“مصدر دبلوماسي”
تونكو فاراداراجان
ثماني سنوات فقط! هذا هو الوقت الذي قضاه هنري كيسنجر في الادارة الاميركية.
من يناير 1969 إلى يناير 1977 كان السيد كيسنجر أول مستشار للأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وحمل كلا اللقبين في وقت واحد لأكثر من عامين.
كان عمره 53 عامًا عندما كان يخلي اغراضه من مكتبه في مبنى وزارة الخارجية في فوجي بوتوم لإفساح المجال أمام سيروس فانس لتولي مكانه.
في العقود الأربعة ونصف منذ ذلك الحين عمل كيسنجر كمستشار في العلاقات الاستراتيجية مع الحكومات في جميع أنحاء العالم وعزز سمعته بما يتجاوز الخلاف – التي اكتسبها لأول مرة عندما شارك في قيادة الانفتاح الأمريكي على الصين في عام 1972 – باعتباره الفيلسوف البارز في العالم ورجل الدولة الأكثر أصالة وثقافة وصعوبة في عصره.
يبلغ السيد كيسنجر عامه المائة اليوم السبت، ولا تزال شهيته للعالم الذي قضى سنوات حياته يحاول تصحيح مساره قويًا.
نلتقي في مكتبه قبل أربعة أيام من عيد ميلاده، وهو يقدم دليلاً سريعًا ليس فقط على سحره بل على قدرته على العمل كدبلوماسي؛ قال لي “لم تأتِ لرؤيتي في مكتبي”، مذكّرًا بدعوة وجهها قبل ثلاث سنوات على العشاء في منزل صديق مشترك، وهو اجتماعي الوحيد السابق مع السيد كيسنجر.
كنت قد رفضت الدعوة في ذلك الوقت لأنها كانت من رجل عجوز يحاول مجاملة شخصية غريبة عنه.
كان ذلك العشاء مع تشارلز هيل، كاتب خطابات السيد كيسنجر في وقت من الأوقات ثم مستشار كبير لوزير خارجية آخر، جورج شولتز.
دفعت ذكرى مرور عامين على رحيل هيل، السيد كيسنجر للحديث عن شولتز، الذي عاش حتى بلغ مائة عام وتوفي أيضًا في عام 2021، وقال إن نهج شولتز في الشؤون الدولية “في الحقيقة لا يشابه نهجي”، مضيفًا لقد “نظر إلى الدوافع الاقتصادية، بينما كنت اهتم بالدوافع التاريخية والأخلاقية للأشخاص المعنيين “.
ما يراه السيد كيسنجر عندما ينظر إلى العالم اليوم هو حالة “عدم النظام”، ويقول إن جميع “الدول الكبرى” تقريبًا “تسأل نفسها عن وجهتها الاساسية ومعظمها لا تملك توجهًا داخليًا، وهم في طور التغيير أو التكيف مع الظروف الجديدة “- والظروف الجديدة ،بحسب كيسنجر، هي عبارة عن عالم تمزقه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.
البلدان الكبيرة مثل الهند، وكذلك الكثير من البلدان “التابعة” بحسب كيسنجر “ليس لديهم وجهة نظر سائدة عما يريدون تحقيقه في العالم” بل يتساءلون عما إذا كان ينبغي عليهم “تعديل” تصرفات القوى العظمى (وهي كلمة يقول السيد كيسنجر إنه يكرهها) أو ان تكافح من أجل تحقيق “درجة من الاستقلالية” عن هذه القوى.
تصارع بعض الدول الكبرى مع هذه الخيارات منذ “كارثة تدخل السويس” في عام 1956.
فبينما اختارت بريطانيا التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة بعد ذلك، اختارت فرنسا الاستقلالية الاستراتيجية، ولكن من النوع “الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة الأمريكية في الأمور التي تؤثر على التوازن العالمي “.
أدت الرغبة الفرنسية في تحديد سياستها العالمية بشكل مستقل إلى إثارة الارتباك مع زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بكين.
بينما يقول النقاد إنه حاول “ان يعمل قوادًا” للصينيين، يرى السيد كيسنجر ان ما قاله ماكرون هو مثال واضح على الاستقلال الاستراتيجي الفرنسي في السياسة الخارجية: “من حيث المبدأ، إذا كان عليك أن تنفيذ السياسة في العالم الغربي، فأنت تريد أن يسألك الحلفاء عن المساهمة التي يمكنهم تقديمها لك من اجل دعمك في الاتجاه الذي تسير فيه دوليًا، ولكن هذه ليست الطريقة التي تشكلت بها الدول، ولذا فأنا متعاطف مع نهج ماكرون”.
لا يزعجه أن ماكرون لدى عودته من بكين، دعا زملائه الأوروبيين إلى أن يكونوا أكثر من مجرد “أتباع لأمريكا”.
السيد كيسنجر لا “يأخذ الأمر على محمل الجد” وإلى جانب ذلك، “أنا لست هنا كمدافع عن السياسة الفرنسية”، ويبدو أنه ينسب كلمات السيد ماكرون إلى عوامل ثقافية “النهج الفرنسي في المناقشة هو إقناع خصمهم أو نظيرهم بغبائه”.
البريطانيون “يحاولون جذبك إلى إطارهم الفكري وإقناعك، بينما يحاول الفرنسيون إقناعك بانك لم تفكر بما فيه الكفاية”.
وما هي الطريقة الأمريكية؟ يقول الرجل المشهور بسياسته الواقعية: “النظرة الأمريكية إلى نفسها هي الاستقامة” ويضيف “نعتقد أننا غير أنانيين، وليس لدينا أهداف وطنية بحتة، وأيضًا أن أهدافنا الوطنية يتم تحقيقها في السياسة الخارجية بصعوبة كبيرة لدرجة أننا عندما نطرحها للمناقشة من اجل تعديلها، فإننا نحصل على الكثير من المعارضين المستائين” ولذا “نتوقع أن تسود اراؤنا، ليس لأننا نعتقد أننا متفوقون فكريا، ولكن لأننا نعتقد أن الآراء في حد ذاتها يجب أن تكون هي المهيمنة. إنه تعبير عن المشاعر الأخلاقية القوية المقترنة بالقوة العظيمة وليس لانها طرحت من موقع قوة “.
عندما سئل عما إذا كان هذا التأكيد الأمريكي على عدم الأنانية المتأصلة يضرب على وتر حساس لدى البلدان الأخرى، سارع السيد كيسنجر إلى القول: “لا، بالطبع لا”.
وهل يقبل شي جين بينغ هذا التفسير؟ “لا لا على الاطلاق. هذا هو الاختلاف المتأصل بيننا “.
السيد شي أقوى على الصعيد العالمي من أي زعيم صيني سابق، وقد “واجه” رجلين “يريدان الحصول على تنازلات من الصين والإعلان عنها على أنها تنازلات” هما اخر رئيسين للولايات المتحدة.
من وجهة نظر السيد كيسنجر، هذا النهج هو خاطئ تمامًا، “أعتقد أن الفن هنا هو تقديم العلاقات مع الصين في اذار انها مصدر قلق مشترك يتم من خلاله إبرام الاتفاقيات لأن كلا الطرفين يعتقد أنها الأفضل بالنسبة لهما، وهذا هو أسلوب الدبلوماسية الذي أفضله “.
وبحسب تقديراته، فإن سياسة جو بايدن تجاه الصين ليست أفضل من سياسة دونالد ترمب: “لقد كانت متشابهة إلى حد كبير؛ وتتمثل هذه السياسة في إعلان الصين كخصم، ثم انتزاع التنازلات من الخصم نعتقد أنها ستمنعها من تنفيذ رغباتها الاستبدادية “.
ألا يرى السيد كيسنجر الصين كخصم؟
يختار كلماته بعناية “أرى الصين، في القوة التي تمثلها، كخصم (محتمل) خطير” وهنا يحاول كيسنجر “أعتقد ان الامر سينتهي بالصراع: لدينا مجتمعان لهما رؤية تاريخية عالمية ومختلفي الثقافة في مواجهة بعضهما البعض”.
ويميز السيد كيسنجر وجهة نظره عن وجهات نظر “الآخرين” الذين “يبدأون بافتراض وجود عداء دائم، وبالتالي يعتقدون أنه يجب مواجهته في كل مكان في وقت واحد بشأن كل قضية تنشأ”.
يعتقد السيد كيسنجر أن “الحربين العالميتين كان يجب أن تعلما الجميع أن الثمن الذي يدفعه المرء حتى باستخدام التكنولوجيا التقليدية في الحروب لا يتناسب مع معظم الأهداف التي يمكن تحقيقها” ولكن مع أسلحة اليوم، ومع “نمو الرغبة داخل كل مجتمع للتدخل في أراضي الآخر بسبب الإنترنت والبيولوجيا، فإن هذا النوع من الحرب سيدمر الحضارة”.
لمنع الحرب مع الصين؛ تحتاج الولايات المتحدة إلى الامتناع عن الخصومة الطائشة والسعي إلى الحوار “أهم محادثة يمكن أن تحدث الآن هي بين الزعيمين، حيث يتفقان فيها على أن لديهما أخطر القدرات في العالم وأنهما سيديران سياستهما بطريقة تقلل الصراع العسكري بينهما”.
سيبدو الأمر وكأنه انفراج، فقد كان كيسنجر رائداً في سياسة الحرب الباردة يقول: “على الجانب الأمريكي، يكمن الخطر في أنه في مثل هذه المناقشات سينشأ الاعتقاد بأن الصين قد تغيرت بشكل أساسي، وأننا في سلام دائم معها ويمكننا نزع سلاحنا وبالتالي أصبحنا ضعفاء”.
خطر “المسار المعاكس” هو أن “الانحرافات تؤدي إلى حرب شاملة. من المفترض أن أكون واقعيًا. هذا هو إيماني الواقعي “.
يقول السيد كيسنجر إن تشارلز هيل، الذي ساعده في وضع كتابه “النظام العالمي” عام 2014، سيقول إن الموقف الصيني “لا يمكن إصلاحه؛ لكنني أقول، حتى لو كان هذا صحيحًا، فمن الأفضل أن ندخل في موقف الصراع من باب اننا حاولنا كل بديل يمكن تصوره بخلاف الاسترضاء؛ لذا فهذه ليست عقيدة استرضائية “.
يعترض السيد كيسنجر عندما سئل عن التنازلات التي قد تتوقعها الولايات المتحدة من الصين “أنا لا أقول الآن أي من مواقفهم التي يجب أن يغيروها فأنا لا أنظر إلى الأمر بهذه الطريقة”.
ويقر بأن لدينا “مشكلة” في بحر الصين الجنوبي: “أود أن أرى ما إذا كان بإمكاننا إيجاد طريقة ما لحل ذلك ضمن صيغة”(حرية الملاحة في المياه الدولية)، وإذا لم نتمكن من ذلك، فستكون هناك مواجهات”.
كيسنجر يصف تايوان بأنها “مشكلة غير قابلة للحل” و “لا حل لها سوى الوقت” ولذلك فإنه “يرحب بصيغة تحافظ على الوضع الحالي لفترة سنوات، حيث يمكن على سبيل المثال الا يصدر الجانبان تهديدات ضد بعضهما البعض، أو القيام بوضع قيود على الانتشار العسكري الموجه ضد بعضهما البعض” ويجب أن يتم “صياغة ذلك بعناية، حتى لا نقول إننا نتعامل مع تايوان كدولة، لكن هذه اهداف يمكن تصورها ولا اقول انها قابلة للتحقيق “.
يعتقد السيد كيسنجر أن السيد شي سيكون منفتحًا على مثل هذه المناقشات – ولكن “ليس إذا جئنا إليه وقلنا: عليك أن تبين لنا التقدم في المجالات العشرة التالية وبعد ذلك سنكافئك”.
وعندما سئل عن حجم طموحات الصين، قال: “لا أعتقد أنهم يرغبون في نشر الثقافة الصينية في جميع أنحاء العالم”، إنهم يسعون إلى “الأمن”، وليس الهيمنة على العالم، لكنهم يتوقعون أن يكونوا القوة المهيمنة في آسيا؛ فهل يُتوقع من الهند واليابان قبول ذلك؟ يقول كيسنجر: “الموقف المثالي هو أن تكون الصين قوية بشكل واضح لدرجة أن ذلك سيحدث من خلال منطق الأحداث”؛ ويتوقع أن اليابان، “سوف تطور أسلحة الدمار الشامل الخاصة بها” ردا على ذلك، ويتوقع كيسنجر إطارًا زمنيًا يمتد ما بين “ثلاث أو خمس أو سبع سنوات” ليحدث ذلك، ويؤكد: “أنا لا أحث اليابان على القيام بذلك، وإذا كان بإمكانك، يجب أن توضح ذلك في مقالتك، فانا أحاول تقديم تحليل لما يجري”.
يعتمد العالم الحر على قيادة الولايات المتحدة كما هو الحال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن السيد كيسنجر قلق ويبرر ذلك القلق بالقول “ليس لدينا وجهة نظر استراتيجية كبرى، لذا يجب انتزاع كل قرار استراتيجي انتزاعامن هيئة سياسية لا تفكر عضوياً في هذه المساحات”.
عندما تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية، فإنها تميل إلى “الدخول فيها على أساس المبالغة في المبادئ الأخلاقية، والتي نطبقها بعد ذلك على كل دولة في العالم بنفس القوة”.
أمريكا لها قوتها وعند تعرضها للتحدي يكون “حشد الموارد لمقاومة التحدي أمرًا سهلاً نسبيًا”، لكن في حالة وجود تهديدات “فأنه يتم تفسير هذه التهديدات من منظور الحروب المادية. لذلك حتى يقترب هذا الصراع، يكون من الصعب التعبئة ولذا فإن العمل على أساس التقييم والتخمين أصعب في أمريكا منه في البلدان المماثلة”.
يعتقد السيد كيسنجر أن إدارة بايدن فعلت “أشياء كثيرة” بشكل صحيح ويقول: “أنا أدعمهم في أوكرانيا” مضيفًا “من وجهة نظري، لقد كسبنا حرب أوكرانيا، من باب منع هجوم روسي اخر على دول حليفة في أوروبا حيث اصبح من غير المرجح أن يحدث ذلك مرة أخرى”، لكن هناك “أخطار أخرى يمكن أن تبرز من روسيا؛ فبينما ننهي الحرب، يجب أن نضع في اعتبارنا أن روسيا كان لها تأثير كبير على المنطقة امتد لمئات السنين، حيث ظلت موسكو عالقة في تناقضاتها الخاصة التي تراوحت بين الإعجاب بنفسها ومشاعر الدونية و الخشية من الخطر القادم من أوروبا” ويقترح كيسنجر أن هذا التناقض كان وراء هذه الحرب: “أعتقد أن عرض انضمام أوكرانيا إلى الناتو كان خطأ فادحًا وأدى إلى هذه الحرب. لكن حجم الحرب وطبيعتها خصوصية روسية، وكنا محقين تمامًا في مقاومة ذلك”.
كيسنجر يعتقد الآن أن أوكرانيا – “الدولة الأفضل تسليحًا في أوروبا” – تنتمي إلى منظمة حلف شمال الأطلسي “أنا في موقف مثير للسخرية لانني كنت وحدي عندما عارضت عضويتها، وساكون وحدي تقريبًا عندما أدافع عن عضويتها في ظل ظروفها الجديدة الان”.
يود كيسنجر أن تشمل شروط نهاية الحرب عودة جميع الأراضي إلى أوكرانيا باستثناء شبه جزيرة القرم المثير للجدل “بالنسبة لروسيا فإن خسارة سيفاستوبول، التي لم تكن دومًا أوكرانية تاريخيًا، ستكون بمثابة عاصفة تجعل تماسك الدولة في خطر وأعتقد أن هذا غير مرغوب فيه للعالم بعد حرب أوكرانيا”.
لا يترك السيد كيسنجر أدنى شك في أنه يؤمن بالسلام الأمريكي وبضرورة “الدفاع عن مناطق العالم الضرورية لبقاء أمريكا والديمقراطية” لكنه يقول إن القدرة على “تنفيذ ذلك سياسيًا”، قد “تراجعت بشكل حاد، وهذه هي مشكلتنا المهيمنة الآن”.
يعزو هذا الضعف السياسي إلى تراجع الإيمان داخل الولايات المتحدة بطموحاتها ومؤسساتها التاريخية قائلًا: “لم يتبق لنا شيء من الفخر والتوجيه والهدف” بينما يتصارع القادة الأمريكيون مع القلق الناجم عن أحداث وقعت “قبل 300 عام”.
إلى جانب ذلك، لا يوجد هدف مشترك كاف ومبدأ عبر الانقسامات الحزبية وهذا يضعف العزيمة الديمقراطية والقدرة على العمل من أجل المصلحة الوطنية المشتركة “حتى في أيامنا هذه، كان من الممكن التحدث إلى مجموعات من أعضاء مجلس الشيوخ وعدم ضمان القبول، ولكن ضمان بعض الاستعداد” لإيجاد أرضية مشتركة.
إن فريقًا عابرا للحزبية مثل ذلك الذي شكله الرئيس الديمقراطي هاري إس ترومان ورئيس لجنة العلاقات الخارجية الجمهوري بمجلس الشيوخ آرثر فاندنبرغ من اجل العمل معًا لإعادة بناء أوروبا والفوز بالحرب الباردة، سيكون شيئًا بعيد المنال اليوم.
يعتقد السيد كيسنجر أن “هذا النوع من العمل العابر للحزبية هو المطلوب اليوم”، وأنه يتعين علينا إيجاد طريقة لإعادة إنشاء الأشكال القديمة من التعاون الوطني “يجب أن يكون هناك شيء ما، وعلى مستوى ما، يتحد فيه المجتمع بشأن احتياجات وجوده”.