“مصدر دبلوماسي”
لينا أيوب
تنتشر “هستيريا” الذكاء الاصطناعي والأخبار المثيرة حوله في علاج الأمراض وتطوير الابتكارات البشرية. بمجرد إلقاء النظر على عناوين وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يمكنك أن ترى تسلل الذكاء الاصطناعي إلى جوانب حياتنا اليوميّة كافة.
في غضون سنوات قليلة، شقت نزعة حلول الذكاء الاصطناعي AI Solutionsim في الإصلاح الحكومي طريقها إلى أذهان المسؤولين وصنّاع السياسات في أنحاء العالم. وتحولت الفكرة البائسة القائلة بأن الذكاء الاصطناعي سيدمر البشرية إلى الاعتقاد بأنّه السبيل الى إنشاء عالمنا الفاضل.
كيف سيقوم الذكاء الاصطناعي بتغيير مجتمعاتنا؟
لا يوجد تقريبًا قطاع واحد قائم على أي نوع من أنواع البيانات لم يتأثر فعلًا بالذكاء الاصطناعي، وإن على نطاقٍ ضيّق وخصوصا في السنوات القليلة الماضية. حيث تحسّن جمع البيانات وسهل تحليلها بشكل كبير بفضل الاتصال بالإنترنت وانتشار الأجهزة المتصلة.
تتباين درجة تدخل الذكاء الاصطناعي في القطاعات: نرى أن بعض القطاعات قد قطعت أشواطًا في رحلة الذكاء الاصطناعي، ونجذ بأن بعضها الآخر ما زال يطأ الخطوة الأولى. ومما لا شك فيه بأن كلاهما لديهما طريق طويل!
من الصعب تجاهل تأثير الذكاء الاصطناعي وقدرته على تغيير مجتمعاتنا في كل قطاعاتها وجوانبها الاقتصادية والأمنية والأكاديمية والثقافية والبيئية والأخلاقية.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة المؤسسات؟
بدأت الروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي والخوارزميات العمل جنبًا إلى جنب مع البشر، إذا لم نقل أخذ مكانتها سواء في المصانع أو مؤسسات الرعاية الصحية والمدارس والجامعات والشركات. حيث استعرضت تقنيات الذكاء الاصطناعي عضلاتها في تشخيص الأمراض بسرعة ودقة أكبر وتسريع اكتشاف الأدوية وطرح مساعدين افتراضيين في مراقبة المرضى.
كما وصلت تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى صفوف أطفالنا عبر رقمنة الكتب المدرسية وطرح مجموعة حديثة من المعلمين الافتراضيين، وإلى داخلهت عبر تحليل وجه الطفل لتحديد إذا ما كان يشعر بالملل أو الألم أو السعادة.
واستفادت وسائل الإعلام من الذكاء الاصطناعي أيضًا بالاعتماد على تقنياته في فهم وتحليل التقارير المالية المعقدة. إذ توظف وكالة Associated Press الاميركية القدرات اللغوية الطبيعية لشركة البرمجيات Automated Insights لإصدار 3700 تقريرًا عن الأرباح سنويًا، أي ما يقارب أربع أضعاف ما كانت تصدره قبل اعتماد هذه التقنيات.
هل يمكن التحدث مع الذكاء الاصطناعي؟
إذا كنت ترغب بالحصول على أية معلومات أو بيانات أو حتى تفسيرات عن أي موضوع يهمك، تقدّم لك حلول الذكاء الاصطناعي تقنية مكالمات شبيهة بالبشر، تعمل بالذكاء الاصطناعي وتقدّم إجابات سريعة وتفصيلية. ألا تصدّق؟ جرّب شات ChatGPT الذي أطلقته مؤخرًا شركة OpenAI في مجالات عديدة.
سوف تجد أنّ برمجية “شات جي بي تي” تزود المستخدم بإجابات مفصّلة بناءً على البيانات المتوفرة لديه من خلال عمليات تدريب قد خضع لها. فتقدم إجابات طويلة تفسيرية منطقية مع قدرات تفاعلية عالية المستوى. على عكس محرك البحث غوغل الذي يقوم على فهرسة صفحات الويب وتقديم المعلومات المطلوبة من المستخدم عبر الكلمة المفتاحية، فيقدم بالتالي الروابط ذات الصلة التي تتضمن كل المحتويات المتعلقة بالكلمة المفتاحية من نصوص وخرائط وصور ومقاطع فيديو.
أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: بين المعرفة والقوة والقوننة
يقول الفلاسفة أن المعرفة جيدة ما لم نحسن استخدامها. ونظرًا لاعتبار التكنولوجيا معرفة لتقنيات ومهارات ومعارف خاصة ومحددة، لا بد من النظر إلى الجوانب الأخلاقية التي يثيرها استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي اليوم.
الذكاء الاصطناعي المعرفة
من الناحية الإيجابية، يستخدم الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في العلوم لاكتشاف كواكب خارجية جديدة من خلال تحليل البيانات التي يمكن جمعها والحصول عليها من التلسكوبات. تستخدم شركة غوغل هذه التقنيات لترشيد استهلاك الطاقة وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في مراكز البيانات الخاصة بها. وتعتمد تقنية التعرف وتحديد الهوية عبر الصور في مؤسسات الرعاية الصحية في سبيل الاكتشاف المبكر لاعتلال الشبكية الناتج عن مرض السكري.
كما استفادت الدول والمنظمات من الذكاء الاصطناعي في أنظمة الأسلحة المستقلة التي يمكنها تحديد الهدف البشري ومهاجمته عند التعرف عليه مباشرةً.
الذكاء الاصطناعي القوة
وهكذا نرى أنّ تكنولوجيا المعرفة وفرت عنصري المعلومات والسرعة في أي عملية تتدخل بها. مما ينذر بتهديد كبير في أتمتة العمل والاستغناء عن العنصر البشري في مختلف مجالات الإنتاج. بالرغم من ذلك، فإنّ التحول غالبا ما يشمل الرابحين والخاسرين. وإنّ الطريقة التي نعتمدها في إدارة هذا التحول هو الذي سيحدث فرقًا في التأثير التوزيعي للذكاء الاصطناعي لتجنب الوقوع في أزمة محتملة من عدم المساواة وغياب العدالة.
كما أنّ هذا الاعتماد بشكل ضخم على الذكاء الاصطناعي يؤدي لا محالة إلى تهديد خصوصية الفرد من خلال سهولة تحليل واستغلال البيانات الخاصة والحساسة مثل بيانات التعرف الى الوجه والبيانات الطبية. فإن جعلتني تكنولوجيا اقوم بأشياء لم يكن بوسعي القيام بها سابقا، فهذا يعني أنها تمنحني القوة. وإذا كان بإمكان البعض الوصول لهذه المعرفة ويتعذر على البعض الآخر، فإنّ هذا الواقع قد يخلق اختلالات في التوازن المجتمعي، أو على الأقل سوف يسهم في تفاقم الاعتلالات الموجودة أصلًا في المجتمع.
قوننة الذكاء الاصطناعي
لذلك، لا بد من مبادئ أساسية وأخلاقيات في استخدام الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ضمانات مؤسساتية تضمن تنفيذها على أرض الواقع. هذا مهم جدًا لحماية أنفسنا من أي سوء استخدام للتكنولوجيا المعرفة والقوة. غير أنه من المتوقع جدًا نشوء خلافات على خلفية اتباع أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي. ومن أجل التمكن من جني الفوائد وتجنب الأضرار بقدر المستطاع، يجب التفكير في كيفية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات محددة.
كما يتطلب هذا بذل الجهود للتوصل إلى وضع استراتيجية عامة لقوننة استخدام الذكاء الاصطناعي، واختيار مبادئه الأخلاقية بناءً على قرارات شرعية. ويتطلب هذا بالطبع مشاورات تقودها الدول والمنظمات الدولية تحت عنوان الاستخدام المسؤول والأخلاقي للذكاء الاصطناعي. والأهم من كل هذا، أننا، كأفراد ومؤسسات وحكومات، أن نكون على دراية بحدود الذكاء الاصطناعي، وأين يحتاج البشر لأخذ زمام الأمور.
حلول الذكاء الاصطناعي في الإصلاح الحكومي
على مستوى الدول، نرى اليوم تعهدات من الحكومات بدعم مبادرات الذكاء الاصطناعي ومنافسات في سباق التسلح التكنولوجي. فقد تعهدت حكومة المملكة المتحدة باستثمار 300 مليون جنيه استرليني في أبحاث الذكاء الاصطناعي لتمنح ذاتها الدور الريادي في هذا المجال.
كما تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتحويل فرنسا إلى مركز عالمي تنطلق منه ابتكارات الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، تبذل الحكومة الصينية جهودها في سبيل تطوير براعة الصين في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال إطلاق خطة وطنية بقيمة 150 مليار دولارًا بحلول عام 2030. تصب كل هذه الجهود وغيرها من الحكومات في سبيل الهيمنة على ثورة الذكاء الاصطناعي المستمرة ونزعة حلول الذكاء الاصطناعي التي تنشأ اليوم لتبقى وتتطور.
هل نجد الإصلاحات الحكومية في حلول الذكاء الاصطناعي؟
بينما تروج البيانات السياسية لثورة الذكاء الاصطناعي في القضايا السياسية والدولية، ينسى مطلقو هذه البيانات أنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي قائمة على شبكات عصبية. تم تصميم هذه الشبكات العصبية على غرار البنية العصبية للدماغ البشري ولكن على نطاق أصغر بكثير. تعتمد منتجات الذكاء الاصطناعي على هذه الشبكات العصبية لاستنتاج الأنماط والقواعد من كميات ضخمة من البيانات المتوفرة. ولكن ما يدركه السياسيون أنّ مجرد إضافة شبكة عصبية لأي مشكلة لا يعني أنك وجدت الحل تلقائيا، وأنّ إضافة شبكة عصبية لأي نظام ديمقراطي، لا يعني أن الشعب سينعم بالنزاهة والشفافية.
هل يمكن تفعيل الذكاء الاصطناعي في القطاع العام؟
تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى بنية تحتية ضخمة من البيانات لتفعيلها، سواء بيانات الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والضرائب، للتمكن من تأدية خدمات أفضل للمواطنين. غير أنّ القطاع العام ليس لديه إجمالًا هذا القدر الهائل من البيانات لدعم تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي، فيما تبقى قواعد البيانات المطلوبة مؤرشفة بطريقة تقليدية غير متصلة بالانترنت.
غير أنّ البيانات المتوفرة والغارقة في البيروقراطية منتشرة بين الدوائر الحكومية، وتتطلب أذونات خاصة للتوصل إليها ولتتمكن من الاطلاع عليها. علمًا أن تكلفة إنشاء هذه البيانات- إن وجدت، مرتفعة جدًا، وهذه العملية بحاجة لفرق متعددة مستقلة ذات مهارات تكنولوجية عالية.
في بادئ الأمر، يفتقر القطاع العام إجمالًا إلى الكادر البشري ذي القدرات التكنولوجية التي تساعده في مواكبة الذكاء الاصطناعي والتعامل مع تقنياته. علاوةً على ذلك، من المهم إدراك ومعرفة أنّ الذكاء الاصطناعي هو نظام من السهل استهدافه وخرقه ومهاجمته من قبل نظام ذكاء اصطناعي خصم وجعله القيام بمهام خاطئة وتقديم بيانات خاطئة.
وهذا ما حذر منه العديد من العلماء والباحثين في هذا المجال في حال تطبيق واتباع نظام الذكاء الاصطناعي دون المعايير الأمنية وآليات الدفاع اللازمة.
بالنهاية، يجب علينا أن ندرك أنه من الصحيح أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي منتجة ومفيدة وسريعة، إلا أنها لا يمكنها حل كل المشكلات. إذاً لا يمكن تطبيق أحد حلول الذكاء الآلي على أي مشكلة. وهذا ما قصده الفيلسوف الاميركي أبراهام كابلان في أطروحته الصادرة في العام 1964 عندما وصف هذا الاتجاه بأنه “قانون الأداة”، أي قانون أداة الذكاء الاصطناعي. وشبه هذه الأداة بمطرقة في يد غلام صغير، حينها سوف يجد الصغير أن كل ما حوله يستحق الضرب. تلك الأداة القوية، ولكن قد يقع البعض في فخ المبالغة في الإيمان بقوتها. وليس قوية فحسب، بل إنها أداة باهظة الثمن أيضًا. وبالتالي على الحكومات أن تدرك أنّ كل الحلول لها ثمنها، ولكن ليس كل الحلول هي حلول الذكاء الاصطناعي.
كيف تعيد حلول الذكاء الاصطناعي تشكيل الحكومات؟
إن تفعيل الذكاء الاصطناعي يسهم في تفكيك الصوامع الداخلية ضمن الدوائر الحكومية العاملة في المجالات المختلفة مثل النقل والطاقة والتجارة والعمل والمالية وغيرها. فالعمل اليوم القائم على الكادر البشري ورسم وتلوين الخطوط داخل الإدارات سوف يتم استبداله بنظام ذكاء اصطناعي يتطلب ممتابعة المشكلات والبيانات وتنفيذ الحلول.
كما ستتوسع مجالات نشاط الحكومة مع بدء اعتماد أنظمة الذكاء الاصطناعي المركزية، وخصوصا فيما يتعلق بإدارة الاحتكارات للخدمات، مثل خدمات النقل والتأمين الصحي وتوزيع الطاقة، لمجرد أن من يعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي هو الأقوى.
أمّا على مستوى العلاقة بين الشعب والحكومات، فعند اعتماد أنظمة الذكاء الاصطناعي سوف تكون الحكومات قادرة أكثر على فهم مواطنيها واحتياجاتهم وتفضيلاتهم، وبذلك سوف تكون قادرة على تكييف السياسة العامة بما يتناسب مع متطلبات الشعب وتوقعاته. وسوف نشهد حينها على زمن الديمقراطية الحقيقية.
سوف ينتقل تركيز صانعي القرار والسياسات إلى القيم والأهداف بناءً على الفهم الأفضل والأدق للمجتمع وكل هذا بفضل الخوارزميات!
يشهد العالم اليوم ثورة يقودها الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. وإن تطبيق حلول الذكاء الاصطناعي على المشكلات العملية مثل السيارات الذاتية وخوارزميات التحدث مع الذكاء الاصطناعي ليس إلا نماذج أولية. من الصحيح أنّ التاريخ قد علّم البشرية الحذر من المستقبل، غير أنّ هذه المرحلة تتطلب التخطيط. ولا سيّما تخطيط الحكومات لكيفية استقبال التحولات الجذرية التي يقودها الذكاء الاصطناعي في الإصلاح الحكومي. فإذًا، أيتها الحكومات، فلنكن في ذروة طاقتنا ليس فقط التمويلية بل التخطيطية أيضًا للدخول في لعبة الشطرنج! فلنحدد أهدافنا ولنتشبث بزمام الأمور قبل أن يحرّك الذكاء الاصطناعي أي حجر على الطاولة.
المصادر:
- The Future of AI: How Artificial Intelligence Will Change the World
Mike Thomas. 2022.8.10 • Built In
Retreived from: https://builtin.com/artificial-intelligence/artificial-intelligence-future
- The ethics and politics of artificial intelligence
2021.7.14 • LSE Business Review
Retreived from: https://blogs.lse.ac.uk/businessreview/2021/07/14/the-ethics-and-politics-of-artificial-intelligence/
- Why artificial intelligence can’t solve all of government’s problems
Centre For Public Impact (CPI)
Retrieved from: https://www.centreforpublicimpact.org/insights/why-ai-cant-solve-all-governments-problems
- The six things you need to know about how AI might reshape governments
Centre For Public Impact (CPI)
Retrieved from: https://www.centreforpublicimpact.org/insights/six-things-ai-reshape-governments
Marlene Khalifeh
Marlene Khalifeh, a Lebanese journalist. She worked for a period of twelve years in An-Nahar” newspaper before moving to “As-Safir” were she spent ten years as a diplomatic reporter. Between these two periods, Mrs. Khalifeh published many articles in the Al Hayat” and “Al Riyad” newspapers, “Al Wassat” and “Newsweek Middle East” magazines.
She created her own website “Masdar diplomacy”,on the 11th of July 2016 focusing on diplomatic activities in Lebanon and the Middle East.
After attending many training courses in a number of European, American, and English institutions, she specialized in investigative journalism. Her hard work paid off when she was awarded, twice (in 2004 and 2005), with the “investigative journalist” prize by the Commonwealth (in Jordan) among four Arab participating countries. Afterwards, she focused her attention on the politic and diplomatic press training and research on fact checking.
