“مقالات مختارة”
وسام أبو زيد
وكالة “وفا”
لست بحاجة إلى التركيز ولا التمعن كثيراً لكي تدرك أنك أمام امرأة فلسطينية عمرها أكبر من عمر دولة الاحتلال وأصالتها أقوى من تصنّع المحتل، تعيش في داخلها ذكريات الآباء والأجداد التي عاشتها وعايشتها في قريتها “البصة” قضاء عكا بفلسطين.
إنها وفيقة الجمل “أم علي”، ابنة الشهيد القائد توفيق نمر الجمل، الذي استشهد عام 1936.
هرم الجسد ولكن الذاكرة ما زالت قوية ومتوقدة، فهي تتذكر كل لحظة وذكرى من طفولتها وشبابها، ذلك الشباب الذي تستذكره بحسرة وألم وحنين، ما زالت تحفظ الأسماء والحارات وأماكن اللعب، وغدير الماء، والبستان والزيتون والرمان وشجر الليمون والبيدر، وما زالت تحافظ على أصالتها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها رغم قهر اللجوء الطويل.
تجلس أم علي (90 عاما) بين أبنائها وبناتها وأحفادها وزوجها الذي أنهكه المرض وسنين اللجوء، لتستذكر حارتها بحنين وشغف كأنها أمامها الآن، حارتها التي تضم المسلمين والمسيحيين، تستذكر “الين عيسى توما” والست “اوتيليا”.
وقالت الحاجة وفيقة: “كنا نتعاون بالأفراح مسلمين ومسيحيين، لأن العادات والتقاليد هي ذاتها كانت واحدة موحدة، وحين كنا ندخل الكنيسة كنا نقول “يا كنيستنا يا مبرهجي اجاكي العريس قومي ارهجي” وبجانب الكنيسة كان هناك مقام “سيدنا الخضر”، وكنا نحتفل بكافة المناسبات مسلمين ومسيحيين وننقلها من حارة إلى حارة.
“كان التعايش الإسلامي المسيحي سيد الحال والموقف، كنا عائلة واحدة في قرية واحدة في بلد واحد وفي وطن واحد، وكانت رائحة الكعك بعيد الفصح تفوح من بيتنا فتعتقد أننا مسيحيين، كنا نذهب إلى سد (المشيرفة) شباباً وشابات لنسبح فيه، وفي سوق القرية (البصة) كان هناك كنيسة وجامع، وكان الناس يأتون إلينا من لبنان، وكانت الأضاحي في العيد أمام دكان “فريد بربر” الذي تهجر معنا إلى لبنان.” قالت وفيقة.
وأضافت: “جاء الاحتلال البريطاني الذى أتى بالصهاينة الذين حاصروا بدورهم القرى والمدن ونكلوا بأهلها مسلمين ومسيحيين، وكان والدي من ضمن ثوار (البصة)، قصّت جدتي لي أن أبي وسبعة رجال من رفاقه كانوا مطاردين ولم تكن تراهم إلا نادراً، فقد كان أبي يأتي في الليل ليرانا ويطمئن علينا ثم يغيب.”
وتستذكر: “حصلت معركة على حدود (البصة)، حيث قام أبي ورفاقه بتنفيذ كمين للجيش البريطاني والعصابات الصهيونية، ووقعت معركة استخدم فيها البريطانيون القصف الجوي، استشهد ابي ورفاقه، بقي الشهداء في أرض المعركة حتى أتى (عرب الطوقية) ونقلوهم الى مغارة بقوا فيها سبعة أيام، الى أن استطاع (الجَمّالة) نقلهم بعد أن وضعوا العشب عليهم (الخرفيش)، وسلمونا جثامينهم”.. قالت جدتي: “كان الدم والعرق على جسمهم وكأنهم مستشهدون اليوم”.
وفي سردها للحكاية، تقول الحاجة وفيقة “أم علي” إن عمها فايز الجمل “أبو زكي” قائد “النجادي” مع ميخاييل شكري، لعبوا دوراً في تعبئة الشباب والتواصل مع الحاج أمين الحسيني.
“تصدى الشباب للهجوم الذي حدث على القرية عام 1948، خرجت النساء والفتيات هربا من القتل إلى لبنان، المسيحيون من قريتنا ذهبوا الى (علما) والمسلمون مكثوا في (الناقورة)، كان الصهاينة اذا دخلوا قرية دمروها، استشهد معظم شباب (البصة) في هذه المعركة”، أضافت “أم علي” التي روت أنها جاءت الى لبنان مشياً على الاقدام هرباً من القتل والبطش والتنكيل، حاملة هي وعائلتها الأمل بالعودة.
وفي سيل الحكايات الطويلة لـ”أم علي”، تقول: “استقبلَنا السيد أبو خضر المصري اللبناني، وبقينا بضيافته حتى بدأ الفلسطينيون التجمع في مخيمات، مشينا من سهل القليلية ونمنا عدة أيام عند السيد إبراهيم سلمان، وزعوا لنا الخيم في “الرشيدية”، من ثم توزعنا إلى سوريا وطرابلس ومناطق أخرى، وتشتتت العائلات.
وتشير إلى أن أباها استشهد في فلسطين وأمها ماتت ودفنت هناك كذلك الأمر بالنسبة لأشقائها، وتقول: “أنا يتيمة وأتمنى أن أموت وأن يدفنوني في فلسطين قرب عائلتي وفي وطني، هناك أناس ذهبت وزارت قبور الشهداء التي ما زالت هناك في قريتي “البصة”، وأنا أتمنى أن أزور قبري أبي وأمي.. أريد أن أقول لأحفادي ولكل الشعب الفلسطيني إن فلسطين أمانة، وأرجو أن تعيدوا رفاتنا إليها بعد التحرير، وأن تدفنونا هناك، وأنا وقد تجاوزت التسعين عاما من عمري، أشعر أن أجلي قد اقترب.. أشعر أنني سأدفن هناك في وطني فلسطين، ونتمنى من الله النصر والعودة قريبا”.