“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة
واخيرا ولدت الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي هي المنتظرة لبنانيا ودوليا بعد 13 شهرا من الفراغ الممض في السلطة التنفيذية في ظل حكومة حسان دياب التي رفضت تصريف الاعمال بشكل فعّال حتى في ظل انهيار كارثي يرزح فيه لبنان.
قبل 4 أيام، وتحديدا حين كان مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم يقوم بوساطة لردم الهوّة بين فرقاء محليين جلّهم لا يريدون تشكيل حكومة بل الوصول الى الفراغ التام، كان التناقض في التوقعات فاقعا حتى بين فريق الرئيس نجيب ميقاتي بذاته، وبين خصوم العهد، وبين أنصار عهد الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر أنفسهم.
وحده “حزب الله” كان الصامت الاكبر، ولسان حاله يقول أن ثلاثة يريدون حكومة في لبنان هو ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس نجيب ميقاتي.
الحزب يريد فكّ العزلة اللبنانية وانعاش الاقتصاد المتهاوي وإعادة الاستقرار الاجتماعي. لكن خصومه لا يصدّقون أنه يسعى الى تشكيل حكومة، يهمسون بأنه يؤيد الفراغ التام للذهاب الى مؤتمر تأسيسي، وهو ما دأب المسؤولون في الحزب على نفيه.
بالنسبة الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فقد كان من أشد المتحمسين لتشكيل الحكومة، إلا أن الرئيس وضع القرار بين يدي رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي كان يقوم بالمفاوضات بطرق مباشرة او غير مباشرة. مناوئو العهد كانوا يتهامسون: عون وباسيل لا يريدان تشكيل حكومة، فالعهد الذي يمسك بالحكم عبر حكومة تصريف اعمال، ومجلس دفاع لعله يقايض خصومه: إما الثلث المعطل لحكم البلد، أو الفراغ التام في المؤسسات الدستورية بما فيها رئاسة الجمهورية وصولا الى مؤتمر تأسيسي، وأي عمليا نسف اتفاق الطائف.
أما الرئيس نجيب ميقاتي الذي دخل نادي رؤساء الحكومات سابقا فلا يريد ان يفقد فرصة شاقة لتشكيل حكومة بمهام شبه مستحيلة لانتشال لبنان من الانهيار الذي غرق فيه بل أن يبرز كرجل دولة قبل التحدي من اجل اخراج البلد من قعر الجحيم الذي وصل اليه.
لغاية صبيحة اليوم الجمعة، كان المتضررون من تشكيل الحكومة وهم ينتمون الى اكثر من طرف يعملون من اجل منع ولادتها، حيث برزت في الساعات الاخيرة عقدة وزير الاقتصاد الى أن قرّ الرأي على اختيار الوزير أمين سلام.
ما الذي تغيّر فجأة وجعل ولادة الحكومة متيسرة بعد 13 شهرا افقدت البلد الكثير من الفرص لإعادة الحيوية الى اقتصاده وصار معها الوضع الاجتماعي والمعيشي للناس مأسويا؟
في السياق الدولي، بدأت الولايات المتحدة الأميركية مراجعة عميقة للوضع اللبناني سواء في البيت الابيض أو في الكونغرس وفي الإدارة بشكل عام وذلك منذ أشهر عدّة. وأقر الرأي على أن الانهيار الموجود في لبنان انعكس ايجابيا على “حزب الله” وحليفته إيران وهو لم يكن مأمولا من سياسة التضييق والحصار المباشر عبر قانون قيصر وغير المباشر. وبالتالي ساد رأي بأنه يجب كبح جماح أي طموح ايراني بالتقاط لبنان المنهار.
لا تزال هذه المراجعة قائمة لغاية اليوم بحسب أوساط دبلوماسية متابعة، والوضع اللبناني لم يرسو بعد على شاطئ الأمان، فالتوازنات دقيقة وصعبة كما يقول المعنيون بدءا من سيناريوهات التقسيم ولو كانت صعبة التحقيق، وصولا الى مؤتمر تأسيسي لوضع دستور جديد للبنان، سيكون “حزب الله” المستفيد الأول منه لأنه سيجعل الطائفة الشيعية للمرة الأولى تدخل جنّة السلطة التنفيذية.
بقيت الحكومة في الداخل اللبناني ضمن اطار التوقعات المتضاربة والمتأرجحة.
في هذا الوقت كان اتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الايراني رئيسي، وكانت اتصالات أميركية رفيعة المستوى بالرئيسين عون وميقاتي تحثّ على تشكيل الحكومة مهما كلّف الأمر. أما الأوروبيون، فبقوا يلوّحون بالعقوبات لآخر لحظة، وقد حدد البرلمان الأوروبي 14 الجاري تاريخا لعقد جلسة لوضع عقوبات على مسؤولين لبنانيين بتهم الفساد والاعتداء على حقوق الانسان.
إذا، اشتدّ الضغط الغربي، وهذا لم يأت من فراغ، بل نتيجة المراجعة الاميركية المستمرة للوضع اللبناني. وبحسب الاوساط الدبلوماسية: لا تريد الولايات المتحدة الاميركية سقوط لبنان كليا بين احضان ايران، وهنا يجب التشديد على كلمة كليا”. وتضيف الاوساط بأن “الولايات المتحدة الأميركية انسحبت من افغانستان وتزمع الانسحاب من العراق ومن سوريا وهي غير مهتمة الآن بالمنطقة كما في السابق عينها على الشرق الصيني”. وتذهب الاوساط الواسعة الاطلاع الى القول لموقع “مصدر دبلوماسي”: “حتى المملكة العربية السعودية لا يبدو أنها تلاقي الاهتمام الأميركي كما في الماضي بل إن إدارة الرئيس جو بايدن مهتمة أكثر بأدوار بقية الدول الخليجية لا سيما قطر”. أولى المؤشرات على هذه الانعطافة الاميركية تمثل كالآتي: “القبول باستجرار الكهرباء الى لبنان عبر سوريا والغاز المصري الى لبنان في استثناءات غير مسبوقة من “قانون قيصر” مع العلم ان ثمة تفاصيل لوجستية ومالية ليست بسهلة”.
هكذا أنجبت المصالح الدولية وأولاها كبح الولايات المتحدة الأميركية لطموحات إيران في لبنان حكومة نجيب ميقاتي، لكن المعركة لم تنته هنا. فالملف اللبناني مشتعل على أكثر من جبهة اقليمية تتنازع الطموح بأن يكون لديها موطئ قدم في لبنان: إيران وبواخرها من المشتقات النفطية أول الواصلين وأقواهم وهي تلتقط لحظة الفراغ السعودي في لبنان، السعودية لا تزال منكفئة لبنانيا، فعين ولي عهدها الامير محمد بن سلمان على خططه ولا سيما 2030، وعلى اليمن، وعلى الانفتاح على الشرق الصيني بعد ان استشف تعاط غير ودي من ادارة بايدن، هنالك تركيا ايضا ذات الطموح الواضح في شمالي لبنان، ولا ننسى الامارات العربية المتحدة التي تطمح لوراثة دور السعودية في لبنان وعينها على بناء مرفأ بيروت وهو قاعدة لا تقل اهمية من قواعد اليمن وافريقيا. كذلك توجد سوريا، الجارة التي تفيد المقولة التاريخية بأن لبنان لم يخرج من سوريا وسوريا لم تخرج من لبنان بالمعنى المجازي، وبالمعنى السياسي فإن تفعيل الاتفاقيات بين البلدين جار على قدم وساق وتشكيل الحكومة سيعيد الكثير من الاتفاقيات الى الحياة، وسيكشف عن تنسيق مستمر وغير منقطع مع سوريا سياسيا وعسكريا، تنسيق توطّد اخيرا ولم يحظ يوما بتغطية الاعلام اللبناني منذ العام 2011، وسيكون تفعيل المجلس الاعلى اللبناني السوري برئاسة رئيسي البلدين من الملفات التي ستطرحها الحكومة الجديدة.
كل هذا الحراك الدولي، ترافقه “حركات” اللاعبين اللبنانيين “وألاعيبهم المحلية” المرتبطة بمصالح الدول: بعضهم يريد التقسيم وآخرون نسف الطائف وآخرون مؤتمر تأسيسي، الثابت الوحيد في هذه المعمعة أن الخارج شكّل الحكومة وأن اشعاع الحضور الايراني في لبنان عبر سفن المشتقات النفطية فعل فعله حتما في تسريع المراجعة الاميركية وتنشيطها بعد ان كانت تسير ببطء.
لكن لبنان لا يزال على كفّ العفاريت الدولية وتشكيل الحكومة هو بداية المعارك الطاحنة.