“مقالات مختارة”
موقع “اساس”
مارلين خليفة
طبيب جرّاح. لاعب كرة قدم. مدرّب رياضي. كاتب وقارئ محترف. تلميذ مجتهد حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة منذ شهر.
عايش نائب رئيس “تيار المستقبل” النائب السابق الدكتور مصطفى علوش الحياة السياسية اللبنانية بمراحلها المؤلمة، وعاصر المرحلة الذهبية لـ”تيار المستقبل” مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهو يعيش اليوم تداعيات تفكّك فاعليّة هذا التيار مع سعد الحريري بعد انفجار النظام الذي أُسِّس بفعل وصايات، وفشله في الحفاظ على الدور التاريخي الكبير للبنان.
“طبيب الفقراء”، كما حلم والده بأن يكون يوماً، لا يزال يعمل يوميّاً طبيباً جرّاحاً في “مستشفى النيني” في طرابلس، حيث توقّفت مقابلتنا معه عدّة مرّات بسبب حالات طارئة.
يتميّز علوش بشخصيّته المستقلّة وآرائه الصريحة جداً التي ساعدته على مواكبة سعد الحريري الذي لم يرشّحه لنيابة أو وزارة بعد تسلّمه زمام التيار الأزرق. يشهد الجميع أنّ مصطفى علوش لم يرفّ له جفن، وبقي وفيّاً لابن رفيق الحريري. “أنا رجل لا أُشترى ولا أُباع، ولا يمكن لسعد الحريري أو لسواه أن يشتريني بموقع أو أن يلغي قناعاتي أو احترامي ومحبّتي. تقودني المحبّة أحياناً أكثر ممّا يقودني الاحترام، وعلاقتي بسعد هي علاقة محبّة. وأعتبر أنّه أكثر المظلومين على المستوى السياسي منذ بداياته حتى الآن”.
مصطفى علوش هو ابن باب التبّانة المولود في عائلة ذات ميول قوميّة يصفها بأنّها كانت “أقلّ من متوسّطة الحال”. عاش الحرب بفصولها وأصيب شقيقه توفيق في حروب طرابلس، فأُعيقت حركته، لكنّه أبلّ من الإصابة بطريقة جيّدة بفضل دعم عائلته. هو ابن محمد علوش “الذي تعلّم الكتابة والقراءة لوحده” ومهرديكار خلوف، ابن زواج مختلط سنّيّ علويّ، وهو كبير العائلة. وُلِد في العام 1958. درس في مدرسة الروم الأرثوذكس في بداياته، ثمّ انتقل إلى مدرسة الآباء الكرمليين، ثمّ درس سنة واحدة في الجامعة اللبنانية سافر بعدها إلى فرنسا، ثمّ عاد إلى الجامعة الأميركية حيث درس الطبّ. وبعدما تخرّج سافر إلى ميامي حيث تخصّص في الجراحة.
جرفته القضية الفلسطينية منذ صغره. “منذ طفولتي وأنا أستمع إلى أمّ كلثوم تغنّي للعروبة، وأصغي إلى خطابات جمال عبد الناصر، وكنت أبكي. لطالما شعرت بأنّني أنتمي إلى هذه القضية. أعتقد بأنّ أم كلثوم هي التي كوّنت لديّ الوعي القومي في تلك الفترة، وكنت أتصوّر أنّها هي الأمّة العربية”. في الثامنة من العمر سافر إلى فلسطين في رحلة مع فريق رياضي. زار القدس الشرقية قبل أن تحتلّها إسرائيل بشهرين. “في اللقاء مع القدس شعرت بأنّ فلسطين تغلغلت في كياني، وبقيت أنتمي إلى هذا الإحساس حتى اليوم”.
انتسب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عمر الـ13. “عرّفني إلى الجبهة الشعبية زميل لي في كشّافة “الكرمل”، وهي جمعية مسيحية، اسمه نبيل حرب، وهو زغرتاوي ماروني، استشهد لاحقاً في عملية. كان أهله يعيشون في فلسطين. منذ ذلك الوقت وحتى خروج منظمة التحرير من لبنان في العام 1983، أي قرابة 13 عاماً، التزمت بشكل كامل بالنضال في الجبهة”. يرفض الخوض في تفاصيل العمل الفدائي الذي انغمس فيه، “لا أريد الكشف عن تفاصيل، لكنّني كنت مسؤولاً عن مجموعة استشهد تقريباً كلّ من انضمّ إليها ولم يبق سواي وشخص آخر. استشهدوا في عمليات عدّة خارج الحدود”.
في باب التبّانة، حيث شارك علوش ولداً في معارك الشوارع، كان يوجد في منزل عائلته كتب للفيلسوف الألماني هايدغر ومؤلّفات أنطون سعادة. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يتعلّق علوش بالفلسفة والسياسة. تخرّج منذ شهر فقط من جامعة الروح القدس في الكسليك حيث نال شهادة الماجستير بدرجة امتياز عن أطروحته في الفلسفة التي تناولت الفيلسوف الألماني هايدغر، وهي بعنوان: “الكينونة نحو التجاوز من خلال التكنولوجيا”. وقد درس أيضاً في غضون 8 أعوام الفلسفة واللاهوت والتاريخ. كلّ ذلك جعله ينجح في بناء فلسفته الخاصة، فهو يؤمن بالفلسفة الوجودية، لكنّ فلسفته تجمع بين سارتر وهايدغر، ويصف نفسه بالسياسة بأنّه ليبرالي اجتماعي أو ليبرالي يساري.
في السياق عينه، لدى الدكتور علوش فلسفته السياسية الخاصة، إذا صحّ التعبير، لإدارة “تيار المستقبل” في هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها التيار ولبنان، إذ يرى أنّ الفراغ الذي يحدثه غياب سعد الحريري وتيار المستقبل عن الساحة السياسية “يشكّل إشكالاً كبيراً، وخصوصاً أنّه لا توجد شخصية لديها الجرأة والقدرة على أن تحدث تغييراً، إمّا لفقدانها الكاريزما أو لافتقارها إلى الفكرة السياسية، وهذا ما قد يجعل الفراغ الذي أحدثه سعد الحريري وتيار المستقبل قاتلاً، ولذلك التشرذم هو عنوان المرحلة”.
وسط هذه السوداويّة، يؤكّد علوش أنّ رئيس تيار المستقبل سعد الحريري سيعود إلى لبنان حتماً لمتابعة العمل السياسي من غير أن يقدّم تفاصيل عن الخيارات التي سيعتمدها الحريري، ولا حتى عن عدم ترشّحه في الانتخابات النيابية المقبلة.
بالنسبة إليه شخصياً، لن يترشّح في الانتخابات النيابية المقبلة مع “شخصيات ذات طابع مافيوزي”، مؤكّداً أنّه “لا يمتلك القدرة الماديّة للترشّح”.
يمتلك علوش رؤية شاملة وعميقة لِما جرى في “تيار المستقبل” ولِما آل إليه وضعه الراهن. ففي العام 1984، تعرّف إلى الرئيس رفيق الحريري وواكب مسيرته، وقد رشّحه الأخير للنيابة في العام 2005 قبل اغتياله. يرى أنّ “الخيارات السياسية التي اتّخذها الرئيس الحريري في التفاهم مع “التيار الوطني الحر”، وفشل هذا التحالف، قتلا الحريري شعبيّاً”.
أمّا سبب فشل التحالف فيعود من وجهة نظره إلى أنّ “الثنائي ميشال عون وجبران باسيل صاحبا شخصيّة لا يمكن الركون إليها، وطمعهما بالسلطة لا حدود له، وقدرتهما على إيذاء الخصم والحليف لا حدود لها أيضاً”.
ويذهب الدكتور علوش بعيداً في صبّ جامّ غضبه على هذا التحالف: “سمير جعحع هو مَن أوصل ميشال عون إلى سدّة الرئاسة الأولى وليس “حزب الله”، وجعجع هو مَن أجبر الجميع على اللحاق به. لكن عمليّاً أوّل ما فعله عون هو الانقلاب على جعجع وعلى اتفاق معراب بسبب الرغبة المرضيّة بتوريث جبران باسيل، ففشلت أيّة إمكانية للإصلاح والتغيير، وفشل المشروع الذي استند إليه سعد الحريري لتغيير الأحوال الماليّة، أي مشروع “سيدر” الذي كان قادراً على تشكيل انطلاقة جديدة تنتشل البلد وتمنع الوصول إلى الحالة التي أوصلنا إليها ميشال عون”.
يضيف أنّ “فشل هذا التحالف أسقط كلّ الآمال المعقودة على الرئيس سعد الحريري. أصبح متّهماً بأنّه جزء من المشكلة وليس الحلّ. هذه التسوية الرئاسية مع ميشال عون التي بدت جيدة في ذلك الوقت كانت قاتلة للبنان ولسعد الحريري”.
بمبضع الجرّاح يقدّم الدكتور مصطفى علوش رؤيته للحلول، التي تنطلق برأيه من “تدبير إبداعي قادر على تظهير فكرة ورؤيا جديدتين”. يبدأ هذا التدبير الإبداعي بـ”التيار الأزرق” الذي يصف له علوش دواء “الخيار الثوري”. يقول لـ”أساس”: “هنالك حاجة إلى خيار ثوري في “تيار المستقبل”، وذلك على مستوى القيادات، وخصوصاً تلك الشخصيّات المحترمة في بيروت والبقاع وعكار وطرابلس التي تمّ إهمالها، والتي لم تلوّث نفسها في أيّة لحظة من اللحظات بالفساد. وتوجد ضرورة للخروج من منطق أنّ الناس التي تمتلك المال، ولو كانت فاسدة، قادرة على انتشال الوضع السياسي، ويجب إخراج المهرّجين من الساحة السياسية”. يضيف: “هذه “الحالة الثورية” يجب أن تشمل التيار بمستوياته كلّها، بدءاً من إخراج المنطق العائلي، وقد ذكرت ذلك مراراً على الرغم من أنّ أحمد الحريري صديق لي وأحبّه كثيراً، لكنّي أعتبر من الأساس أنّ إدخال منطق الوراثة العائلية والعوائلية إلى التنظيم قاتل، لذا نحن بحاجة إلى إنجاز في هذه النقطة، وفي الوقت ذاته نحتاج إلى تظهير خيار سياسي يعيد شيئاً من رونق 14 آذار وثورة 14 آذار ونضالاتها، ولا مانع من البدء ولو من الصفر. وإذا قرّرنا الخوض في الانتخابات النيابية لا يمكننا خوضها عبر شخصيّات عليها علامات استفهام“.
لا يمكن إغفال محطات جمعت نائب رئيس “تيار المستقبل” النائب الدكتور مصطفى علوش بالرئيس الشهيد رفيق الحريري في أثناء رواية سيرته.
في العام 1984، لم يعد طالب الطب مصطفى علوش قادراً على دفع القسط في الجامعة الأميركية، وخصوصاً بعد إصابة شقيقه توفيق أثناء الفوضى التي انتشرت في طرابلس، وازدياد التكاليف على عائلته بسبب اضطرارها إلى إرساله إلى فرنسا لأنّ حياته كانت مهدّدة. لكلّ هذه الأسباب قدّم علوش طلباً إلى “مؤسسة الحريري”، فأُعفي من قسط الفصل الأول في الجامعة الأميركية من دون أن يتّصل بأحد. لكن حُجبت عنه المساعدة في الفصل الثاني لأنّ أشخاصاً من طرابلس يعملون في مؤسسة الحريري عرقلوا طلبه بسبب علاقتهم السيّئة مع والده.
ساعدته خطيبته منى إسطا التي صارت زوجته وأمّ أولاده الثلاثة: محمد أستاذ في الولايات المتحدة الأميركية، طارق يعمل في الأمم المتحدة في بيروت، وفرح تتابع دراستها لنيل شهادة الدكتوراه في لويزيانا.
اعتبر الشابّ مصطفى علوش أنّ رفيق الحريري “رجل رأسمالي يريد شراء الناس بالشهادات”.
نال المنحة وقتذاك من دون أن تربطه أية علاقة سياسية بتيار رفيق الحريري. “بدأ اسم الحريري يلمع شيئاً فشيئاً، من دون أن أرى أيّ رابط قد يربطني به”.
في العام 1992، كان علوش في الولايات المتحدة الأميركية حين سمع أنّ الحريري صار رئيساً للحكومة. استبشر خيراً برجل “سيأتي إلى الحكم ولن يحتاج إلى أن يسرق الدولة”.
في العام 1993، عاد إلى لبنان إثر اعتداء إسرائيلي على الجنوب. “بدأت مرحلة نضالية صعبة بعدما عدت مفلساً. لم يكن أحدٌ مقتنعاً بي طبيباً، فكان لسان حالهم يسأل: مَن أنت وابن مَن؟ بدأت في مستشفى النيني وواجهت نوعاً من الاستهتار، فعملت في مستشفيات عكار، وبقيت أناضل لعامين تمكّنت فيهما من إثبات جدارتي وذاع اسمي، وعدت إلى طرابلس، حيث اشتغلت بشكل شبه مجاني”.
في العام 1994، قصد علوش مؤسسة الحريري لردّ المنحة التي حصل عليها. فوجئ المسؤولون في المؤسسة، وكان بلال حمد (رئيس بلدية بيروت الأسبق) رئيساً لجمعية الخرّيجين، فاتصل بعلوش وطلب منه أن يعرّفه على الرئيس رفيق الحريري. أعطاه الحريري موعداً في قصر قريطم عند الساعة السابعة والنصف صباحاً. “فوجئت بذلك كثيراً”. يقول لـ”أساس” عن لقائه الأول مع رفيق الحريري الأب: “كانت الطريق من طرابلس إلى بيروت قديمة وصعبة، فكان لا بدّ من الاستيقاظ باكراً في الرابعة فجراً للذهاب إلى العاصمة. وصلت إلى القصر الذي كان يعجّ بالناس وبالدبلوماسيّين. استقبلني الرئيس الحريري قرابة الساعة 8 و10 دقائق. وسألني بضعة أسئلة وأجبته بشيء من الوقاحة. قلت له: أنا جئت لأنّني أملت بك خيراً. وقلت له بأنّ طريقته تشبه طريقة الأمراء السعوديين. شرحت له الأسباب، فقال لي إنّها مرحلة وتنتهي، ثمّ ننتقل إلى دولة المؤسسات”. يضيف: “كنت في الـ35 في العمر، ثقافتي السياسية أميركية ولا أوقّر أحداً. فوجئ بي، لكنّه التزم الاحترام فلم يحرجني، غير أنّني شعرت أنّ كلامي لم يسقط برداً على قلبه”.
استمريت بالتعبير عن آرائي الشخصية، وقلت له إنّ “السياسيين اللبنانيين سيعتادون طريقته، وسيطلبون قبض أثمان عن كل أمر”. انتهى اللقاء على خير.
بدأ إعجاب مصطفى علوش بالحريري الأب يظهر حين بدأ يقوم بجولات في عواصم العالم مدافعاً عن لبنان، وخصوصاً بعد اعتداء إسرائيل على قانا الجنوبية في العام 1996. وأُعجب به أكثر حين رفض شروط التكليف في العام 1998.
كان علوش قد خاض الانتخابات البلدية ضدّ لوائح تيار المستقبل. “شكّلت لائحتي في العام 1998. خضت الانتخابات ضدّ “تيار المستقبل” وضدّ لائحة عمر كرامي، ونلت 3500 صوت. تفتّحت عليّ العيون مع أنّ لائحتي لم تنجح، لكنّها كانت قادرة على إحداث فارق لمصلحة إحدى اللائحتين لو تحالفت مع أحد الطرفين”. اتّصل به سمير الجسر وأحمد فتفت، وطلبا منه الانضمام إلى “تيار المستقبل”، وبدأ الاجتماع بكوادر التيار.
“سرعان ما ترقّيت من عضو مجلس قضاء إلى عضو مجلس محافظة فناشط، وصرت شخصية بارزة في تلك الفترة. في العام 2004، رشّحوني في الانتخابات البلدية، وحصدت أعلى عدد من الأصوات في طرابلس، وكنت عضو مجلس بلدي إلى أن استشهد رفيق الحريري. قبل استشهاده كنت ألتقي به دوماً، كان مميّزاً بثقته بنفسه وبالمستقبل وتفاؤله. كنت أقول له إنّك يا دولة الرئيس تواجه منظومة قاتلة ولم يكن يقتنع لأنّه كان متفائلاً جداً”.
بعدما نجح علوش في الانتخابات البلدية طلب منه الرئيس رفيق الحريري التهيّؤ للانتخابات النيابية في العام 2005، “فأجبته بأنّني لست مستعدّاً لذلك لأنّني أناضل من أجل بناء نفسي كجرّاح”.
بعد استشهاد الحريري، أعاد النظر في قراره، ولا سيّما أنّ خبر استشهاده في 14 شباط 2005 وقع كالصاعقة على علوش.
يروي لـ”أساس”: “كنت في غرفة العمليات في مستشفى النيني في طرابلس، ثمّ نزلت إلى عيادتي فوجدت الناس في حالة صدمة يمازجها ذهول وبكاء ونحيب. كانت تلك اللحظة المنطلق لمرحلة نضالية ثانية”.
*هل شكّل استشهاد الحريري نهاية مرحلة من تاريخ لبنان أم من تاريخ الطائفة السنّيّة؟
– حدث التحوّل في تاريخ المنطقة كلّها. في ذلك الوقت ثلث السنّة لم يكونوا مع رفيق الحريري، حتى بعد اغتياله. لكنّها كانت المرّة الأولى التي يصبح فيها للطائفة السنّيّة زعامة شبه مكتملة. وقتئذٍ خرج لبنان من الاحتلال السوري، وبدأ الاحتلال الإيراني يركّز أرضيّته. كانت بداية الهجوم الإيراني الكامل في المنطقة. وكان اغتيال رفيق الحريري مقدّمة للاحتلال الفارسي للمنطقة. وعينا ذلك لاحقاً لأنّنا كنّا تحت الوهم، ولطالما كنت ضدّ حزب الله لأسباب أيديولوجيّة، إذ كنت أعتبر أنّه متى حَكَم الحياة السياسية فكرٌ ديني أو أسطوري وقعت الكارثة.
كيف تلخّص المشروع السياسي لرفيق الحريري؟ وهل انتهى برأيك؟
– نعم انتهى. كانت خطوطه العريضة توسيع قاعدة الرزق للناس، تكبير الاقتصاد، ومحاولة المنافسة بموازاة السلام القادم مع إسرائيل من خلال توحيد القوى العبثية في وحدة اقتصادية متكاملة حتى لا يتمّ ابتلاعها. هذه هي الفكرة الأساسية. وهي فكرة ليبرالية اقتصادية تتحوّل إلى ليبرالية سياسية. انتهى المشروع باغتياله، وبعدم قدرة الورثة، ومن ضمنهم رئيس تيّارنا، على اتّخاذ عِبَر نضاليّة تسهم في القتال من أجل هذه القضية، ولأنّنا دخلنا في لعبة السلطة. لقد أنهانا حزب الله والمشروع الإيراني بلعبة السلطة المحليّة والتنافس المحلّي فيما يقومان بالترغيب والترهيب.
*ماذا كانت نقطة الضعف عند سعد الحريري؟
– لم يكن مشروع رفيق الحريري معزولاً، بل كان مرتبطاً إقليمياً بالسعودية وتفهّمها وتشجيعها، وكان يقوم على تحويل لبنان إلى نقطة انطلاق إلى الغرب وإدخال الغرب إلى العالم العربي.
على المستوى الدولي، كانت تربط رفيق الحريري علاقات وطيدة بشخصيّات، مثل جاك شيراك في فرنسا، وترودو الأب في كندا، اللذين تعرّفت إليهما لاحقاً. لقد ساعدت ظروف دولية الرئيس رفيق الحريري، الذي كان لديه حلم حاول تحقيقه في لبنان. كان على قناعة بأنّ العالم العربي لديه إمكانات هائلة إذا تمكّن من التوحّد حول رؤية اقتصادية مشتركة تتحوّل تدريجياً إلى رؤية سياسية ديموقراطية. عندئذٍ يمكننا مواجهة إسرائيل بالطريقة الأكثر نجاعة بالمقارنة مع الطريقة الحالية.
إنّ التغيّرات التي حدثت على مستوى العالم، مثل خروج جاك شيراك من السلطة ومجيء الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى الحكم، وفشل جورج بوش بتهيئة مشروع جدّيّ على مستوى المنطقة، وعودة المشروع السوري بشكل مختلف، ومحاولة بشار الأسد خداع المشروع السعودي لكي يخرج الإيراني من لبنان وسوريا في مرحلة من المراحل، دفعت سعد الحريري إلى تسويات سياسية في ذلك الوقت، وهذه أصابت مشروع رفيق الحريري في مقتلٍ. كانت صيغة السين سين مقتلاً، وسعد الحريري سار فيها مرغماً.
*هل انتهت مسيرة سعد الحريري؟
– لا أظنّ، فتيّار المستقبل ليس سعد الحريري فحسب، بل هو نحن أيضاً. نحن لن نترك.
هل سيعود؟
– أنا لا أبني على هذا الأمر. أتمنّى أن يعود. ليس بالضرورة أن تكون الزعامة موجودة. الزعامة لا يتمّ فرضها، بل يجب أن تبني ذاتها. أنا لا أحبّذ الزعامة المطلقة، بل الزعامة الوطنية التي تنبثق من خلال خيارات سياسية، وطبعاً لا يوجد مشروع من دون رأس، وهذا أمر أكيد.
لن تُحلّ المشكلة القائمة بين لبنان والسعودية قريباً، لكنّ استعادة شعارات نضالية رفعتها قوى 14 آذار قد تُجبر القاصي والداني على الاعتراف بنا، بحسب ما يقول علوش.
صرّح يوماً بأنّ المملكة العربية السعودية “تركتنا”، ويقول لـ”أساس” في هذا الصدد: “في نهاية المطاف عند طلب مواجهة حزب يتلقّى دعماً مالياً ومعنوياً هائلاً مثل “حزب الله”، لا يمكن ترك الناس لمصيرها”.
* وما رأي الدكتور علوش بطرح خيار العصيان السياسي السنّيّ وعدم المشاركة في أيّة حكومة لا يتضمّن بيانها الوزاري الاستراتيجية الدفاعية؟
– يقول: “أعتبر أنّ خيار عدم المشاركة في أيّ حكومة فيها حزب الله بتكوينه الحالي هو الأفضل للبلد حتى لا تُعطى له الشرعية الدستورية والرسمية، وأؤيّد الذهاب إلى معارضة واسعة النطاق تحمل مشاريع محدّدة بالنسبة إلى حلّ قضية السلاح وإعادة تفعيل الاقتصاد وحلّ الأزمة المالية وتعديل بنية النظام شرط بقاء اتفاق الطائف بروحيّته لأنّه الوحيد القادر اليوم على صون وحدة البلد في ظلّ الجنوح الواضح نحو الانفصال. أمّا عن الاستراتيجية الدفاعية فعلينا ألا نعود إلى طرحها من جديد لأنّها ستكون مجرّد تسويف وتسويغ لاستمرار الحالة الشاذّة المسمّاة “مقاومة” زوراً، فيجب أن لا تدخل مسألة السيادة في مجال المساومات والجدل الطويل الذي لا قرار له”.
عن حالة طرابلس يقول الطبيب الجرّاح: “كادت مدينة طرابلس أن ترزح تحت المزيد من الفقر والبؤس لولا عطاءات المغتربين اللبنانيين، وخصوصاً في أستراليا، و”لولا هؤلاء لكان الوضع مأساويّاً. وقد قالت لي سفيرة أستراليا في اجتماع عقدته معها إنّها تقدّر أنّ قرابة مليار دولار أسترالي، أي 700 مليون دولار أميركي، تدخل لبنان سنوياً من المغتربين في أستراليا”. يعيد مصطفى علوش حالة الفقر المنتشرة في بعض أحياء طرابلس إلى انعدام الاستثمارات. “إنّ وجود أغنياء في المدينة لا يجعلها ثريّة، فلا أحد من هؤلاء استثمر في طرابلس بشكل دائم. فالكثير من هؤلاء مطبوعون على التحفّظ، فلا يتقدّمون خطوة واحدة إلا بعد دراستها بشكل واسع. لا توجد روح المغامرة في رأس المال في طرابلس. لكن لا ننسى أيضاً أنّ طرابلس خُنِقت على مدى 30 عاماً. فمنذ الاحتلال السوري وطرابلس تُعامل كمدينة محتلّة”.
ماذا عن مرفأ طرابلس وهو حيويّ لها وللبنان؟ يقول علوش: “لا يكفي أن يخدم المرفأ الداخل اللبناني فحسب، بل يجب أن تتوسّع خدماته إلى سوريا والعراق. حين كان مرفأ طرابلس مدخلاً للبضائع إلى العراق، وكانت طرابلس مصحّاً لأبناء سوريا، وكان الطلاب يقصدون مدارسها وجامعاتها، كان الأمر مختلفاً. إنّ انغلاق الأفق أمام المدينة، وانغلاق الأفق الجغرافي، والانغلاق الذاتي والمحافظ والمتديّن بشكل معكوس، أي التديّن الانغلاقي، دفعت المدينة إلى هذا الوضع، بالإضافة إلى أنّ أصحاب الرأسمال هم إمّا بخلاء أو جبناء”.
أمّا عن اللافتات العملاقة التي تنتشر في طرابلس وعند مداخلها، وتحمل صور الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ووليّ العهد الأمير محمد، فيعلّق الدكتور علوش: “إنّها تمنّيات البعض بأن يراها أحدهم ويخبر عنها الملك سلمان. هذا الأمر لم يحدث. تحتاج القضية اليوم إلى موقف نضالي يُلزم الآخرين بعرض مساعدتهم علينا، موقف نضالي ضدّ السلاح غير الشرعي”. ويرى علوش أنّه لا يكفي أن يتطرّق الرئيس سعد الحريري مراراً في خطاباته إلى هذا الموضوع، بل “يجب رفع شعار انتخابي وسياسي، ثمّ إعادة جمع القوى الموجودة على الأرض، والخروج من الفراغ السياسي، وإعادة الحركة النضالية، والتحالف مع القوى السياسية”.