مارلين خليفة
ثابر اللواء عباس إبراهيم طيلة أعوام تسلّمه مهامه كمدير للأمن العام اللبناني على تقديم الأمن النظيف المُسخّر لخدمة المواطن، لذا يستحق أيضاً لقب “الأمني النظيف”.
من صفات اللواء عباس إبراهيم أنّه لا يُقدّم وعوداً لا يمكنه الإيفاء بها، فإمّا يعمل أو لا يقبل المُهمّة، يتميّز بالصمت، ولا يتكلّم إلا بعد إنجاز المُهمّة الموكل بها. هو «يعمل أكثر ممّا يتكلّم، يُدير العمليات بدقّة، ومهما كانت المُهمّة الأمنية شائكة ومُعقّدة، فإنّه يحافظ على هدوئه، ويضع أعصابه في الثلاجة، وهذه صفة تُريح فريق العمل الذي يعاونه في المهام، فيشعر بأريحية أكبر في اتمام المطلوب» حسب ما يقول أحد كبار الضبّاط الذين يعرفونه بشكل وثيق.
لا يتّصف اللواء إبراهيم بالفوقية والقساوة والعجرفة، التي يتميّز بها بعض الرؤساء الأمنيين عادة، يوجد قرابة الـ700 ضابط في الأمن العام اللبناني، وكل واحد منهم يُنفّذ مهامه ضمن نطاقه، وجميع الضبّاط سواء الذين هم على تواصل مباشر معه، أو الذين ليسوا كذلك يبدون مرتاحين في العمل وفي إتمام أي مُهمّة مهما كانت طبيعتها.
لا يؤنّب اللواء إبراهيم الأشخاص الذين يعملون معه، يلمّح إلى أخطائهم دون أن يجرحهم، «هو لا يحب جرح أحد ويتعامل بروح دبلوماسية عالية، لكنّه حازم جدّاً في عمله».
أبرز ما ميّز ولاية اللواء إبراهيم في الأمن العام اللبناني، هو عزمه على تطبيق صلاحيات الأمن العام اللبناني كاملة دون انتقاص. لم يكن الأمن العام، وهو ضابطة عدلية، يحظى باعتراف القضاء اللبناني.
مثال على ذلك، ما يرويه أحد الضبّاط المخضرمين «أنّه عند تسلّم اللواء إبراهيم مهامه وقعت حادثة أمنية مُحدّدة، فقام عناصر الأمن العام بالاتصال بقوى الأمن الداخلي لحل الموضوع!». هذا الأمر أوقف كلياً منذ اليوم الأول.
يوماً، كشف الأمن العام اللبناني عن خلية لتنظيم «داعش» الارهابي، وذلك في أوائل العام 2012، فتم الاتصال من ضبّاط الجهاز بأحد القضاة للمراجعة فسأل: «شو خصّكم بهالموضوع؟ وطلب إحالة الملف إلى مخابرات الجيش».
لكن اللواء إبراهيم رفض ذلك، وفرض احترام عمل الأمن العام كضابطة عدلية، دون أن يعكّر صفو التعاون والعلاقات الممتازة، سواء مع مخابرات الجيش اللبناني او مع بقية الأجهزة الأمنية.
عمل باللحم الحي
«اشتغل اللواء والضباط في هذا الجهاز باللحم الحي، في بداية تسلّمه كان الجهاز مجرّداً من كل شيء حتى من الآليات» يروي الضابط المذكور. قام اللواء إبراهيم بالعمل على مرسوم جديد أقر في مجلس الوزراء اللبناني، تمكن من خلاله من زيادة عديد الأمن العام اللبناني من 3500 إلى 8000 عنصر وضابط، وجعل الجهاز وقائده يمارسون كل الصلاحيات المنوطة بهم بقانون الأمن العام، لم يتوانَ عن القيام بأي مهمة على غرار ما كان يقوم به في يفاعه: «كان من أوائل الضبّاط المندفعين، يضرب يده على صدره لتنفيذ أي مهمة توكل للكتيبة التي هو في عدادها، وقد ترجم رصيده العسكري في الجيش اللبناني في أدائه في الأمن العام اللبناني».
يقول الضابط: «حين جئنا إلى هذه المؤسسة لم يكن من شيء إسمه أمن، يعني الأمن التنظيم المحكم والهيكلية الأمنية الواضحة، وجزء منها الأمن المسلكي. مثلاً كان يطلق على عناصر الأمن العام تسمية «الموظفين»، وهذا ما تم إلغاؤه، قام اللواء إبراهيم بتغيير النهج السائد وأحدث انقلاباً في العقلية والمفاهيم السائدة، هو جاء مع معاونيه من كبار الضباط من مدرسة الجيش اللبناني، حيث التفكير مختلف، واستكمل هيكلية الأمن العام بحسب مواصفات المدارس الأمنية الكبرى في الخارج. أنشأ وحدة عسكرية هي الرصد والتدخل، وهي نسخة عن وحدة المكافحة في الجيش والقوة الضاربة في «المعلومات». شكّلت هذه الوحدة الذراع التنفيذية للقيام بالمهام التي يرصدها ويخطط لها العقل الأمني في الأمن العام اللبناني في الغرف الأمنية وعلى رأسها اللواء إبراهيم، ألقت هذه الوحدة القبض على خلايا ارهابية وزادت الانتاجية الأمنية بشكل ملموس في عهده، بينما في السابق كان الشق الأمني موجوداً ضمن صلاحيات الأمن العام اللبناني لكنه غير مفعّل».
اهتمام بالإدارة
لم يكتفِ اللواء إبراهيم بتفعيل الشق الأمني، بل اهتم أيضاً بالإدارة، فعكف مع معاونيه من كبار الضبّاط على زيارة المراكز على كامل الجغرافيا اللبنانية، زاد العديد وكان ينوي إيصاله إلى 11 ألفاً. وضع خطتين خماسيتين لتطوير المؤسّسة طبّق بعضها والبعض الآخر لم يلقَ تجاوباً من الادارة السياسية. طلب التطويع وتمويل بناء بعض المراكز، لكن الدولة لم تتجاوب في كل الامور. حوّل السجن الواقع تحت الارض قرب العدلية، وهو نظارة لتوقيف المطلوبين إلى نظارة عصرية فوق الأرض قرب ساعة العبد، وكان اللواء إبراهيم أسماه حينما عاينه «سجن العار».
زار نقطة الأمن العام عند معبر العبودية ليلة عيد الميلاد، واكتشف أنّ مركز الأمن العام يبعد عن الحدود قرابة الـ8 كلم، فطلب نقله ليكون محاذياً تماماً للحدود، وهذا ما تمّ، الأمر سيان بالنسبة إلى مركز القاع، لكن مركز المصنع لم ينل موافقة السلطات السياسية.
نقل اللواء إبراهيم إلى ضبّاطه وعناصره مفاهيم أمنية جديدة، من الأمن الاستباقي، لكن أيضاً في حسن السلوك، طالباً أنْ يقرأ هؤلاء في كتاب الإنسانية والخدمة والأخلاق، فيكون التعاطي مع المدنيين من باب الواجب وليس المِنّة، وجّه بأنْ تبقى كل مراكز الأمن العام اللبناني مفتوحة في المناطق اللبنانية كافّة، وألا يتم ردّ طلب مواطن. يؤمن بأنّه إذا لم يبدأ الأمن بالذات لا يمكن النجاح بالأمن الخارجي، فعّل وحدة التدريب فنظّم دورات متخصّصة قدّمها أجانب وأرسل ضباطاً وعناصر للتدرّب في الخارج في أوروبا والولايات المُتّحدة الأميركية وسواها.
قام اللواء إبراهيم بمهام خطرة بقيت بتفاصيلها بعيدة من الإعلام، خصوصاً في عملية جلب جثث 18 عنصراً من الجيش قتلتهم «داعش»، ذهب إلى عرسال شخصياً وهو يردد دوما أن ليس من مهمة تنفذ وتنجح بالمراسلة، نقل هذه العقلية إلى فريقه.
شهداء للأمن العام
لأوّل مرّة في تاريخ الأمن العام سقط شهداء لهذا الجهاز أثناء قيامهم بمهام أمنية، في السابق سقط شهداء إبان الحرب الأهلية. في حزيران من العام 2014، استشهد المفتّش الثاني في الأمن العام اللبناني عبد الكريم حدرج وجُرِحَ رفيقه علي جابر.
استشهاد حدرج جاء خلال عملية نوعية نفّذها في منطقة الطيونة بعد أنْ أوقف ورفيقه سيارة يقودها إرهابيون بأحزمة ناسفة فانفجرت، وتطاير حدرج أشلاء، وفي العام 2021 أعطى اللواء إبراهيم توجيهاته باطلاق اسم الشهيد حدرج على مركز الأمن العام اللبناني في منطقة الغبيري تخليدا لذكراه.
في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 كان اللواء عباس إبراهيم يجلس على شرفة منزله مع صحافيين اثنين حين دوى الانفجار الكبير. كان أوّل مَنْ توجّه إلى المرفأ، ولحق به الصحافيون، جال في المنطقة المنكوبة، حيث كانت الجثث ملقاة على الأرض والدخان يملأ المكان في مشهد يحاكي جحيم دانتي.
كان مبنى الأمن العام منهاراً بشكل شبه كامل، توجّه اللواء إبراهيم إلى جهة الاهراءات، وكان المنظر مُرعِباً وسط أعضاء بشرية متطايرة. استشهد 3 عسكريين للأمن العام هم: المفتّش أوّل ممتاز قيصر فؤاد أبو مرهج، المفتّش ممتاز جو فرنسيس حدّاد والمفتّش ممتاز فارس جورج كيوان. «لو بقوا أحياء لكان البيطار (المحقق العدلي طارق البيطار) اتهمهم بالإهمال الوظيفي» – كما يحلو للواء إبراهيم القول أمام أصدقائه.
انفجار المرفأ عناه بالعام والشخصي بسبب سقوط الشهداء أولاً، ثم بسبب التعدّي الحاصل على الأمن العام من قبل القضاء وهو بنظره مرفوض قطعاً. وقد جعل من قضية توقيف ضابطين للأمن العام في المرفأ قضيته الأولى إلى أن تمَّ إطلاق سراحهما، وكل الجهود التي بذلت من قبل اللواء إبراهيم حصلت بعيداً من الإعلام والصخب الدعائي، وذلك احتراما للقانون، وإيمانا منه بصون المؤسّسات. هذا أكثر ما أثّر به، ثم الازمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها البلد لأنها تنعكس على المؤسّسة بشكل غير محتمل.
وفّر اللواء إبراهيم تسهيلات وحاول توفير مصادر تمويل للعسكريين من خلال الضرائب المفروضة على المعاملات المستعجلة، وُضِعَتْ إدارة لهذا الصندوق ومن خلاله يتم دفع راتب ثانٍ للعسكري غير الراتب الذي يقبضه من الدولة، بالإضافة إلى الطبابة التي تمَّ تنظيمها بحيث لم يتأثّر العسكر كله بالازمة المالية على مستوى الطبابة والاستشفاء المتوفر له ولعائلته.
أدخل الجانب الإنساني للمديرية، حيث كان يُنظَر إلى عناصر الأمن العام كجواسيس ينقلون الأخبار أو يقمعون الناس أو يُصدِرون جوازات سفر فحسب.
المواطن صاحب حق
انعكست شخصية اللواء إبراهيم الإنسانية على المؤسّسة الأمنية، وفي الكلمة التي ألقاها حين تسلّم مهامه في الأمن العام اللبناني في 18 تموز 2011، قال: «إنّ المواطن هو صاحب حق وليس طالب خدمة، وعلى هذا الأساس يتم التعاطي معه».
لم يلتزم الجميع، من هنا فإنّ عدد الموقوفين من الأمن العام كُثُر في السجون نتيجة التجاوزات أو الرشاوى إذ أثّر الوضع المالي كثيراً على سلوك العسكريين، لذا فعّل اللواء إبراهيم جهاز الأمن داخل المديرية لمراقبة أداء العسكريين والضبّاط وكتابة تقارير للمديرية ليتم ضبط التجاوزات.
وضع اللواء إبراهيم خطة تطوير خماسية لمرّتين طُبِّقَتْ كلها تقريباً، إذ تمّ افتتاح مراكز على امتداد الأراضي اللبناني، فصار للأمن العام 62 مركزاً فيما كان العدد عند استلامه للمديرية 19 مركزاً. كان عديد الأمن العام اللبناني في العام 2011 قرابة الـ3500 بين ضبّاط ورتباء فوصل في العام 2023 إلى 8 آلاف، ارتفع عدد الإناث من الضبّاط والمفتشات بشكل لافت: كان عدد الضبّاط من الإناث 8 فحسب في العام 2011 ووصل إلى 40 ضابطاً في العام 2023. أما عدد الرتيبات (مفتشات) فارتفع من 198 في العام 2011 إلى 762 في العام 2023. وبشكل إجمالي بلغ عدد الإناث 802 في العام 2023 في مقابل 206 في العام 2011.
تمَّ تطوير عمل المديرية من الناحية التكنولوجية واستخدمت برامج حديثة، لغاية الآن لم يتم إنجاز بند «أمن عام بلا ورق» – أي الرقمنة وذلك نتيجة الأزمة المالية في انتظار التمويل، وتمَّ إنشاء كلية للأمن السيبيراني، وهذا أمر استراتيجي في البلد وليس على مستوى المديرية فحسب، لأن الحرب القادمة هي حرب أدمغة ومعلومات.
يقول اللواء إبراهيم: «إنّ العولمة أحالت الكرة الأرضية إلى قرية». عند استضافته من قِبل أجهزة الدول يشجعهم على التعاون والتنسيق ويقول لهم بأن الإرهاب لا يؤمن بالحدود، ونحن كأجهزة أمنية لا يمكننا التصدّي لهذا الإرهاب في وقت يكون كل طرف منّا مُتقوقعاً في بلده، يجب ألا نؤمن بالحدود إنّما مع احترام سيادة كل بلد.
ماذا عن اللواء إبراهيم الجنوبي الشيعي؟ يعتبر اللواء إبراهيم أنّ الطائفة الشيعية هي أساس نشأته وبيئته الجنوبية هي أساس إيمانه بالمقاومة ومواجهة العدو.
ماذا عن الشيعية السياسية؟
هو لا يؤمن بها ولا بالمارونية السياسية ولا السنية السياسية، ولا أي شكل من أشكال الطائفية، بل يؤمن بالوطنية السياسية وموضوع الفرز الطائفي القائم لا يبني دولاً، وبرأيه هو سبب علّة لبنان، من هنا استحق أيضاً لقب: «اللواء العابر للطوائف».
*نشرت هذه الثلاثية بالتزامن مع صحيفة “اللواء” اللبنانية.