مارلين خليفة
بورتريه
اعتنق نبيل أبو ضرغم الكتابة الشعرية والرسم “لنسج شرنقته” كمثقف فيما يقتفي بحزن أثر بلد عرفه يوما بعزّه وما لبث أن شهد على تصدّعه المستمر منذ بداية الحرب الاهلية في العام 1975.
لجأ المسؤول الاعلامي المخضرم في الامم المتحدة طيلة 30 عاما (بين 1989 و2019) ومسؤول العلاقات العامة حاليا في “جمعية الموظفين الدوليين السابقين في الامم المتحدة” الى الريشة والقلم ليرسم “المرأة والجندي والعصفور” وهو عنوان ديوانه الشعري الذي يتضمن مختارات من شعره تمتد بين عامي 1983 و2015. لذلك جمع كوكبة من أصدقاءه مساء يوم الإثنين 5 كانون الأول الجاري في منزل والده في بيروت في أمسية شعرية ليقرأ خلالها كلٌ من كارول نعمه وكريستال ضو (جامعة القديس يوسف) وأدونيس عسّاف (يعمل حالياً في بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان) مختارات من شعره ولتعزف أناستازيا يارتزيفا مقطوعات لباخ على التشيللو.
يكسر أبو ضرغم جدار اليأس في الوطن باحثا دوما عن نور ما يكون حليفه في مواجهة السواد القاتم الذي تغرق فيه بيروت، كما كتب. أهدى ديوانه وهو باللغة الفرنسية الى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت، أرسله بالبريد العادي الى قصر الإيليزيه لمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة المنصرمين، ليفاجأ بعد مدة برسالة من الرئيس ماكرون مؤلفة من 3 مقاطع يجدد فيها التزامه بالاستمرار بمساعدة لبنان ويشكره مع السيدة الاولى الفرنسية على “الهدية القيّمة التي أرسلتها لي”.
لماذا اختار نبيل أبو ضرغم الرئيس الفرنسي؟ لأن الرئيس ماكرون متحمسٌ دائماً لإنقاذ لبنان ولأن والده اللواء محمود طيّ أبو ضرغم مؤسس فوج المغاوير في الجيش اللبناني، وهو خرّيج فرنسا، كان يعتبر فرنسا هي ذهب التاريخ. ويتضمن الديوان حكايات عن سيرته المدمجة بمسار الوطن والاحزان التي رافقته.
يعيش نبيل في منزل الوالد في منطقة “كليمنصو” السكنية ويرسم بالمائيات والفحم متابعا هواية الوالد الذي تزدان جدران المنزل بلوحاته ولوحات نجله وأخرى لفنانين تشكيليين قدماء بالإضافة الى مجموعة صغيرة لفنانين شباب معاصرين كأنس البريحي ومجد كردية.
ويعتبر نبيل أبو ضرغم الشعر والرسم أحد الادوات الفاعلة للتغلب على العقبات والموت الجماعي للقيم. يقول:” في هذه الظروف ينكفئ الاشخاص الذين ليست لديهم اجندات شخصية، يلجأون الى القراءة والكتابة والرسم، يشيّدون نوعا من الإطار المعنوي، ولا أدّعي أنني قادر على تعدّي دائرة الحصانة هذه الى الناس أجمعين، بل لقلّة من المهتمين أو ممن هم في الوضع نفسه. يشبه بلدنا اليوم “برج بابل” ولن نخرج وامثالنا من “الشرنقة” إلا في نهاية النفق”.
الالهام الشعري الاول
في ديوانه رسومات عدة وضعها الفنان رفيق حسن الحريري. والديوان سيرافقه قريبا كتاب عن ذكرياته باللغة العربية وآخر فرنسي. بدأ نبيل كتابة الشعر في العام 1983، الهمته الأحداث الدامية وحرب الجبل حين تهجر جزء من اللبنانيين. “آلمتني هذه الواقعة كثيرا، فقد تربّيت في جوّ من التعايش، ومذذاك رحت أنظم الشعر بالقوافي ثم انتقلت الى الشعر الحديث”. يعدّد نبيل أبو ضرغم أسماء شعراء كثر يقرأ لهم: سان-جان بيرس، ناديا تويني، جورج شحادة، فؤاد غابريال نفاع، شارل بودلير، جان تارديو، فيديريكو غارثيا لوركا، رينيه شار، بول فاليري، إيميه سيزير وتطول القائمة الى آخرين من الشعراء الحاليين كفرانسوا شينغ وسيمون جوهانين. في الواقع تأثر نبيل بمسار ثقافي متقن وضعه له والده اللواء ووالدته أدال بركات بدعم كبير من جدته جيهان بركات حيث اعتاد منذ صغره تلقي هدايا الكتب التي تروي سيرة كبار الرسامين والادباء ليقرأها في أيام عطلته الشتوية في منطقة الأرز وفصل الصيف في كفرقطرة-الشوف حين كان والداه يصطحبانه الى مهرجانات بعلبك الدولية. يذكر أن أول مهرجان حضره في بعلبك كان في العام 1968 حيث شاهد أوبريت “القلعة” لروميو لحود وغناء الشحرورة صباح. يروي:” ما إن شارفت الاغنية الأخيرة على الانتهاء حتى خرجنا بمحاذاة المسرح، وصرت اسأل إن كانت صباح من كوكب الأرض أم آتية من الشمس لكثرة ما نثرت ضوءًا وبريقاً وفرحاً على جمهور بعلبك”.
نبيل بقلم والده
ليس أفضل من والده اللواء الراحل محمود طي ابو ضرغم لكتابة “بورتريه” عنه:” نبيل كان دوما متأثرا بهذا المسار الذي وضعناه له ولشقيقته. إلا أن شقيقته رلى كانت استقلالية ومتمردة ورافضة في بعض الاحيان لكنها متقدمة في مدرستها وبالاخص في “الانترناشونال كوليدج” وفي الجامعة الاميركية وتخرجت في ما بعد بتنويه أكاديمي. أما نبيل، فكان منذ صغره شغوفا بفنّ الرسم والقراءة والموسيقى فكانت نتائجه المدرسية والجامعية عادية إلا في مادّة الفلسفة الفرنسية والإنشاء… لكنه كان دائما قاسياً على نفسه في العمل وتدرّج في الأمم المتحدة متتلمذاً في نهجي سمير صنبر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق لشؤون الاعلام، ومرفت تلاوي الأمينة التنفيذية للاسكوا سابقا، بعد أن كان قد تسلّم مركز الامم المتحدة للاعلام في بيروت في ظروف دقيقة”.
(مذكرات اللواء محمود طي أبو ضرغم: لمن يهمه الأمر: رحلتي مع الأيام- صادر عن الدار العربية للعلوم-ناشرون).
عود على بدء
ولد نبيل أبو ضرغم في 14 آذار/مارس من العام 1962، تشكلت ذاكرته في حيّ “كليمنصو” في منازل الضباط التي بنيت في حقبة الانتداب الفرنسي في جوار “الأريسكو بالاس” حالياً، حيث سكنت عائلة أبو ضرغم المؤلفة من زوجته أديل ووولديه نبيل ورلى.
درس نبيل في “المدرسة اللبنانية العامة”، ذي النظام الأوروبي والاميركي المحافظ ولم تكن تستقبل إلا “اطفال الحي” وبعض اولاد الأجانب والدبلوماسيين.
في هذه المدرسة، اعتاد نبيل مع رفاقه مظاهر الاحترام المبالغ فيه، التي وضعتها مؤسسة المدرسة السيدة وداد جانبارت، عبر الانحناء يوميا أمام مديرة المدرسة. نشأ نبيل في هذا النظام المحافظ معطوفا على نظام تربية صارم في المنزل كانت تمارسه والدته أدال فيما كان الوالد المغوار يتولى مهمات صعبة في إطار عمله العسكري.
كان أهل والدته يعيشون في “شارع أميركا”. أصبح جدّه لوالدته نسيب بركات المغترب في افريقيا مقعدا إثر حادث سير تعرّض له بعد أن جاء في عطلة الى لبنان حيث استقر في ما بعد في منطقة كليمنصو القريبة من مستشفى الجامعة الأميركية حيث كان يعالج مثيرا استغراب بيئته الجبلية بسبب قدرته المالية التي تتيح له الاستئجار في حي راق من أحياء بيروت.
لم يكن يعرف نبيل الكثير عن بلدته كفرحيم في الشوف، وهو تعرّف اليها يافعا حين كان يرافق والده في المناسبات الاجتماعية. يصف والده بأنه كان “انساناً عاشقا للبنان وبعيدا عنه طفلاً، يردف “كان يحبّ لبنان أكثر مني، كان بعيدا عني وقريباً من ابنه لبنان”.
كتب نبيل هذا الواقع في قصيدة له بعنوان “لمن يهمه الامر” يقول في بداياتها:
” مساء الخير يا أصدقائي،
أنا من طفولة ذهبية
أمي أحبت أبي
وأبي أحبها وأحبّ وطنه أكثر مما أحبّني
فبقيت طفلا
أفتّش عن حبّ كبير
أكتب له
أقرأ له
أرسم له
أمشي وراءه على دروب وعرة
أشتهي أن يضمّني في الشتاء
أشتهي أن يحرقني بنار الصيف
أشتهي أن يعترف بأنني حبّه الكبير
وبأنني الكلمات التي يقرأها
والعالم الذي يراه
وبأنني المملكة التي يحكمها”.
إبن القائد الذي لا يعرفه!
تطورت العلاقة بين الوالد ونجله بعد أن تسلم مراكز عسكرية تسمح له بالعودة الى المنزل يوميا. وللمفارقة أن نبيل لم يعرف أن والده هو مؤسس “فوج المغاور” وقد اكتشف ذلك صدفة وكان في العاشرة من العمر.
في إحد الأيام من العام 1972، كان يسير في “شارع أميركا” فرآه مغوار في الجيش اللبناني كان والده مسؤولا عن أحد الأبنية، فبادره محيياً: “كيف إبن القائد؟” فأجابه نبيل: “أنا لست إبن القائد، إسم قائد الجيش هو العماد اسكندر غانم”. فأجابه:” لا، أنت إبن قائد فوج المغاوير في الجيش اللبناني، والدك أب المغاوير! ولو؟ ألا تعرف ذلك؟!”.
قصد نبيل المنزل وانتظر عودة والده مساء وسأله إن كان صحيحا أنه من أسس فوج المغاوير في الجيش اللبناني، فردّ الوالد بالايجاب. استفسر نبيل عن سبب حجبه هذه المعلومة عنه خصوصا وأن المغاوير هي الفرقة الأشهر في الجيش اللبناني وكان يرافقه في تخريج دوراتها من دون أن يعرف أنه المؤسس!
فأجاب الوالد:” تعلّم ألا تحكي عن نفسك ودع عملك يحكي عنك”.
يعلّق نبيل:” إتّصف والدي بنكران الذات وطالما اعتبر أن التواضع هو أقوى صفة يتمتع بها الإنسان، وكنت اعارضه معتبرا بأن هذه الميزة لا تصلح في لبنان”.
للتاريخ، أنشأ أبو ضرغم فوج المغاوير في الجيش اللبناني في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من العام 1966 بموجب قرار صادر عن الشعبة الأولى في قيادة الجيش وكان برتبة نقيب. وقد كلف بالاضافة الى مهامه بتأسيسه وضع كافة التعليمات المتعلقة بذلك (الهيكلية-العديد-العتاد-الشروط الخاصة والعامّة لاختيار العناصر- الاختبارات-المناهج والبرامج التعليمية وصولاً الى تصميم البزّة والشارة والإشراف على النشيد والموسيقى التي يمشي عليها المغاوير في الاستعراضات العسكرية).
تجربة مختلفة في “الانترناشونال كوليدج”
تنقل والده بين مدرسة التزلج والقتال الجبلي وفوج المغاوير ومراكز متعددة حتى العام 1972، حين انتدب للخضوع لدورة في القيادة والاركان في الولايات المتحدة الأميركية لمدة سنة. كان ذلك في
Fort Leavenworth
في ولاية كنساس. وقرر اللواء أبو ضرغم وزوجته ابقاء نبيل ورلى في لبنان طيلة تلك المدة في كنف جديهما نسيب وجيهان بركات حتى لا يتأثرا بالتغيير في اسلوب الحياة المدرسية.
استغلّت الجدّة الفرصة لنقل نبيل للدراسة في “الإنترناشونال كوليدج”. فانتقل من جو شديد المحافظة الى مناخ من الحرية المطلقة وبقي قرابة السنة حتى تمكن من التأقلم وكان في سنّ الـ11 عاما. رأى الاطفال بلا زي مدرسي موحد، يتكلمون على هواهم، يتمتعون بحرية تعبير مطلقة، حتى انهم يتلقون دروسا عن التربية الجنسية وهي كانت ممنوعة كليا في المدرسة التي نشأ فيها!
بعد عودة والديه من الولايات المتحدة الاميركية، كان قد أصبح في المراحل المتوسطة وانتقل للدراسة في حرم “الانترناشونال كوليدج” في المشرف إلا أن الحرب اللبنانية اندلعت في شهر نيسان/أبريل من العام 1975.
“انقلب العالم بنا رأساً على عقب، وأول انفجار سمعته في بدايات الصيف من ذلك العام على غاليري بيروتي في شارع مي زيادة أثار الرعب في سكان منطقة كليمانصو. الحرب غيرت الناس وحين يتغير الناس تتغير مسارات الأوطان”.
لم يعد يقضي نبيل عطلته الشتوية في الأرز التي أصبحت ذكرى فقد قاد والده مدرسة التزلج والقتال الجبلي بين عامي 1959 و1964 ونظم في فترة السبعينات اسبوعين دوليين للتزلج، ما دفع سكان المنطقة لتكريمه ومنحه بطاقة “المواطن البشراني” إذ قدّروا جهوده في انعاش المنطقة سياحياً. كما أن مهرجانات بعلبك أصبحت هي الأخرى بالنسبة إليه في طيات الذكريات يعود إليها من خلال الكتيبات التي كانت تصدر عن المهرجان.
وفي 16 كانون الثاني/يناير من العام 1976 استفحلت الحرب اللبنانية إذ هاجم الفلسطينيون والاحزاب والقوى الوطنية بلدات الناعمة والسعديات والدامور والجيّة، وطُوّقت المنطقة بما فيها منزل الرئيس كميل شمعون في السعديات حيث كان يمضي عطلة الأسبوع. يروي اللواء ابو ضرغم في مذكراته:” كنت في وزارة الدفاع أتتبع سير الاحداث، ولاحظت بأننا في سباق مع الوقت لأن نتيجة العملية بدأت تتضح. فالدامور ومحيطها سيسقطان بيد القوى المهاجمة من مختلف الجهات شمالا وشرقا وجنوبا وعليّ شخصيا أن أصل الى تلك المنطقة لأتشاور مع الرئيس شمعون ومسؤولي القوى الأمنية المنتشرة فيها. كنت أعلم أنها معركة خاسرة.(…) وبعد مفاوضات مع قيادة الجيش أعاد أبو ضرغم الرئيس شمعون الى بعبدا بواسطة طوافة عسكرية واسهم باجلاء النسوة والطاعنات في السن من بلدة الدامور وكثر من المدنيين النازحين.
تعرّف محمود طي ابو ضرغم عن كثب الى الزعيم الكبير كمال جنبلاط في العام 1976 ونشأت علاقة احترام متبادلة استمرت حتى استشهاد كمال جنبلاط لكنه لم يسيّس عمله العسكري بل بقي ولاءه إلى حد بعيد للمؤسسة العسكرية. “كان ملتزماً بوحدة الجيش بغض النظر عن الطوائف والمذاهب”.
الجامعة الاميركية
بعد أن أنهى نبيل دراسته في “الإنترناشونال كوليدج” إنتقل الى الجامعة الاميركية في بيروت وتخصص في “الدراسات السياسية” بين عامي 1983 و1986. ولكن قبل دراسته الجامعية وتحديدا في العام 1981 وبسبب نية والده ادخاله الى وزارة الخارجية اللبنانية أرسله الى زوريخ (سويسرا) حيث تابع دورة مكثّفة في فنّ “الاتيكيت” والتعامل مع الشخصيات الرفيعة عند سيدة متخصصة في هذا المضمار وكانت قد عملت في بيروت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وارتبطت بصداقات مع عائلات لبنانية عريقة. قال لها والدي يوم سفري:” أريده أن ينهي هذه الدورة وهو قادر على التصرف حتى لو رمته الظروف في قصر باكينغهام أمام ملكة بريطانيا!”. لكن التجربة بقدر ما كانت ممتعة كانت ايضاً قاسية للغاية.
تميز المناخ السياسي في الجامعة الاميركية بالانقسام بين الطلاب في مرآة عن الشرخ بين مكونات الوطن، لكن نبيل أبو ضرغم اختار البقاء على الحياد، ” لم أقتنع بكل ما يحدث في لبنان وأنا من المؤمنين برأي غسان تويني القائل بـ “حروب الآخرين على ارضنا”.
بقي على الحياد الى حين تخرّج في العام 1986، وبدأ الكتابة في صحيفة “لوريان لو جور” حين أعطته ماري-تيريز عربيد هذه الفرصة وكانت مسؤولة عن الصفحة الثقافية، وبدأ في الوقت عينه يعلّم اللغة الانكليزية في برنامج في الجامعة الأميركية تموله “مؤسسة الحريري”. وبالصدفة، لفتت نظره الأميرة زينة مجيد أرسلان الى شغور وظيفة صغيرة في في مركز الامم المتحدة للإعلام عند طلعة “الحمام العسكري” حيث كانت تعمل فتقدّم نبيل الى وظيفة إعلامي مساعد لتبدأ رحلته في الامم المتحدة بين عامي 1988 و2019. يذكر نبيل الرجل الذي اختاره لهذه الوظيفة والسبب الذي كان وراء ذلك. إنه سمير صنبر. كان رئيسا لدائرة الإتصالات في الامم المتحدة في العالم، وكان يعرف والده وعلى علم بـ “بروفايله”. “طلب مني مهمة الحفاظ على مركز الاعلام في بيروت، لأن بعض دول المنطقة تقدم تمويلا كبيرا لنقله اليها”.
طلب صنبر من نبيل ابو ضرغم تنظيم أنشطة تثبّت المركز في لبنان ومنه المقر الرئيسي في نيويورك وتوفير السبب المقنع لكي لا يتم الاستغناء عن المركز في العاصمة اللبنانية. هكذا بدأ المهمة عبر تنظيم نشاطات للإضاءة على أيام دولية أعلنتها الأمم المتحدة مثل “اليوم العالمي لحقوق الانسان” أو “اليوم العالمي للبيئة”.
وبعد أن رأى سمير صنبر قدراته المهنية بالأخص خلال الفترة التي أعلن فيها العماد عون حرب التحرير حيث كان يواظب على الاستمرار بعمل المركز رغم خطورة الأوضاع، كلفه بالقيام بأعمال المركز خلال فترة شهدت في ما بعد تحرير الرهائن الأجانب من خلال وساطة قادها المفاوض الدولي جياندومنيكو بيكو، الأمين العام المساعد لشؤون المهمات الخاصة، الذي استعان بنبيل في بعض المهمات التي يبتعد دائماً عن مناقشتها. واستمرت الصداقة الكبيرة والاتصالات والنقاشات حول وضع المنطقة العربية بصورة منظمة مع بيكو الى أن تراجعت صحة الأخير بصورة جذرية منذ سنتين أو اكثر. ولم يتبلغ نبيل هذا الا حين لفتت نظره الى ذلك صديقة ترأس مكتب وكالة اعلامية دولية في بيروت. حين اتصل بمساعدة بيكو الخاصة للاستفسار عن وضعه، قالت له: اسمك من الأسماء القليلة التي مازال يذكرها ويرددها.
تلك الفترة شهدت ايضاً حملات إعلامية ساهم فيها أو قام بها لإبراز عددٍ من الأحداث الرئيسية مثل “قمة الأرض (1992)” و”المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان (1993) و”الذكرى الخمسين لتاسيس الأمم المتحدة (1995)”. كما شهدت اجتياحين إسرائيليين كان العمل خلالهما مع الأمين العام المساعد للشؤون الإنسانية يان إلياسون (الذي أصبح في ما بعد نائباً للأمين العام للأمم المتحدة) و مع الممثل المقيم الشهير روس ماونتن.
العصر الذهبي في الاسكوا
في العام 1998، عادت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) الى بيروت من خلال جهود حثيثة قام بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعاونه فيها وزير الخارجية آنذاك فارس بويز بهدف اعادة الوجود الأممي الى بيروت وجعلها بوابة العالم العربي الى العالم. فالإسكوا هي احدى اللجان الاقليمية الخمس التابعة للمنظمة الدولية وعادت الى العاصمة اللبنانية لتتخذ منها مقراً نهائياً ودائماً. وقد ضم بيت الأمم المتحدة الى الإسكوا بعثات دولية أخرى. وكان نبيل ابو ضرغم يضع نفسه في خدمة الدكتور حازم الببلاوي الأمين التنفيذي للإسكوا (الذي اصبح في ما بعد رئيساً لوزراء مصر) في زياراته المكوكية الى بيروت لاستعجال انجاز مبنى الأمم المتحدة بدعم من الرئيس الحريري وتجهيزه وافتتاحه في حضور الأمين العام كوفي أنان. وكان الببلاوي قد تعرف على نبيل عن كثب فوقع عليه الاختيار لدعوة بعض الشخصيات الى الافتتاح ومنهم السيدة فيروز التي اعتذرت عن الحضور لكنها كلفت موفد الإسكوا الشاب تقديم مجموعة من اسطواناتها الى كوفي أنان وكتابة الكلمة المرفقة. “ومن هناك بدأت أتشرف بزيارة السيدة فيروز كلما سنحت الفرصة”.
لكن الفترة الذهبية التي عاشتها الإسكوا كانت حين تسلمت السيدة مرفت تلاوي، وهي سفيرة مصرية ووزيرة سابقة ذاع سيطها الحسن في جميع المهام الصعبة التي القيت على عاتقها، مقاليد الأمانة التنفيذية فاصبحت اللجنة الأممية قبلة المراجع الإقليمية والدولية ومؤسسات المجتمع المدني وأهل الفكر والسياسة والدبلوماسية. ومرفت تلاوي هي الأمينة التنفيذية التي خططت وقاتلت لينال لبنان جائزة الأمم المتحدة للإعمار من خلال شخص الرئيس رفيق الحريري.
في عهدها، فصلته مرفت تلاوي الى مكتبها مسؤولاً إعلامياً وأعطته مهمات أخرى فأصبح يرافقها في رحلاتها الرسمية الى المنطقة العربية وينظم الأحداث الرئيسية المتعلقة بالأمين التنفيذي واوكلت اليه مهمات محددة. فعندما زار احمد زويل الحائز على جائزة نوبل للكيمياء لبنان وحلّ ضيفاً على الإسكوا، كلفته بمرافقته في تفاصيل الرحلة. هذا بالإضافة إلى مهمته الأساسية في إبراز نشاطات الإسكوا في لبنان والمنطقة. فهذه الخبرة الممتدة بين عامي 1989 و2019 تصلح للتدريس والتدريب الذي يمارسه نبيل أبو ضرغم بطريقة متقطعة بسبب أزمة كوفيد-19. يقول: “إن الخطوط العريضة للعمل الإعلامي الذي يؤسس لصورة إيجابية حول الأمم المتحدة لا يتوقف فقط على المادة الإعلامية بل ايضاً على تفاصيل التصرفات المهنية مع الشركاء من دون استثناء. فالأمم المتحدة تصبح أسلوب حياة وليس منظمة دولية ننتمي إليها فقط”.
عمل أبو ضرغم مع زملاء أتوا من ثقافات متعددة وبيئات مختلفة فكيف تأقلم مع هذا العمل؟
يقول:”هذا يأتي طبعاً من الذات أولاً. فهناك من يستطيع الانفتاح على ثقافات أخرى وهناك من لا يستطيع التأقلم أبداً. وهو نتيجة لمزيج من التربية البيتية والمدرسية والجامعية والمهنية. نشأت في منزل لا ينظر أبداً الى الطوائف والمذاهب بل الى القيمة الإنسانية والثقافية للإنسان. وكما سبق وذكرت والداي كانا يهدياننا شقيقتي رلى وأنا كتباً تحفزنا على التعلق بالثقافة. وحين تدرج والدي في مناصبه العسكرية أصبحت أشارك في لقاءاته الاجتماعية مع شخصيات لبنانية وأجنبية. بالإضافة الى العيش في جو رسمي شبه مستمر ودراستي لتاريخ الموسيقى الكلاسيكية والعزف على آلة البيانو لمدة سبع سنوات في فترة الثمانينات في ستديو نورا فارتابديان المتخرجة من أكاديمية فيينا (النمسا) العليا للفنون. إلا أننا قررنا شقيقتي رلى وأنا أن نهدي البيانو الى قيادة الجيش وهو اليوم في القاعة الكبرى في النادي العسكري المركزي في جونية”.
توفي الوالد في العام 2015، ما كان وقع ذلك على نبيل أبو ضرغم؟
يقول:” كان وقع غياب والدي صعبا جدا، خصوصا وأنه توفي فجأة بسكتة قلبية. فحين توفيت والدتي في سن الـ59 عاما استوعبنا الوالد واحتوى احزاننا أنا ورلى. برحيله فقدنا هذه المظلة الأبوية”. صار يتوجب على نبيل القيام بكل المهام التي كان يقوم بها والده سواء على الصعيد العائلي او الاهتمام بالاراضي وملاحقة العديد من القضايا ولم يكن والده درّبه على هذه المسؤوليات. ” شعرت بعمق المسؤولية ليس تجاه الوالد فحسب بل تجاه انسان آمن بلبنان، ولو كنا أحيانا على خلاف بوجهات النظر وخصوصا انني كنت الومه لأنه لم يغادر لبنان وقد حصل على الكثير من الفرص في الخارج، فكان جوابه دوما:”عندما يصبح لبنان في البحر فأنا أمشي وراءه”.
يحافظ نبيل أبو ضرغم على تواصل دائم بأصدقاء والده وخصوصا مؤسسة الجيش اللبناني ويسأل تحديدا عن الضباط الذين كانوا في دورة والده مثل اللواء عثمان عثمان المدير العام السابق لقوى الامن السابق، الجنرال انطوان بركات وقادة الجيش القدماء ورؤساء الاركان القدماء.
وهنا لا يجب اغفال أن اللواء أبو ضرغم رفض الانضواء كوزير في الحكومة العسكرية التي شكلها قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون في العام 1989 (وثمة من اعتبر أنه أُجبر على الرفض) في مقابل حكومة الرئيس سليم الحص، “اعتذر لكي لا يزيد الشرخ في البلد، لكنه بقي على علاقة وطيدة بالعماد عون وقد زرناه للتهنئة حين انتخب رئيسا للجمهورية اللبنانية في العام 2016”.
جائزة اللواء محمود طيّ أبو ضرغم
خصص نبيل ابو ضرغم وشقيقته رلى جائزة سنوية رمزية تحمل اسم والدهما اللواء ابو ضرغم للافراد المتميزين في فوج المغاوير وهي تخفف عنهم بعض العناء الذي يعيشونه. كما خصصا جائزة سنوية في الجامعة اللبنانية الأميركية للتميز في المجال الأكاديمي والرياضي والقيادي.
كيف يرى مستقبل لبنان من خلال الخبرة الطويلة التي يحملها؟
يقول نبيل أبو ضرغم:” هناك شيء غريب في هذا البلد يعبر التاريخ. فكلما وصلت الأحداث لساعة اليأس، يحصل شيء غريب وينتشل لبنان واللبنانيين، لكن بيت القصيد أنه استطعنا الحصول على استقلال الدولة (بالرغم من الشكوك التي يناقشها البعض بذلك) ولم نستطع بناء دولة الاستقلال أي بناء المؤسسات من خلال الكفاءات العالية”. ويضيف:” في ظروف مفصلية من تاريخ الدول تتساوى مسؤولية الحاكم والمحكوم. على المحكوم ان يمارس مسؤولية المراقبة والمحاسبة وهذا لم يحصل ما ادى الى استباحة لبنان. والمحاسبة تجري ليس بالضرورة بالدم والعنف بل بوسائل سلمية. بنى غاندي السلام والاستقلال في الهند بوقفات سلمية لكنها موجعة جداً. هذه الحال تُبقي لبنان فرصة للنزاعات. هذا بالاضافة الى أنه أرض خصبة تتأثر بالتجاذب الاقليمي والدولي”.