مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
…و”هوى جسر لندن” بهذه العبارة أعلن قصر باكينغهام رحيل “صخرة المملكة المتحدة” الملكة إليزابيت الثانية في 9 ايلول الفائت بعد تبوئها العرش 70 عاما ومعاصرتها 15 رئيس حكومة، وعشرات الزعماء في العالم. الملكة التي شكلت رابطا بين الشعب البريطاني وتاريخه الذي يعود الى ألف عام والتي اعتلت العرش البريطاني ودول الكومنولث، برعت في ممارسة الدبلوماسية الملكية بالرغم من عدم تمتعها بصلاحيات تنفيذية فعلية.
سيبقى طيف هذه الملكة التي عمّرت طويلا الى أن بلغت الـ96 من العمر ماثلا في وجدان البريطانيين ودول الكومنولث. شكلت الملكة اليزابيت الثانية الصخرة بالنسبة الى مملكتها: كان العالم يتهاوى ويتم تهديد المملكة المتحدة بهويتها وتمس عائلتها بالفواجع والفضائح لكن كان مظهرها المشرق والثابت في وجه الشدائد مطمئنا دوما لشعبها.
بعد أن أحيت يوبيل الـ 70 عاما، توفيت بهدوء في بالمورال، ليتولى العرش نجلها وهو بات اليوم يحمل لقب الملك شارل الثالث الذي يبلغ الـ73 من العمر، ومعها انتهى اطول حكم ملكي في تاريخ بريطانيا.
كانت حياة اليزابيت ويندسور ملأى بالتناقضات: تبوّأت رئاسة أقوى الدول في العالم المعاصر لكنها لم تمارس سلطة فعلية، وكانت رئيسة اقدم الديموقراطيات في العالم من دون ان تقترع يوما، زيّنت صورها بطاقات المصارف والعملات، لكنها لم تستخدم يوما المال النقدي. جالت معظم بلدان العالم لكنها لم تحمل يوما جواز سفر، كان يمكنها ان تقود بلا رخصة قيادة وبلا أن تضع حزام الامان، وأن تمتطي الاحصنة الملكية من دون أن ترتدي يوما خوذة على رأسها. لم تترك مذكرات، ولم تظهر مشاعرها يوما على قسمات وجهها باستثناء تعبيرين: إما ابتسامة، او عبوس.
جسدت الملكة الراحلة التاريخ. التقت معظم الشخصيات الرئيسية في القرن العشرين: تشرشل، ديغول ونهرو وبوتين، شي جين بينغ وكينيدي، سوهارتو وموبوتو ومارلين مونرو، ميغ جاغر وليش فاليسا ونلسون مانديلا ومادونا، الامبراطور هيروهيتو وشاه ايران، لكن احدا لا يعرف ماذا قالت لهم يوما وما المشاعر التي حملتها تجاههم، ومما لا شك فيه أن يومياتها الخاصة ستبقى مخبأة طويلا في الارشيف الملكي.
ولدت في 21 نيسان 1926 ولم يكن مقدّر لها الحكم، هي ابنة البير الابن الاصغر للملك جورج الخامس، تنتمي الى الارستوقراطية الاسكوتلندية، وتحتل المرتبة الثالثة في السلالة التي ترث العرش. أول لعبة للقدر معها كانت مع اندلاع ازمة دستورية حادّة نشأت بعد وفاة الملك جورج الخامس في العام 1936، ورفض ادوارد السابع تولي العرش ليتزوج من عشيقته الاميركية واليس سيمبسون المطلّقة لمرتين. دفع هذا الحدث غير المتوقع البير الى تولي العرش في العام 1937 باسم الملك جورج السابع، فتحولت اليزابيت في عمر الـ11 عاما وريثة للعرش حيث أن اهلها لم يرزقا بصبي ولها شقيقة تصغرها سنا هي مارغريت.
وصفت منذ صغرها بأنها رصينة ومجتهدة وجدية ومسؤولة تحب اقتناء الخيول وتربية الكلاب. لم تدخل اليزابيت يوما الى المدرسة، تلقت الاميرة الصغيرة علومها في القصر، وحرص والدها على مناقشة القضايا العامة وقراءة الصحف معها وتدريبها على ادارة شؤون المملكة، فنشأت في عالم خاص يحكمه البروتوكول محوطة بالرعايا والخدم. بقيت عائلتها في لندن في عز الحرب العالمية الثانية تحت القذائف ما ضاعف من شعبية العائلة المالكة، وتطوعت اليزابيت شكليا كمسعفة لكي تقدّم المثال والنموذج، واحتفلت بيوم النصر في العام 1945 في شوارع لندن وبين اهلها. في العام 1939 واثناء زيارتها للمدرسة البحرية وقعت في حب تلميذ ضابط هو فيليب وتزوجا في العام 1947. واثناء زيارة لها الى كينيا وصلها خبر وفاة والدها لتتولى العرش رسميا في العام 1953 في وستمينستر وهي في الـ26 من العمر.
مارست الملكة اليزابيت الدبلوماسية الملكية بامتياز، جابت انحاء العالم لغاية العام 2015 حين ارغمتها صحتها على التوقف عن السفر وبقيت بلدان قليلة لم تزرها: اسرائيل، مصر، الارجنتين، اليونان وبعض البلدان الصغيرة في البلقان وذلك لحساسيات سياسية وتاريخية وعائلية. حمّلت مشعل الاسفار لشارل، وبقيت هي تستقبل كبار الشخصيات العالمية: الرئيس الصيني شي جين بيغ في العام 2015، الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب في العام 2019. هذه الاستقبالات لم تكن تنضوي ضمن مهام دبلوماسية، فالملكة لم تتدخل يوما بالسياسة الخارجية للمملكة المتحدة بل أنيطت بها الدبلوماسية الملكية الناعمة. بعد عقود من ولايتها الملكية، أجادت اليزابيت الثاني “فنّ الدبلوماسية الملكية”، والتصاريح المكبوحة، ملكة من دون نفوذ فعلي تمكنت من ان تمارس السلطة المعنوية الاقوى حول العالم. قبل توليها العرش ولم تكن تتجاوز الـ21 من العمر وتحديدا في العام 1947، صرّحت اثناء جولة لها في دول الكومنولث: “اعلن امام الجميع ان حياتي كلها سواء كانت طويلة ام قصيرة ستكون مكرسة لخدمتكم”.
اثناء جولة لها في كينيا كانت ستقودها الى دول الكومنولث مع زوجها امير ادمبورغ فيليب تلقت نبأ وفاة والدها في 6 شباط 1952 بجلطة، وما ان ابلغها زوجها انها صارت الملكة، كان اول ما فعلته الكتابة الى حكام اوستراليا ونيوزيلندا الجديدة لتخبرهم انها مرغمة على الغاء سفرها لتعود الى لندن. سافرت اليزابيت الثانية في 70 عاما اكثر من اي زعيم عالمي: 89 زيارة دولة و179 جولة في دول الكومنولث. وبالرغم من انها وصلت الى السلطة آتية من حقبة تفكيك الاستعمار، فقد احتفظت الملكة بصلاحيات رمزية في عشرات البلدان في الكرة الارضية وبينها قوى اقتصادية عظمى مثل كندا. في الكاريبي وافريقيا وآسيا يواجه تأثير المملكة المتحدة تعقيدات وهو آل الى الاضمحلال فعليا. في تشرين الثاني 2020، عمدت جزر باربادوس وترينيداد وتوباغو وغويانا وجزيرة موريشيوس بقطع الروابط مع الملكية لتصبح جمهوريات. طالما شكلت دول الكومنولث اولوية للملكة اليزابيت لكنها لم تتمكن من تجنب تآكلها مع مرور الوقت. كرست لها تنقلا دام 6 اشهر في الانتقال الاول بعد توليها العرش. اجتازت الملكة بين 24 تشرين الثاني من العام 1953 ولغاية شهر ايار 1954 12 بلدا من مرتفعات برمودا الى جبل طارق. اتاحت لها هذه الرحلة الطويلة وغير المسبوقة في التاريخ ان تكرس لها دورا من الصعب قبوله كسفيرة تتمتع بنفوذ غامض ومكبوح. اما زيارة الدولة الاولى فكانت للنروج في العام 1955، فالملكة هي ابنة عم الملك هارالد وهنالك تقارب عميق بين العائلتين، وقد عقدت المملكة المتحدة والنروج في العام 1950 اتفاقيات تجارية هامة. في الخارج كما في الداخل البريطاني فان الكلمة الملكية مؤطرة بشكل دقيق. كانت زيارات الملكة واستقبالاتها لرؤساء دول تشبه الى حدّ بعيد رقصات باليه دبلوماسية شديدة التعقيد والدقة. يتم اعتماد الرمزية بشكل دقيق في استقبالاتها لصالح السياسة الخارجية البريطانية. في العام 2003، استقبلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو كان بذلك الحاكم الروسي الاول الذي يتم استقباله منذ الكسندر الثاني. نال بوتين حظوة رفيعة، لكن الملكة اليزابيت تجنبت كما مع ضيوفها الآخرين ان تناقش في قضايا خلافية.
يعتبر الاجماع الملكي احد مفاتيح قوتها التأثيرية، ويتيح لها ان تحوز الاعجاب والاستحسان في العالم اجمع. اثناء سفرها الـ22 الى كندا، في العام 2010، استقبلها بالترحاب 100 الف شخص يوم العيد الوطني الكندي في الاول من تموز.
“كرّست هذه الامة ذاتها لتكون منزلا مضيافا لناسه وملجأ للآخرين ونموذجا يحتذى للعالم اجمع” قالت الملكة.
قدّمت الملكة اليزابيت نفسها ملكة انسانية، كما تشهد مواقفها في ما يخص افريقيا الجنوبية التي لم تغيرها حتى سقوط نظام الابارتيد. في الكواليس، كانت تعارض مواقف رئيسة الحكومة البريطانية السابقة الراحلة مارغريت تاتشر التي وصفت حزب نلسون مانديلا بأنه “ارهابي”. وعلى عكسها، نسجت الملكة اليزابيت مع مانديلا علاقة صداقة بعد لقائهما في العام 1991، ونال مانديلا شرف مناداتها باسمها فقط من دون لقب الملكة.
كانت اليزابيت ايضا ملكة في الدبلوماسية الاوروبية، كما اوحى اختيار لباسها في العام 2016، اثناء خطاب لها في توقيت حساس كانت فيه بريطانيا تفاوض على شروط خروجها من الاتحاد الاوروبي، الازرق الذي اختارته لا يغش احدا.
هي عاصرت كل زعماء العالم وقابلت كل رؤساء فرنسا منذ عهد الرئيس رينيه كوتي، في آخر زيارتين لها الى فرنسا والمانيا صرّحت خلال مأدبة على شرفها بان “انقسام اوروبا امر خطر”.
قبل وفاتها بيومين، مارست الملكة اليزابيت كما عادتها دورها في الدبلوماسية الملكية ولو من دون صلاحيات، فقدّمت السلطة لرئيسة الوزراء ليز تراس وهي الرقم 15 بين رؤساء الحكومة البريطانيين الذين عاصروها، كان ذلك العمل الاخير الذي قامت به قبل ان تغرق المملكة المتحدة والعالم في الحزن لفراقها.
لبنانيا، لم تحصل زيارات دولة من لبنان الى بريطانيا، وهذا يعني أن الملكة لم تلتق رؤساء لبنانيين. ويقول مصدر دبلوماسي مطلع:” ليس للملكة دور بالسياسة الخارجية إلا بحسب التوجيهات التي تعطيها اياها الحكومة، حين تستقبل رئيس تقول لها الحكومة ما هي الرسالة التي عليها تمريرها له، ودرجة الاهتمام وذلك بحسب المصالح”. ويشير المصدر الدبلوماسي الى أن “الملكة اليزابيت درجت على ارسال رسائل بعيد الاستقلال اللبناني معدّة بطبيعة الحال من وزارة الخارجية البريطانية، وهي تؤكد على تطوير العلاقات وسيادة لبنان واستقلاله واستقراره وازدهاره”. في هذا السياق، يبدو أن الأمير تشارلز الذي اصبح اليوم الملك تشارلز الثالث لديه اهتمام اكبر بلبنان ” من خلال اهتمامه بالمسيحيين في الشرق وبتاريخ منطقة الشرق الاوسط، ولديه اهتمامات بيئية وخصوصا في ما يخص تحويل المدن الى جو قروي او استبقاء القرية داخل المدينة، وهو قدم تمويلا من خلال مؤسسته لاقامة حديقة في منطقة الاشرفية في بيروت، واخيرا زارت احدى الاميرات في العائلة المالكة لبنان في اطار حقوق المرأة”. ويختم المصدر الدبلوماسي بقوله:” ان الملك في بريطانيا دوره توجيهي اكثر، وهو مهم داخليا، وطالما كانت الملكة اليزابيت ضابط الايقاع الاعلى”.