“مصدر دبلوماسي”-كتبت مارلين خليفة:
تواصل جمهورية الصين الترجمة العملية لروحية “طريق الحرير” القديم سواء في سياساتها الداخلية أو الخارجية على حدّ سواء، وقد ترجمت هذه السياسة التي تلخّص بالسلام والتعاون والانفتاح والشمول والتعلّم والمنفعة المتبادلة في الإنجاز الصيني الذي يمكن وصفه بـ”الفتح الدبلوماسي” في منطقة الشرق الاوسط عبر النجاح بضمان مصالحة تاريخية بين المملكة العربية السعودية من جهة وإيران من جهة ثانية، في سياسة ينتهجها الرئيس الصيني تشي جين بينغ منذ وصوله الى الحكم كرئيس للبلاد مطلع العام 2013، وقد زار تشي الشرق الاوسط وتحديدا المملكة العربية السعودية ومصر وايران في العام 2016، ومذذاك بدأت رحلة طريق الحرير الدبلوماسية الصينية النقيضة لطريق المواجهة وترسيخ العداوات بين الدول بهدف السيطرة عليها والتي تعتمدها بحسب ما تشير أصابع الصين وحلفائها الولايات المتحدة الاميركية والغرب بشكل عام.
الصين دولة صديقة للعالم العربي ولقضيته المركزية أي القضية الفلسطينية، كانت اسرائيل اول دولة اعترفت باستقلال الصين الجديدة في العام 1949 لكن الصين كانت آخر دولة تعترف بدولة اسرائيل في العام 1992 إثر اتفاقيات مدريد. قد تكون هذه المقدّمة ضرورية، في حين أن لبنان لم يعترف باستقلال الصين سوى في العام 1971، إثر عودة الصين الى مقعدها في الأمم المتحدة بعد خروج مندوبها لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الصينية.
على هذا المنوال، بالموقف المتفرّد والمستقل وغير المصطف في ركب السياسة الغربية لأننا “بلد شرقي” كما يردد الدبلوماسيون الصينيون باعتزاز، تقارب الصين كافة القضايا الداخلية والدولية. ولعلّ شوكة تايوان المزروعة من قبل الغرب في خاصرة الصين خير دليل.
إن قضية تايوان داخلية تتعلق بوحدة الصين، هي الصين الواحدة المعترف بها دوليا التي يحاول الغرب ضربها عبر الربط غير المنطقي بين مسألة تايوان وقضية اوكرانيا بحسب أوساط دبلوماسية صينية واسعة الاطلاع تحدثت الى موقع “مصدر دبلوماسي”. وتعتبر هذه الاوساط الصينية الرفيعة بأن محاولة الربط هذه تهدف الى احتواء الصين. “يعرف الاميركيون بأن الوضع في أوكرانيا مؤلم ولكنّه مؤقّت، إلا أن الصين ستكون تحدّيا مهما لهم على المدى البعيد”.
في آخر زيارة قام بها وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الى بكين في 18 حزيران\يونيو 2023 والتقى خلالها الرئيس الصيني تشي جين بينغ وكبار المسؤولين سمع كلاما واضحا وصريحا: إن العلاقات الصينية الاميركية هي في أدنى مستوياتها منذ إنشائها في العام 1978، لكن العالم يتّسع للجانبين ويجب أن ترتكز العلاقات بين البلدين الى الاحترام المتبادل والتعايش والكسب المشترك وهي قيم اتفق عليها الرئيسان الصيني تشي جين بينغ ونظيره الأميركي جو بايدن إبان اجتماع قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في جزيرة بالي في أندونيسيا في تشرين الثاني\نوفمبر 2022.
وإذ تؤمن الصين بأنه يجب تقوية هذه المبادئ في السياسة الدولية، إلا أن الولايات المتحدة الاميركية تواجهها بسياسة الاحتواء وخصوصا في الاقتصاد والتكنولوجيا، حيث تعتبر واشنطن بأن بكين تشكل التحدي الأكبر لها، نظرا الى مكانتها وقدرتها على التنمية الداخلية من جهة، وبسبب مقاربتها للتحديات الدولية ما يشكل خطرا على “الهيمنة الاميركية” بحسب التعبير الصيني.
بالرغم من اعلان الاميركيين مرارا في دراساتهم وعبر محللين استراتيجيين تابعين لهم وفي أوراق وزارة الخارجية الأميركية بأن الولايات المتحدة الأميركية لم يعد لديها اهتمام بمنطقة الشرق الاوسط، وانها تتجه الى احتواء آسيا والصين تحديدا، إلا أن الصينيين لا يصدقون ذلك. برأي الاوساط الصينية الرفيعة بأن الولايات المتحدة الأميركية لن تترك منطقة الشرق الاوسط لشعوبها، بل ستعمل فيها عبر حلفائها من جهة وعبر زرع العداوات الدائمة بين الدول.
هذه الرؤية الصينية، وجدت مثالها الحي في العداوة السعودية الايرانية التي طبعت العقدين الأخيرين، وبين قطر ودول الخليج، وبين سوريا ودول الجوار في المنطقة.
تعتمد الصين سياسة خارجية مختلفة جذريا، ترتكز الى “تحسين العلاقة بين الاصدقاء في المنطقة ونشر افكار السلام والاستقرار وهما اساسيان للتنمية وهذا ما تحتاجه شعوب المنطقة”.
تمكنت الصين من نقل افكارها البناءة الى أذهان الحكام في المملكة العربية السعودية وإيران، فكان ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ومهندس رؤية 2030 أول من تلاقى مع هذا التقليد الصيني الشرقي القديم المتمثل بالسلام وتصفير المشاكل، فسار على طريق الحرير القديمة متبعا السياسة الشرقية وهي طريق السلام والتجارة والثقافة وليست طريق الحرب والاستعمار.
استخدمت الصين فلسفتها في اقناع السعودية وايران معتبرة بأن لا أحد يمكنه الغاء الآخر، لكن قبل الوصول الى مرحلة التوقيع الاخيرة بين البلدين في بكين وتحديدا في 10 آذار 2023، كان الرئيس الصيني تشي جين بينغ قد وضع اسس هذه العلاقة أثناء أول جولة له في الشرق الاوسط في العام 2016 والتي شملت المملكة العربية السعودية ومصر وإيران في محاولة لنثر بذور التوازن بين دول المنطقة. لم يتأخر تشي في زيارة منطقة الشرق الأوسط إلا بسبب أجندته المنتفخة بالملفات الداخلية الصينية والخارجية وبالقمم الدولية ومنها قمة الباسيفيك ومجموعة العشرين، ولأن الزيارات الرسمية لرئيس الدولة الصينية هي محددة بعدد معين سنويا، وكانت لديه اولوية الاسفار الى الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا وروسيا.
عقدت الصين بعد هذه الجولة لرئيسها شراكات استراتيجية مع الدول الخليجية وفي طليعتها المملكة العربية السعودية وايضا مع مصر ومع ايران، فتطورت العلاقات في العقد الاخير بشكل ملموس، هكذا نشأ منتدى التعاون الصيني العربي وهو اطار كبير لتنمية العلاقات والتعاون السياسي والاقتصادي والثقافي، وواكب التطور إيجاد إرادات مستقلة واستراتيجية من دول المنطقة، واكبت التغير الكبير في العالم.
نعود الى الانجاز الدبلوماسي الكبير في منطقة الشرق الاوسط والذي قلب كل المقاييس التي اعتمدها السياسيون والدبلوماسيون والاعلاميون طيلة اكثر من عقد حيث غذّت العداوة السعودية الايرانية احزابا وقوى ومؤسسات وأقلام ومحطات، فجأة سقط الجدار الفاصل بين أقوى دولتين اقليمتين برعاية صينية ليبدأ مسار المصالحة. بدأ هذا القطار إبان زيارة الرئيس الصيني تشي جين بينغ الى المملكة العربية السعودية في نهاية العام 2022 حيث انعقدت ثلاث قمم: الصينية والخليجية والعربية. بعد عودته، دعا تشي الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي الى بكين. لا يزال الصينيون لغاية اليوم، يتكتمون عن تفاصيل الاجتماعات التي توّجت ببيان مقتضب يعلن المصالحة، لكنهم يعربون بأن الرئيس تشي لعب الدور الرئيسي في التقريب بين الدولتين بدبلوماسيته المنبثقة من الفلسفة الصينية التقليدية والقائمة على أن السلام هو أهم مبدأ في العلاقات الدولية، والتي شرح عنها الكثير إبان زيارته للرياض واثناء استقباله ايضا للرئيس الايراني، فلقي الايجابية من الطرفين السعودي والايراني، حينها أمسك الدبلوماسيون المعنيون في وزارة الخارجية الصينية بالملف. إحدى المرتكزات التي انطلق منها الرئيس تشي غير الفلسفة الصينية التقليدية تتعلق بعدم وجود مصلحة صينية بل مصلحة مشتركة للسعوديين والايرانيين، والصين تفيد من ذلك بطبيعة الحال، وأكثر ما أنجح المصالحة هو توقيتها الصائب بعد أن تعب الجانبان السعودي والايراني من العداوة المزمنة، فراحا يفتشان عن طريق المصالحة فجاءت الرعاية الصينية في الوقت الصحيح.
لم يخبر الصينيون الاميركيون بوساطتهم، ” لا نعتقد أنهم كانوا يعلمون” تقول الاوساط الصينية لموقعنا. تنبع أهمية الاتفاق بحسب الصينيين من اهمية الدولتين اللتين انضويتا فيه، ولأنه شكّل فعليا نموذجا للتسوية وللمصالحة بين الدول المتناحرة، وهو أدى الى كرّ سبحة المصالحات: مصر وايران، مصر وتركيا ثم عودة سوريا الى مقعدها في جامعة الدول العربية. هذا من الناحية السياسية، وسيؤثر هذا الاتفاق حتما في المجالات الاقتصادية والثقافية.
صحيح أن الصين تعتبر بأن المملكة العربية السعودية وإيران هما المعنيتان بهذه الاتفاقية وتطبيقها، لكن بكين تعتبر أنها معنية بنجاحها وهي مستعدة للتدخل إن اقتضت الحاجة لتبديد أية عراقيل قد تنشأ، إذ تعتبر بأن هذه الاتفاقية ليست لمصلحة الجانبين السعودي والايراني فحسب، بل لمصلحة المنطقة برمتها.
إن الاتفاقية لم تطبق بعد بشكل ناجز، والامر واضح في تعثر حل الملف اليمني الذي لم يترجم سياسيا بعد، كذلك في سوريا ولبنان. برأي الصينيين أن اتفاقية واحدة لن تحل المشاكل كلّها في المنطقة وثمة حاجة الى وقت اطول لتجيير هذا الاتفاق للمنطقة برمتها من اليمن الى بقية البلدان حيث ان النتائج الايجابية لا تلبث ان تظهر تدريجيا مع تمن صيني بأن تصل الى لبنان وبقية القضايا التي تؤثر على استقرار المنطقة.
في هذا السياق، تعطي الدبلوماسية الصينية حيّزا واسعا جدّا للقضية الفلسطينية، حيث دعا الرئيس الصيني تشي جين بينغ الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى زيارة الصين في ثالث زيارة رسمية له، وكدليل دامغ على الاهتمام الصيني بهذه القضية العربية المركزية في المنطقة، وضرورة تطبيق قرارات مجلس الامن الدولي. الصين بطبيعة الحال مستعدة دوما للتوسط في حل القضية الفلسطينية لكنها تحتاج الى تفويض فلسطيني واسرائيلي ولكن لا يبدو بان الأمر متاح لغاية اليوم والقضية مختلفة تماما عن الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران.