كما يشرح، يستقبل الصحافة بقناع من الحذر والتوجس والعبوس، حاصرا حركاته وإيماءاته بوجهه المقطّب الحاجبين، لا يفصح عن انفعالاته المقتصرة على صوته الأجش يخاطب فيه مساعديه الأقرب إليه باولو ساندري ودييغو فولكو. صوره كلها جامدة الحركة: يوجّه، يتقدّم الضباط، يصافح زوار قواته الدوليين، ونادرا ما ترصد خيال ابتسامة على قسماته الجافة.
بعد 3 أعوام، ها هو غراتسيانو يتهيأ لمغادرة الناقورة نازعا بشكل فجائي قناع القائد، ليظهر على حقيقته الإنسانية البحتة: رجل مجبول بالمشاعر، فكّر يوما بتبني أطفال من كابول، أعجب بحياة الجنوبيين وطعامهم وخصوصا طبق الفراكة يتناوله “مع الكثير من العرق”، يقدّر الصناعة اليدوية فيأخذ معه الى منزله في جوار روما مجموعة من السكاكين الجزينية، في ما اختارت زوجته ماريسا مجموعة من الزجاجيات الملونة فضلا عن ورق العريش المكبوس! وكما الصيادين يحب الأسماك ويتناول بعضها نيئا، يشعر برابط شدّه الى هذا الوطن لكنّ عمله لا يتيح له شراء منزل في العاصمة بسبب أسعار العقارات الباهظة والتي قفزت بشكل تصاعدي منذ قدومه الى الجنوب عام 2007.
الفريق غراتسيانو لا يخفي مغادرا حسّ الفكاهة والمرح لديه، يروي جزءا من حياته للـ”السفير” بأسلوب حيوي معلّقا على بعض حوادثها بنكتة أو نهفة، أسلوب لم تعتده الناطقة الرسمية بإسم “اليونيفيل” ياسمينا بوزيان ولا المسؤولة الإعلامية جومانة الصايغ، ما جعل المرأتان تصغيان بدهشة واضحة الى روايات القائد ذو الشخصية المستحدثة!
إبن الجبل
قال غراتسيانو: “ولدت في 22 تشرين الثاني عام 1953، ويصادف هذا التاريخ عيد الإستقلال اللبناني واغتيال جون كينيدي وسقوط القسطنطينية، إنه تاريخ هام جدا إذ تغير فيه وجه العالم!.
بلدته هي تورينو الواقعة في الجزء البارد من إيطاليا وفيها تنظّم الألعاب الأولمبية الشتوية، ونظرا للطبيعة الجبلية وللثلوج الكثيفة اعتاد التزلّج مذ بلغ الخامسة من العمر.
والده سيلفيو كان مديرا لسكة الحديد في الشمال، ووالدته كاتارينا معلمة مدرسة، لديه شقيق وحيد هو أستاذ جامعي يدعى ماركو. أتمّ دروسه في تورينو، وعام 1972 إنخرط في المدرسة الحربية في مودينا “عاصمة “الباستا”.
رافقه شغف الدخول الى المدرسة الحربية منذ صغره وخصوصا أن والده كان في فترة من الفترات ضابطا، إنخرط في بداية حياته العسكرية في فرقة ” الآلباين” المتخصصة بحرب الجبال، ثم عمل ملازما شابا في كتيبة “الأركتيك” قريبا من الحدود النروجية، وإبّان الحرب الباردة إنتشر الجيش الإيطالي هناك في انتظار قدوم جيوش الإتحاد السوفياتي التي لم تأت البتّة، ” إنتظرناهم طويلا ولم يأتوا، وتحملنا بردا يصل الى 52 درجة تحت الصفر!” يروي غراتسيانو ضاحكا.
بعدها أصبح قائدا للكتيبة ذاتها وتوجّه الى الموزامبيق في إفريقيا “حيث الحرارة بلغت 50 درجة! وكان الأمر شاقا لكتيبة اعتادت القتال في الأماكن الجبلية!”. بعد الموزامبيق اصبح قائد لواء في أفغانستان حيث اهتم بالوضع الأمني وساورته رغبة جامحة في تبني أطفال من كابول “إذ آلمتني رؤية الأطفال الفقراء يعيشون في الخلاء أو في منازل بلا نوافذ ويموتون من شدة البرد”، لكنّه لم يتمكن من ذلك لأن الشريعة الإسلامية لا تسمح.
إنطباعات لبنانية
في غضون 38 عاما من الخدمة العسكرية، واجه حوادث جمّة، لكن اللحظة الدراماتيكية التي شعر فيها بالحزن والتأثر الشديدين كانت حين وقف مودّعا جثامين الجنود الإسبان الستّة الذين قتلوا في الجنوب.
“أول مرة سمعت بها بإسم لبنان كانت عام 1982 عند انتشار القوات المتعددة الجنسيات، ومنها قوات إيطالية، كدت آتي الى هنا لكن موقعي كمدرب تزلج في فرقة “الألباين” منعني ولم أتخيل قط بأنني سأكون يوما قائدا لمهمة في لبنان”. يضيف:” لبنان بلد متوسطي وقريب من إيطاليا، نهتمّ لأخباره في صحفنا وكنت أتابع تطوّرات حربه لأعوام طويلة”.
بعد 3 أعوام من خدمته في لبنان يصفه بأنه” موزاييك من أناس آتين من ثقافات وأديان وخبرات مختلفة ويتميز بمرتفعاته وبالتنقل من البحر الى الجبل، كلّ شيء فيه صعود ولا مكان للأماكن المسطّحة”.
في خبرته التواصلية مع الناس وجد سهولة أكثر في التعاطي مع العسكر “لأنهم متشابهون أينما وجدوا”، أما السياسيين فقد اعتاد التعامل معهم “كممثلين للمؤسسات الرسمية لانه في عملي اتعاطى مع ممثلي السلطات اللبنانية فحسب على الرغم من علاقات المودّة التي تربطني ببعضهم”.
نسج علاقات صداقة مع بعض الاشخاص يذكر منهم رئيس بلدية صور عبد المحسن الحسيني وآخرين من ضباط الجيش.
أما الناس العاديين فيشعر بالسعادة لما يسمعه منهم من أنهم يحبون الجنرال غراتسيانو ويشكرونه لما فعله:” هذه التعليقات تفاجئني وتسعدني كثيرا ولا أدري إن كنت أستحقها لكنها صادقة لأنها تأتي من أشخاص عاديين لا غايات خاصة لهم”.
حسرة ورضى
لم يتسنّ للفريق غراتسيانو السهر أو السياحة في لبنان “لأنني عملت 7 أيام في الأسبوع وخصوصا في الفترة الأولى من مهمتنا حيث لم نكن ننام في الليل خوفا من حوادث طارئة”. يضيف بتحسّر:” هذا أمر محزن، حتى أن قائد الجيش العماد جان قهوجي نصحني بالعودة سريعا كسائح لأنني لم أعرف طيلة الأعوام الثلاثة سوى الجنوب وبيروت”. زوجة الجنرال غرتسيانو وتدعى ماريسا يصفها بأنها:” متسامحة جدّا، وهي اعتادت العيش مع رجل لا يتواجد دوما في المنزل. كانت سعيدة جدا بعيشها في لبنان الى درجة أنها تجهش بالبكاء كلّما أتيت على ذكر مغادرتنا القريبة لبلدكم. صادقت ماريسا الكثير من الناس وهي اعتادت التسوق في صور وكانت تجد متعة في ابتياع الأسماك”.
يشعر غراتسيانو بالرضى من المهمة التي قام بها في لبنان على الرغم من التحديات التي واجهها، ويقول بأن حياته مضت في ما هو منهمك يعيش نمطا سريعا من المهام والحوادث ويقول أنه سيشتاق كثيرا للبنان، “ولا ادري إن كنت أستحق هذه الشعبية هنا”.
يضيف:” كان من السهل إقامة علاقات مع الجنوبيين، إنه لشعور جيد أنه بات لدى الناس الأمل ببناء مستقبل آمن، هؤلاء يستحقون العيش في هذه الجنة التي إسمها لبنان”.
ما لم يحبه الفريق غراتسيانو في لبنان هو وجبتي الغداء والعشاء المتأخرتين، لكنه في المقابل أحب الأسماك وخصوصا “تلك الأنواع التي تأتي صباحا في القوارب والغير موجودة في بيروت”، كذلك أحب المازات اللبنانية وطبق “الفراكة” الخاص بالجنوب “مع العرق”.
أما أكثر ما تعجب منه فهو ملاحظته بأن سكان بيروت ” يبدون وكأنهم في إجازة دائمة لأن بيروت مدينة تعج بالحياة وسكانها يسهرون ويتسوقون ويلهون في اي وقت في اليوم”.
كيف يرسم مستقبل الجنوب اللبناني بعد أن عمل فيه ثلاثة أعوام؟
يجيب:”إن مستقبل الجنوب اللبناني غير منفصل عن مستقبل لبنان بأكمله، وفي الأعوام الثلاثة الماضية تمكنا بمؤازرة الجيش اللبناني من تحقيق وضع مستقر، وبات مهما في المستقبل الإنتقال الى مرحلة وقف إطلاق نار نهائي، لا اعتقد بأن الأمر سهل لكنه مهم جدا، ويمكن للمجتمع الدولي ولليونيفيل أن يقدما المساعدة لكن الدور الأساسي يبقى للشعب اللبناني الذي من المهم أن يبقى متشبثا بقرار السلام، وأنا لا ارى في الجنوب أو في محيطه أو في لبنان ككل أية نافذة مفتوحة على الحرب”.
- ما هي النصيحة التي يقدّمها الى خلفه الجنرال ألبرتو أسارتا كويفاس؟
- نصيحتي إليه أن يعمل بشكل وثيق مع الشعب ومع الأفرقاء الموجودين ويبني علاقة ثقة معهم.
رسالة غرتسيانو الأخيرة الى جنوده ملأى بالتفاؤل على غرار شخصيته الفذة :”أشكر الجنود والمدنيين الذين يعملون بجهد ورسالتي لهم أنهم إذا رغبوا يمكنهم احداث تغيير ولا أحد يمكنه إيقافهم لإنجاز ما يرونه مناسبا، وبالتالي عليهم مواجهة التحديات مهما صعبت”.
مارلين خليفة