مقالات مختارة
مجلّة الامن العام
مارلين خليفة
تتميز طبيعة العلاقات بين لبنان وايران بزخم سياسي وديبلوماسي يتمثل بالزيارات الدورية لوزراء الخارجية الايرانيين عند كل استحقاق لبناني مفصلي، وبتعقيدات وجمود يطاولان التبادل التجاري والاقتصادي “وهو لا يعتد به”، بحسب تعبير سفير الجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان محمد جلال فيروزنيا، رغم انشاء لجنة اقتصادية مشتركة.
لم تفلح العروض الايرانية المتتالية واخرها بعد انتخاب الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي وزيارة وزير خارجيته حسين امير عبد اللهيان الى بيروت في فك هذا الجمود، بل تكرر السيناريو الذي واجه سلفه محمد جواد ظريف ابان حكم الرئيس حسن روحاني.
يعود هذا البطء في تنمية العلاقات الثنائية بين البلدين الى تلكؤ الجانب اللبناني واحجامه عن القبول بالعروض الايرانية التي تتكرر منذ عقود واخرها ما قدمه عبد اللهيان عن استعداد ايران بشركاتها المتخصصة لبناء معملين لانتاج الطاقة الكهربائية بقوة الف ميغاواط في غضون 18 شهرا، في بيروت والجنوب، كذلك استعداد طهران من خلال الخبرات الفنية والهندسية للمساهمة في ترميم وبناء مرفأ بيروت في حال طلب الجانب اللبناني هذا الامر. لكن هذه العروض لم تلق يوما اذانا صاغية بسبب الخوف من العقوبات الغربية، ونظرا الى العلاقة الصعبة بين ايران ودول الخليج.
تخوض طهران حاليا مفاوضات شاقة في فيينا حول اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة الاميركية، وتجهد لنيل ضمانات ترفع عنها العقوبات وتضمن عدم الانقلاب الاميركي لاحقا على اي اتفاق كما حدث في العام 2018، لكنها لا تساوم على نفوذها الاقليمي وترسانتها الصاروخية. اما خليجيا، ورغم حرب اليمن المستمرة منذ 2015 فثمة اجواء ايجابية اعقبت محادثات بغداد بين طهران والسعودية، وهذا ما اكده ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في حديثه الى صحيفة “اتلانتيك” قال في ان ايران ستبقى جارة للسعودية ولا يمكنهما “التخلص” من بعضهما بعضا، ودعا الى “حل الامور” بينهما، مؤكدا نية الرياض مواصلة المحادثات مع طهران.
في مقابلته مع “الامن العام” يضيء سفير الجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان محمد جلال فيروزنيا على جوانب العلاقات الثنائية بين البلدين، وتوجهات السياسة الايرانية في المنطقة والعالم في ضوء المتغيرات الدولية المتسارعة. عيّن السفير فيروزنيا في بيروت في 16 ايار من العام 2018 وتسلم مهامه مباشرة بعد انتهاء الانتخابات النيابية، وهو اليوم على مشارف انتخابات نيابية جديدة. يتميز السفير فيروزنيا بدماثة خلق وتواضع وبثقافة واسعة، وهو ذو خبرة خليجية اذ كان سفيرا لبلاده في الكويت والبحرين واليمن وشغل رئاسة دائرة “الخليج الفارسي” في وزارة الخارجية الايرانية، وكان سفيرا في ماليزيا قبل مجيئه الى لبنان.
* سعادة السفير كيف تصفون هذا البلد وسط اسوأ انهيار مالي واقتصادي وقع فيه منذ استقلاله؟
– الظروف المعيشية للشعب اللبناني باتت صعبة للغاية، حيث ان لبنان الشقيق يعاني من اوضاع اقتصادية واجتماعية بالغة القسوة بكل اثارها وتداعياتها التي تثقل كاهله. في ظل هذه الظروف الشائكة تقف الجمهورية الاسلامية الايرانية الى جانب لبنان حكومة وشعبا.
وللاسف الشديد، فان بعض الدول لا تمتنع فقط عن مساعدة لبنان في ظروفه الراهنة، بل تبادر الى ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية وسواها، مما يؤدي الى مزيد من تدهور الاوضاع. ان الكثير من المشكلات التي يعاني منها المجتمع اللبناني حاليا سببها الرئيسي هو الضغوط الخارجية والعقوبات الظالمة التي تفرضها اميركا على شعوب المنطقة، سواء في لبنان، سوريا او ايران .
الا ان الشعب اللبناني ومن خلال ما يتمتع به من همة وارادة وكفاية مميزة، سيتمكن من تجاوز هذه المرحلة الحساسة بوحدته وتضامنه، بدراية القيادات السياسية الوطنية وحكمتها وبدعم اصدقائه الخلص الذين يقفون معه في السراء والضراء .
* تعاني ايران منذ تسلم الثورة الاسلامية للحكم في العام 1979 من حصار غربي، كيف تمكنت من تجاوز هذا الحصار ووفرت الاكتفاء الذاتي؟ وما نصيحتكم للبنان في هذا الخصوص؟
– نحن في ايران، بعد انتصار الثورة الاسلامية، عقدنا العزم واخذنا القرار وشحذنا الهمة للاعتماد على انفسنا من اجل تبديل التحديات الداهمة الى فرص مؤاتية. بلادنا زاخرة بالثروات الطبيعية وشعبنا يتحلى بمواهب وطاقات هائلة. مع قيام ثورتنا المجيدة، تحررنا من شر الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، حيث استطاع شعبنا الابي تحقيق انجازات مهمة على الصعد الاقتصادية، الزراعية، العلمية، التقنية، الطبية، العسكرية ومجالات عدة. لذا لا يمكن مقارنة الوضع السائد حاليا في ايران بالواقع الذي كان موجودا قبل انتصار الثورة. النقطة الجوهرية هي انه رغم الحرب المفروضة، الضغوط القصوى، التهديدات العسكرية والتحديات الامنية، ما زالت هذه المسيرة بعد اكثر من اربعين سنة في ريعان شبابها تتألق وتزهو بقوة وصلابة وجدارة يوما بعد يوم .
مع ان ظروفنا في ايران تختلف عن نظيرتها في لبنان، لكن الشعب اللبناني قادر مبدئيا على فتح صفحة جديدة من التعافي والتنمية والتطور من خلال همته العالية، ارادته الوطنية، نفَسَه الطويل في تحمل الصعاب والشدائد بالاستفادة من التجربة الايرانية الرائدة في هذا المجال ودعم اصدقائه في المنطقة مثل ايران و العراق.
* الصراع مع اسرائيل هو احد ابرز اهداف الثورة الايرانية، وقد دعمت ايران المقاومة نظرا للحدود الجغرافية المشتركة للبنان مع الكيان الاسرائيلي، وسط عمليات التطبيع في المنطقة والانهيار الاقتصادي للبنان هل ترى ان شبح التطبيع يخيم على بلدان مثل لبنان وسوريا والعراق؟
– التطبيع في حقيقة الامر هو السير في اتجاه يخالف حركة التاريخ. لذا فان هذا التوجه لا افق له وسيبقى عملا ابتر وفاشلا. الدول التي شدت الرحال على طريق التطبيع تفاقمت متاعبها ومتاعب المنطقة برمتها. الكيان الصهيوني وصل الى مرحلة الافول والهبوط والانحدار، وكل رهان على فكرة التطبيع معه لن يجلب سوى مزيد من الخسارة والخيبة. مسار التطبيع لن يكون له شأن يذكر في التطورات الاقليمية المقبلة مقارنة بالمكانة التي يحتلها محور المقاومة. هذه المقاومة مترامية الاطراف في المنطقة من لبنان وفلسطين مرورا بسوريا والعراق وصولا الى اليمن، ستكون اقوى واصلب عودا من اي وقت مضى. اذا كان الاميركيون لا يريدون او لا يستطيعون ان يدافعوا عن حلفائهم في الاقليم، فمن باب اولى ان التطبيع مع الكيان الصهيوني لن يتمكن من القيام بهذه المهمة.
* في تشرين الاول 2021، قام وزير الخارجية الايراني حسين امير عبد اللهيان بزيارة الى لبنان مشيرا الى امكان حصول لبنان على استثناءات من العقوبات الاميركية بغية العمل على تعزيز العلاقات التجارية مع ايران؟ هل لمستم بدء هذا المسار؟ وما هو حجم التبادل التجاري بين البلدين؟
– في خصوص الحصول على اعفاءات في مجال العقوبات اعتقد ان الحكومة اللبنانية يجب ان تبادر حيال ذلك، لكننا لم نلاحظ حدوث شيء من هذا القبيل. ربما هم ينتظرون نتائج مفاوضات فيينا. على اي حال هناك استعداد كامل من جهتنا للتعاون في شتى المجالات .
حجم التبادل التجاري الرسمي بين البلدين حاليا لا يعتد به، الا ان الطاقات الكامنة لتطوير الروابط الاقتصادية والتجارية بين الدولتين كبيرة جدا. هناك افاق واسعة للتعاون على تنفيذ المشاريع المرتبطة بالبنى التحتية مثل بناء معامل لتوليد الطاقة الكهربائية، المنشات العمرانية والصناعية وغيرها من الامور الحيوية التي نقوم بمتابعتها مع الجهات المعنية .
* للتبادل الثقافي مكانته بين البلدين وقد شهدنا في اذار فاعليات مهرجان الفجر الثقافي، هل التبادل الثقافي بين البلدين اسهل؟
– التبادل الثقافي بين ايران ولبنان يعبّر عن نفسه في مختلف المجالات، حيث بقي مستمرا بشكل فعال وحيوي كحراك ثقافي فكري على مر التاريخ. السجل الثقافي والادبي والفني لايران مشرق وحافل بالابداعات والاثار الفاخرة التي تصدرت المشهد الثقافي والفني على المستوى العالمي .
فاذا عدنا الى المحطات التاريخية للعلاقات بين البلدين، نجد ان التبادل الفكري والثقافي والفني والعلمي لم يتوقف ابدا حيث شهد نقلة نوعية بعد انتصار الثورة الاسلامية .
ان اقامة ايام الفجر الثقافية في بيروت هي مؤشر لمزيد من تطور التعاون الثقافي والفني بين البلدين الصديقين في المستقبل .والاقبال الكثيف الذي حظي به الاسبوع الثقافي الايراني في لبنان دليل على اننا نسير في الاتجاه الصحيح. باذن الله تعالى سنتابع هذا الامر بكل جدية في المرحلة المقبلة .
* دعم ايران للبنان الدولة ما الذي يعوّقه فعليا؟
– اهم العوامل التي تعوّق تطور التعاون الثنائي والدعم الايراني للبنان هي التدخلات الاميركية في علاقات البلدين والعقوبات والضغوط السياسية والنفسية التي تمارس على الحكومة اللبنانية للحيلولة دون اي تعاون مع الجمهورية الاسلامية الايرانية. السبب الاساسي لهذا السلوك هو ان الاميركيين لا ياخذون في الاعتبار الا مصالح الكيان الصهيوني، متجاهلين شعوب هذه المنطقة وحقوقها المشروعة والعادلة. الاميركيون يتذرعون بحجج واهية لقطع الطريق امام نمو العلاقات الايرانية – اللبنانية وتقدمها. هذه هي السياسة الاميركية المعتمدة في المنطقة عموما تجاه محور المقاومة. نحن على ثقة تامة بأن هذه السياسة ستفشل في تحقيق اهدافها ان شاء الله، رغم الاستماتة الاميركية لبلوغ ذلك .
* ماذا عن دعم ايران للجيش اللبناني والاجهزة الامنية اللبنانية وفي طليعتها الامن العام اللبناني؟
– الجمهورية الاسلامية الايرانية مستعدة للتعاون ولدعم الجيش والمديرية العامة للامن العام وكل المؤسسات العسكرية والامنية. لقد اكدنا على هذا التوجه مرارا وتكرارا، لكن الاميركيين قطعوا الطريق على هذا الامر بالتحديد .
نحن ندعم المعادلة الذهبية المتمثلة بالشعب الجيش والمقاومة في لبنان ولن نبخل في تقديم اي مساعدة لاضلاع هذا المثلث. التعاون بين البلدين في هذا المجال سيكون افضل دعم يمكن ان يقدم للجيش اللبناني، علما اننا في الظروف الخاصة الراهنة مستعدون ايضا لوضع المساعدات الانسانية الصحية والغذائية في تصرف الجيش اللبناني .
* لم يستبعد الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في احد خطاباته احتمال ان تنقب شركات ايرانية عن الغاز والنفط في لبنان، ما هو رايكم في النقاش القائم حول النزاع الحدودي مع اسرائيل؟ وهل ايران مستعدة بشركاتها للمجيء الى مياه المتوسط؟
– نحن نقف الى جانب لبنان، حكومة وشعبا، من اجل احقاق حقوقه وممارسة سيادته الوطنية، برا وبحرا وجوا. النقطة المهمة في ما يتعلق بمسألة الحدود مع فلسطين المحتلة هي تأمين حق لبنان بالكامل في ثرواته البحرية. ان الاسرائيليبن والاميركيين يعملون على استغلال هذه النقطة بالذات للدفع باتجاه التطبيع، الامر الذي يواجه برفض لبناني قاطع، على المستويين الشعبي والرسمي، ومن قبل المقاومة بالتاکید .
نحن جاهزون للتعاون مع الحكومة اللبنانية في شتى المجالات. انتم تعرفون ان الجمهورية الاسلامية الايرانية لديها خبرة وافية وامكانات متطورة في حفر الابار، واستخراج النفط والغاز واستثمار هذه الثروات الطبيعية. اذا ارادت الحكومة اللبنانية التعاون في هذا المجال وطلبت منا ذلك، فنحن على اتم الاستعداد، ولن يتمكن احد من منع هذا المسار .
*ماذا عن الحوار الايراني السعودي وهل سيصب في حال نجاحه في مصلحة المنطقة ولبنان؟ وخصوصا وأن الملف اليمني يبقى متعثرا حسب ما نفهم؟
-الحوار الايراني السعودي قائم في بغداد ولکن حتی الان لم يحدد موعد الجولة الخامسة من هذه المفاوضات. للأسف، فان بعض الممارسات و المواقف السعودية لا ينسجم مع السياق الذي يؤدي الى نجاح هذا الحوار. لا شك ان تحسن العلاقات بين ايران والسعودية لا تصب فقط في مصلحة البلدين بل في مصلحة المنطقة، و يمكنها ان تؤثر بشكل ايجابي على التعاون الاقليمي بشكل عام و تساعد على حل القضايا في المنطقة.
بخصوص اليمن ينبغي للسعوديين ان يوقفوا الحرب على هذا البلد في اسرع وقت ممكن، التدخل العسكري و شن الحرب السعودية على اليمن کان خطأ استراتيجيا. من هنا فان وضع حد نهائي لهذه الحرب و رفع الحصار عن اليمن يخدم مصلحة بلدان المنطقة و شعوبها ، و يساعد على اشاعة اجواء الأمن و الاستقرار في ربوعها.
* ماذا عن مفاوضات فيينا؟ هل تمكنتم من فرض ضمانات معينة تجنب اعادة نسف الاتفاق كما حصل في العام 2018 مع ادارة دونالد ترامب؟ وما انعكاسه اذا نجح على منطقتنا وعلى “حزب الله”؟
-المفاوضات الجارية في فيينا اقتربت من مراحلها النهائية . الاميركيون يتحملون مسؤولية التأخير في انجاز هذا الاتفاق. للاسف فان الولايات المتحدة الاميركية تعلن بشكل رسمي و صريح انها لا تستطيع تقديم ضمانات حول التزامها بهذا الاتفاق الامر الذي يخالف القوانين و التعهدات الدولية. نحن نعمل على التوصل الى اتفاق جيد ومستدام لا يسمح مرة اخرى لمعتوه مثل ترامب ان يتجاهله او يتلاعب به. الاتفاق في فيينا و عودة اميركا الى الاتفاق النووي و التزاماته القانونية يخدمان مصلحة دول المنطقة ايضا . مع رفع العقوبات الأميركية الجائرة ستصبح الأجواء مواتية لتطوير العلاقات وتعزيز التعاون بين الجمهورية الاسلامية الايرانية و دول المنطقة في المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والأمنية والعسكرية . هذا الاتفاق سيكون حتما لمصلحة محور المقاومة و من ضمنه “حزب الله”.
* تبقى سوريا خاصرة لبنان، كيف هو تعاونكم مع الرئيس الاسد ومع القوى الموجودة هناك مثل روسيا؟ وعلام تتفاهمون وعلام لا تتفقون؟
– علاقاتنا مع سوريا هي علاقات استراتيجية استمرت وتعززت على مدى اكثر من اربعين سنة بعد انتصار الثورة الاسلامية وعلى اعلى المستويات. دعمنا سوريا ووقفنا الى جانبها وجانب شعبها في مواجهة المنظمات الارهابية والمؤمرات والحرب الضروس التي استهدفت هذا البلد الشقيق. اليوم نرى بحمد الله تعالى ان هذه المؤامرة الكبرى التي حيكت ضدها لاسقاط دولتها وانتهاك سيادتها وتفتيت ارضها وضرب نسيجها الوطني، قد فشلت وذهبت ادراج الرياح .
في مرحلة اعادة البناء والاعمار ايضا سنقف الى جانب سوريا، حكومة وشعبا، ولن نتردد في تقديم اي دعم يطلب منا على هذا الصعيد. نحن نعتبر ان التطورات في المرحلة المقبلة ستكون لمصلحة الشعب السوري ودولته. في نهاية المطاف، لا بد لكل قوة غاشمة محتلة ان تغادر الارض السورية، حيث لا مكان تحت سماء هذا البلد الابي، لا للارهابيين ولا لحماتهم.