“البوصلة”
كتبت مارلين خليفة:
إنشغلت الاوساط السياسية والدبلوماسية والشعبية في لبنان بقراءة أبعاد وخلفيات طلب المملكة العربية السعودية عبر السفارة السعودية في بيروت من رعاياها مغادرة لبنان، وإعادة التذكير بقرار منع السفر، وما لبثت ان تبعتها سفارة الكويت التي حذرت رعاياها من اي خطر امني من دون ان تطلب مغادرتهم، فيما لحقت البحرين بالسعودية طالبة من رعاياها مغادرة الاراضي اللبنانية فورا واليوم الأحد اصدرت سفارتا قطر وسلطنة عمان تحذيرات بالمعنى ذاته. أرخى القرار السعودي المفاجئ بثقله على لبنان لأنه يخفض من منسوب الثقة بالاستقرار فيه وهو مؤشر الى بروز عقد جديدة تضاف الى التعقيدات التي تعصف بين المكونات اللبنانية على خلفية الشغور الرئاسي منذ 10 اشهر والانهيار الاقتصادي والمالي المستشري. فإذا بالسعودية وهي ركن أي ثقة عربية او دولية في لبنان تصدر قرارها المدوّي وسط صمت دبلوماسي سعودي بليغ.
يعتبر هذا البيان العقابي للبنان إذا جاز التعبير الأول الذي يصدر عن السعودية تجاه لبنان منذ توقيع الاتفاق السعودي الايراني في آذار\مارس الفائت، وهو يعكس أمرا رئيسيا تجاوزه اللبنانيون مرارا يقول بأن لبنان لم يكن جزءا من هذا الاتفاق لأن ملفه يرتبط بتوجهاته السياسية والعروبية أولا وبالاصلاحات البنيوية في هيكلية الدولة المهترئة أولا وثانيا وثالثا. وإذا كانت الدول قاطبة تتطلع الى صندوق النقد الدولي لترميم ثقتها بلبنان أقله ماليا، فإن هذه الدول تتطلع بثقة أكبر الى نظرة السعودية الى لبنان ومن هنا أهمية القرار السعودي وخطورته.
لا يمكن الجزم في التحليلات للموقف السعودي، قبل الاستماع الى موقف السعوديين أنفسهم، وقبل مرور وقت يظهر إن كانت توجد فعليا مخاطر امنية في لبنان تستوجب دق النفير واعادة الرعايا. فحوادث مخيم عين الحلوة التي اندلعت لأيام بين الفصائل وفتح على خلفية اغتيال رئيس جهاز الامن الوطني الفلسطيني اللواء ابو اشرف العرموشي هي الى انحسارـ واي كلام عن قرار باجتثاث الاسلاميين غير واقعي، علما بأن هؤلاء لا يتواجدون إلا في مخيم عين الحلوة حصرا، فيما لا أثر لهم البتة في بقية المخيمات الفلسطينية المنتشرة في بيروت وبعض المناطق اللبنانية الاخرى.
يبقى الخوف من عمليات اختطاف كما حصل مع المواطن السعودي منذ شهرين تقريبا ثم استعادته، وقد تكون الدعوة السعودية للمواطنين بالتذكير بقرار المنع خشية سعودية من حماسة السعوديين لزيارة لبنان للسياحة هو البلد الأحب الى قلبهم بالرغم من المحن كلّها، خوفا من تعرضهم لسوء وسط عدم اصطلاح الامور محليا واقليميا.
في البعد المحلي الداخلي، يوجد أيضا قرار سعودي بالنأي عن الانغماس في الملف الرئاسي اللبناني، وبعد اجتماع الدوحة، سافر الموفد الرئاسي الفرنسي جان-ايف لودريان الى السعودية حيث التقى مسؤول الملف اللبناني نزار العلولا، وسمع كلاما سعوديا عاتبا على فرنسا مختصره:”ألم تفهموا أنه “ما فيه نوى” من لبنان”، فطلب الفرنسيون المعنيون بالملف اللبناني وخصوصا الرئيس إيمانويل ماكرون الذي لا يوقف اتصالاته اليومية من اجل إعادة الحياة الدستورية الى لبنان، طلبوا فرصة اخيرة ستكون في ايلول متمنين توفير الغطاء السعودي لها فتم قبول طلبهم.
وبالتالي، فإن القرار السعودي يحتمل تفسيرين إما زيادة الضغوط على اللبنانيين دعما لفرنسا ولمبادراتها اللبنانية وهذا احتمال ضعيف، أو انقلاب سعودي على المبادرة الفرنسية التي تخلت عن نسختها الاولى أي سليمان فرنجية للرئاسة ونواف سلام لرئاسة الحكومة لصالح حوار بين اللبنانيين؟ السعودية لم تكن يوما مرتاحة للأداء الفرنسي في ما يخص رعاية حوار لبناني لبناني ولو تحت سقف الطائف، ولم تكن مرتاحة يوما لعلاقات الفرنسيين الوطيدة بإيران وخصوصا بحزب الله، ولم تجد ما يبعث على الارتياح ايضا في التعاطي الفرنسي المتحمس للملف اللبناني وسط تزايد الاستثمارات الفرنسية في التنقيب عن الغاز والنفط والاستثمار في اكثر من قطاع ومرفق عام.
ومن هنا يجوز السؤال عن انقلاب سعودي على فرنسا تمهيدا لطرح إسم ثالث للرئاسة الاولى غير معروف لغاية اليوم، وهنا لا يمكن اغفال الدور القطري، وهو لاعب صامت إلا أن تنسيقه مع السعوديين كبير في الملف الرئاسي اللبناني على عكس ما هو شائع. كما أن تعيين دولة قطر لسفير جديد هو سعود من عبد الرحمن آل ثاني في هذه المرحلة من الشغور الرئاسي أمر ذي مغزى، علما بأن السفير الجديد يصل الى لبنان نهاية آب\اغسطس الحالي.
وبما أن لبنان، هو صندوق للرسائل الاقليمية، فلا يمكن اغفال البعد الخارجي للبيان السعودي، وخصوصا في ظل تعثر فتح السفارة السعودية في طهران، وتجميد ترميم السفارة السعودية في دمشق ، وعدم التوصل الى حل سياسي في اليمن، والنزاع المتجدد حول حقل الدرة للغاز بين الكويت وايران، وتركيز المملكة العربية السعودية على علاقاتها الدولية. فعلى سبيل المثال، بينما ينشغل اللبنانيون بتفسير البيان السعودي تستضيف المملكة العربية السعودية مؤتمر جدة حول الازمة الاوكرانية في حضور أكثر من 40 دولة بينها الولايات المتحدة الاميركية.
بالمختصر، عاد الاشتباك الاقليمي ليشتد في لبنان عبر رسائل قوية في صندوق البريد اللبناني، ويبدو بأن الرئاسة الاولى ستكون على صفيح ساخن. إن الاتفاق السعودي الايراني متعثر وخصوصا في شقه الامني السري ما انعكس تجميدا لفتح السفارات في طهران ودمشق. وفي لبنان، المرتبط بالاقليم ثمة مخاوف امنية حيث نفوذ ايران كبير عبر حزب الله، وحيث الاشتباك السياسي حول الرئاسة الاولى هو جزء مهم من الصراع. صحيح أن القرار السعودي طابعه أمني لكنه ينطوي على رسائل سياسية هامة أولاها للبنانيين بألا يتفاءلوا بالاتفاق السعودي الايراني، وثانيها لايران وحليفها الرئيسي حزب الله بأن السعودية لن تتهاون في تسهيل اي حل في لبنان وخصوصا لجهة مباركة رئيس للجمهورية يطمئن ايران والحزب، وينطوي التشدد السعودي ايضا على رسالة الى فرنسا، مفادها ان تنسى خيار سليمان فرنجية كليا وان تعطي مساحة العمل للمملكة على طريقة الامير محمد بن سلمان.