مقالات مختارة
معاريف: جاكي خوجي
كتبت هنا في الماضي بأن عالماً بدون حسن نصر الله، وإن كان أفضل، فسيكون باعثاً على بعض السأم أيضاً. في سن الـ 63 عاما وبعد أكثر من 30 سنة في منصبه، بدا الأمين العام لحزب الله الأذكى بين زعماء المنطقة.
خطاباته مهمة محسوبة للفهم السياسي والحزبي، إلى جانب تنوع التفاصيل والأفكار. لا تراه إسرائيل داهية ولا يجب المساومة معه، لكن سلوكه في الأشهر الأخيرة يدل على أنه غائي ويعرف قيوده. ورغم الخطر الكبير، فلو ظهرعلى بؤرة استهداف الجيش الإسرائيلي هذه الأيام لثمة شكوك باتخاذ أمر بالضغط على الزناد.
يسأل كثيرون في لبنان اليوم: لم نحتاج إلى هذه الحرب؟ فقد أعطينا ما يكفي للفلسطينيين من دمائنا طوال سنين، وليس هذا وقت لجر البلاد إلى حمام دماء آخر، بل وفي خدمة الآخرين.
نصر الله ليس ملزماً بتقديم حساب للجمهور، فهو لم ينتخب منه. لكنه يعتبر حزب الله درع لبنان وسيده، ولهذا درج على التعاطي بجدية مع أسئلة صعبة.
في سلسلة من أربعة خطابات ألقاها منذ نشوب المعركة في غزة، حاول أن يشرح لماذا دخل حزب الله إلى المعركة. تفسيراته لا ترضي الجميع. سياسيون، وأساساً من دوائر المسيحيين، كشروا. ومن الصعب القول إن قراره ليس معللاً.
شرح نصر الله: فتحنا جبهة مع إسرائيل كي نمارس عليها ضغطاً، عسكرياً واقتصادياً، يحثها على وقف الحرب ضد إخواننا في غزة. فعندما يكون ثلث الجيش الإسرائيلي مخصصاً لحرب استنزاف في الحدود اللبنانية، فإن حرية عمله في غزة تكون أكثر محدودية. ومع ذلك، يعرف أنه من ناحية معظم اللبنانيين، لا ينبغي للدم اللبناني أن يسفك لأجل الآخرين ولهذا صاغ لهم تعليلاً إضافياً، أكثر وطنية. القتال ضد الجيش الإسرائيلي يذكر الإسرائيليين بأن أمامهم عدواً قوياً ورادعاً في لبنان. هذه الحقيقة كفيلة بإنقاذ الوطن من حرب شاملة. على حد نهجه، فإذا ما سجل الإسرائيليون نجاحاً بمهمتهم في غزة، بمعنى إذا ما صفّوا الفصائل المسلحة هناك، فسيكون لبنان المحطة التالية. “تتذكرون في السبعينيات كيف دخل الجيش الإسرائيلي وخرب مباني كاملة في بيروت”، قال نصر الله.
في خطابه الأخير الجمعة الماضي، قدم معطيات عن حجم هجمات رجاله في إسرائيل. نفذنا 670 هجوماً حتى الآن، قال. بالمتوسط 6 أو 7 هجمات في اليوم. أطلقنا على مدى 100 كيلومتر من قاطع الحدود ما لم نفعله من قبل. وأشار إلى أن “العدو يختبئ من خلف الخطوط”. بالإجمال، هاجم رجاله كل هدف عسكري أو استحكام على طول الحدود – وعددها 48. كما هوجمت أيضاً منشآت تجسس، وإخطارات وكاميرات رقابة قيمة كل واحدة منها مئات آلاف الدولارات. 17 بلدة إسرائيلية ضمت إلى دائرة النار في لبنان، لأن الجنود تموضعوا في نطاقها. ولولا هذه المقاومة لأتوا إلى لبنان من أجل تخريبه بعد إطلاق رشقة واحدة نحو إسرائيل، واصل نصر الله.
وتباهى نصر الله بأن إسرائيل أخلت عشرات آلاف المواطنين بفضل رجاله. في كل الحروب حتى اليوم، قال، أجبرونا على إقامة حزام أمني في أراضينا. أما الآن، ولأول مرة، أجبرناهم على إخراج حزام أمني في أراضيهم إلى حيز التنفيذ. وادعى قائلاً إن “هذا الإبعاد يعد ضغطاً حزبياً، سياسياً، اجتماعياً ومالياً على حكومة العدو”.
تخوف من حرب شاملة
في خطابه الثالث منذ نشوب الحرب في القطاع، الذي ألقاه في 3 كانون الثاني، عدد نصر الله قائمة إنجازات طويلة من 15 بنداً، سجلها معسكر المقاومة في هذه الأشهر الثلاثة. قائمة هذه البنود هي مرافعة دفاع نصر الله في وجه منتقديه. أولها إعادة المسألة الفلسطينية إلى الخطاب الدولي والبحث عن حلول لمشكلتهم. وقال بقدر كبير من الحق إنه “حتى 7 أكتوبر، كانت قضية منسية”. استنزف الإسرائيليون الشعب الفلسطيني في جملة ساحات، واصل نصر الله، واعتقدوا أن الأمر سيمر بهدوء وسيكون هذا مجدياً لهم. أما من الآن فصاعداً، فيعرفون أن الفلسطينيين لا يتركون الكفاح ولا ينسون أرضهم ومقدساتهم.
إضافة إلى ذلك، واصل يقول، ارتفع التأييد بين الجمهور الفلسطيني للفصائل المسلحة. وانكشفت إسرائيل كمن تنفذ إبادة جماعية، وأمريكا تدعمها. وأضاف: “الصورة الأمريكية تحطمت، وأداة القتل اليوم في غزة هي الصواريخ الأمريكية والسياسة الأمريكية”.
بالرغم من ذلك، الشارع الأمريكي مع الفلسطينيين. وتباهى بأن “الشبان لا يشاهدون قنواتنا التلفزيونية”، “سيكون لهذا تأثير هائل في أمريكا مستقبلاً”. وقضى نصر الله بقدر كبير من المبادلة بأن الاقتصاد الإسرائيلي مشلول: الزراعة تضررت، ولا سياحة، والصناعة تضررت. كما أن الردع العسكري لإسرائيل انتهى على حد زعمه. كل الفصائل تقاتله بلا خوف، سواء في غزة أو لبنان أو سوريا وحتى في اليمن، وليس بوسعه أن يوقفهم.
في لبنان، مثلما هو الحال عندنا، تنشر كل يوم صور شهداء حزب الله. عددهم يرتفع باتجاه الـ 200. قتل الجيش الإسرائيلي هذا الأسبوع وسام الطويل، القتيل الأكبر في صفوفهم حتى الآن. كان الطويل من قادة “قوة الرضوان”. هكذا يسمون وحداتهم المنتشرة في الحدود مع إسرائيل، وتتدرب على اجتياحها في يوم الأمر. في هذه المنظمات، بخلافنا، لا يحصون الجثامين؛ فهي منظمات تحرير، ولدت كي تضحي بحياة رجالها. كما أن هذا هو فكر حماس، و”الجهاد الإسلامي” وباقي الفصائل الفلسطينية. في خطابه الأول في سلسلة خطاباته، في 3 تشرين الثاني، شرح نصر الله بأن الخسائر بالأرواح بين رجاله ثمن جدير في هذه الظروف. حكومة نتنياهو، كما يدعي معسكر المقاومة، أعلنت حرباً هادئة على الفلسطينيين. فقد سعت لسحب البساط من تحت أقدامهم وحسم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بالنصر التام. 7 أكتوبر كان ضربة وقائية جاءت لتضرب خطة الحسم الإسرائيلية.
“فما هو البديل، الصمت؟” تساءل نصر الله. “ألا نتفوه بكلمة؟ ننتظر الموت؟ ننتظر إلى أن تضيع الضفة؟ ويضيع الأقصى؟ أن يموت السجناء؟ هذا قرار صعب، واجب، كامل، في زمنه الصحيح والمناسب، وهو يبرر كل هذه التضحيات”.
في كل خطاباته، كشف زعيم حزب الله عن تخوف شديد من حرب شاملة مع إسرائيل. عاد وهدد بأن من يفتح حرباً كهذه سيندم. “أقول للمستوطنين (والمقصود بذلك عموم سكان إسرائيل) أنتم أول من سيدفع الثمن”.
في خطابه الأخير، فاجأ وكشف للجمهور اللبناني بارقة أمل سياسية كفيلة بأن تنشأ عن هذه الحرب. اللغة كانت هجومية، على طريقته، لكن ثمة بشرى لهم اختبأت بين السطور.
هكذا صاغ الأمر: “بعد هذه المرحلة، بمشيئة الله وانتهاء العدوان على غزة، سيتمكن لبنان من تحرير باقي أراضيه. بدءاً بالناقورة، عبر الغجر وحتى مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. نحن أمام فرصة حقيقية لتحرير كل شبر من أراضينا وأمام فرصة حقيقية لمعادلة تمنع العدو الإسرائيلي من خرق مجالنا الجوي وبحرنا وسيادة بلادنا. هذه هي إحدى النتائج المباركة للمعركة في غزة”.
قبل يوم من ذلك، غادر الوسيط الأمريكي عاموس هوكشتاين بيروت إلى القدس. كانت رحلته المكوكية الثانية في الفترة الأخيرة، وكان في حقيبته اقتراح مفصل لترتيب الحدود البرية مع إسرائيل. لكن نصر الله، من بينهم جميعاً، قفز إلى الرأس مع بيان للجمهور، لأن الوسيط الأمريكي، الإسرائيلي سابقاً، الذي خدم في الجيش الإسرائيلي، سيجلب معه بشرى سياسية للبنان كله. هذا إذا نجحت مهمته بالطبع.