“مصدر دبلوماسي”
القى السياسي اللبناني ومنسق “التجمع من اجل السيادة” الزميل نوفل ضو كلمة اليوم من على منبر جامعة الدول العربية بعنوان “ررؤية العوربة: خريطة طريق الى التسامح والسلام والتنمية في دول ما بعد الصراع” في حضور البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ورئيس المجلس العالمي للتسامح والسلام احمد الجروان. ويشارك ضو منذ يومين في مؤتمر التسامح والسلام والتنمية المستدامة الذي تنظمه الجامعة العربية والمجلس العالمي للتسامح والسلام.
ينشر موقع “مصدر دبلوماسي” نص الكلمة الكاملة للزميل نوفل ضو، وقد واكب موقعنا رؤيته للعوربة منذ تنظيمه مؤتمرها الاول في فندق البستان في العام الفائت.
في ما يأتي النص الكامل:
في زمن يضج بمؤتمرات واجتماعات ولقاءات ومنتديات لإدارة الحروب والصراعات وما ينتج عنها من كوارث انسانية وأزمات اقتصادية، يأتي لقاؤنا اليوم في رحاب جامعة الدول العربية تحت عنوان التسامح والسلام والتنمية الاقتصادية حاجة انسانية وضرورة ماسة في إطار تطلعنا الى مرحلة ما بعد الصراع الذي لا يزال قائما في كثير من دولنا العربية، ومن بينها بلدي لبنان، وفي اطار التعبير عن قناعتنا بدور التسامح في الوصول الى السلام، ودور التسامح والسلام في بلوغ التنمية الاقتصادية. فالحلول الاقتصادية مستحيلة من دون حلول سياسية. والحلول السياسية مستحيلة بمعزل عن التسامح والسلام.
من هنا تركز عملنا خلال السنوات الماضية على بلورة رؤية جيوسياسية أسميناها “العوربة”، نرى فيها مساهمة فكرية وسياسية وثقافية وحضارية في تسليط الضوء على مفهوم جديد للعروبة يؤدي الى نظام عربي حديث وجديد، من شأنه أن يساهم في إخراج الدول العربية الغارقة في الصراعات الى رحاب المستقبل الواعد على قواعد التسامح والسلام والتنمية المستدامة.
التعريف:
“رؤية العوربة” أو COSMOARABISM VISION بالإنكليزية أو VISION COSMOARABISME بالفرنسية هي رؤية جيوسياسية تقوم:
1- على بلورة مفهوم جديد للعروبة الحديثة كرابطة حضارية بين دول المنطقة وشعوبها، يلبي المتطلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للقرن الواحد والعشرين، ويكون بديلا عن المفاهيم الأيديولوجية المتعددة والقومية المتناقضة التي تم اعتمادها لتعريف العروبة خلال القرن الماضي.
2- على بلورة نظام عربي جماعي جديد يواكب العولمة ويبني معها شراكة متكافئة تضمن للعرب موقعهم ودورهم وتأثيرهم في النظام العالمي المتغيّر باستمرار، كما تضمن الحفاظ على الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والحضارية والتراثية للشعوب والمجتمعات العربية.
المصطلح:
مصطلح “العوربة” هو تعبير مبتكر ومركب من كلمتي “العولمة” و”العروبة”، ونقصد به “عولمة العروبة” أو “العروبة المعولمة”، أي النموذج العربي من العولمة، أو الشراكة والمساهمة العربية في بناء العولمة لمواكبة “عصر التكنولوجيا”، بعدما تداعى “عصر الايديولوجيا” وما تلا هذا التداعي من متغيرات وتحوّلات في كل أرجاء العالم بما فيها الدول العربية.
أما باللغتين الفرنسية والإنكليزية فاعتمدنا مصطلح COSMOARABISM / E وهو مصطلح مبتكر ومركب من:
- الكلمة اللاتينية COSMO التي تعني “العالمية”
- والترجمة الفرنسية والانكليزية لكلمة العروبة ARABISM / E.
لقد تعمدنا في المصطلح الذي اعتمدناه للتعبير عن رؤيتنا للبعد العالمي للعروبة الحديثة او العروبة الجديدة، الابتعاد عن استخدام الكلمتين الرائجتين للتعبير عن “العولمة”: MONDIALISATION بالفرنسية و GLOBALIZATION بالانكليزية. فرؤية “العوربة” تهدف الى المساهمة في معالجة الإشكاليات والتحفظات والمخاوف التي يثيرها المسار الحالي ل “العولمة”، لا سيما لناحية التهديد الذي يمكن أن يشكله هذا المسار للخصوصيات والعادات والتقاليد والمعتقدات والثقافات والحضارات خصوصا في الدول والمجتمعات العربية.
ف”العوربة” هي رؤية لترجمة التعددية الثقافية والفكرية والسياسية ولحوار الثقافات والحضارات والأديان والمعتقدات وتفاعلها عبر العالم، ولتطوير الدول والمجتمعات وتحديثها من خلال الاستفادة من خبرات بعضها وتجاربها مع الحفاظ على خصوصيات كل منها وميزاتها.
المفهوم الجيوسياسي ل”العوربة”:
تعني “العوربة” بالمفهوم الجيو سياسي، النظام الجماعي العربي الجديد والحديث والمتكامل الذي يتشكل من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية لمواكبة القرن الواحد والعشرين، والذي بدأت أسسه السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية تتبلور مع بروز الرؤى الإصلاحية والتنموية المستقبلية والمستدامة التي أطلقتها دول عربية عدة، لا سيما الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربي على شكل مشاريع اقتصادية وتنموية واستثمارات داخلية، تواكب مفاهيم جديدة لطبيعة العلاقات الدولية بعيدا عن الأحلاف الجامدة، وتحت سقف مقاربة حديثة ومنفتحة للعلاقات الإنسانية والحوار بين اتباع الأديان، والتفاعل بين الثقافات والحضارات.
و”العوربة” هي خيار حرّ بديل عن الالتحاق بالاصطفافات الدولية والانخراط في الصراع بين القوى العظمى، القديمة منها أو الناشئة، للسيطرة على العالم وثرواته الطبيعية ومقدرات شعوبه الاقتصادية. وهي بديل عن الالتحاق بالأحاديات والثنائيات والتكتلات والأحلاف الاستقطابية. إنها مساهمة عربية في بناء توازن عالمي بعيدا عن مشاريع الغلبة، وعامل وصل وتكامل انساني يحافظ على التعددية ويصون مركبات الهويات ويحميها من نظريات الصهر والتذويب. إنها رؤية شراكة كاملة ومتكافئة لا تميز بين لون وعرق ومعتقد، تهدف الى بناء حضارة التسامح والسلام العالمي والكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة.
العوربة هي عالميا:
- العروبة المتحالفة مع الولايات المتحدة الاميركية من دون استتباع
- العروبة الصديقة لروسيا من دون أن تكون جزءا من خصوماتها
- العروبة الشريكة للصين من دون ان تنجر الى حروبها الاقتصادية
- العروبة المنفتحة على أوروبا من دون الانغلاق على اليابان والهند واميركا اللاتينية واوستراليا وغيرها
والعوربة هي اقليميا:
- العروبة المتعاونة مع ايران متى توقفت عن التدخل في شؤون الدول العربية وزعزعة استقرارها ومتى تخلت عن مشاريع الحروب ونشر الأذرع الهدامة في المنطقة.
- العروبة المتفاهمة مع تركيا متى امتنعت عن رعاية وتشجيع وايواء الجماعات والأحزاب المسيئة لأوطانها ومجتمعاتها
- العروبة المتعايشة حتى مع اسرائيل متى اعترفت اسرائيل للشعب الفلسطيني بدولته وحقوقه وتخلت عن سياسة التوسع الجغرافي بالقوة لمصلحة التعاون الانساني بالتفاهم.
“العوربة” هي عروبة الحياد الإيجابي والناشط والفاعل في بناء الحضارة الإنسانية الجامعة، وهي المظلة العربية الواقية للحياد الذي يطالب به البطريرك الراعي الحاضر بيننا للبنان، وطريق كل دول المنطقة الى السلام والاستقرار والازدهار.
“العوربة” والإنسان:
تنطلق رؤية “العوربة” من التراكمات التاريخية ودروسها وعبرها، الإيجابية منها والسلبية، لتوفر:
- للإنسان الفرد ما يحتاجه من مقومات للنمو الفكري والجسدي في افضل الظروف الصحية والتربوية والخدماتية، ولحياة كريمة في المراحل العمرية كافة من الطفولة الى الشيخوخة مرورا بالمراهقة والشباب.
- وللجماعات والمجتمعات الأجواء الملائمة لحرية التفكير والرأي والمعتقد للتفاعل والتعاون حاضرا ومستقبلا.
“العوربة” والهوية:
“العوربة” هي رؤية تكاملية تعاونية جامعة ومتحركة، بعيدة عن نظريات التذويب والانصهار، عابرة للحدود مع الحفاظ عليها كرمز سيادي للدول، وعابرة للغات المحلية مع صون ديمومتها، وعابرة للأعراق والقوميات والاثنيات مع احترام تنوعها، وعابرة للثقافات والحضارات مع التمسك بميزاتها، وعابرة للمعتقدات الدينية مع الاستثمار في غناها وقيمها الأخلاقية.
إنها بيئة اقليمية جغرافية واجتماعية وادارية وقانونية وسياسية واقتصادية وصحية وخدماتية:
- تساوي بين أبنائها في الحقوق والواجبات،
- وتضمن لمواطنيها خصوصياتهم التي تكوّن هويتهم الإنسانية المركبة،
- وتؤمّن لهم متطلبات العيش المشترك والتعاون والتفاعل والتكامل، سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وقواعد التنافس الشريف،
- وتنتج”سلّم قيم” انسانية يحترم الحياة الكريمة للبشر ويؤمن لهم العدالة الاجتماعية والرفاه والسعادة والازدهار والتنمية المستدامة
- وتقوم على استثمار الثروات الوطنية والطبيعية في بناء إنسان ريادي ومثقف ومنفتح على الآخر المختلف في سبيل بناء حضارة السلام والتسامح والتنمية والأخوة الإنسانية بعيداً عن مشاريع الحروب والتوسع والتسلط والفرض والقهر.
الأطر التنفيذية ل “العوربة”:
لقد خطت دول مجلس التعاون الخليجي خطوات متقدمة في هذا الاتجاه، من خلال رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية، ورؤية 2030 في الإمارات العربية المتحدة، ورؤية 2030 في دولة قطر، ورؤية 2030 في مملكة البحرين، ورؤية 2035 في دولة الكويت، ورؤية 2040 في سلطنة عمان… وانضمت دول عربية غير خليجية الى هذا المسار، فكانت رؤية 2030 في جمهورية مصر العربية، ورؤية 2030 في المملكة الاردنية الهاشمية ورؤية 2030 في المملكة المغربية.
في المقابل لا يزال عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي يعصف بدول عربية عدة كلبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر وفلسطين وغيرها من الدول.
إن ما تعيشه الدول العربية اليوم، شبيه بما عاشته أوروبا بعد سقوط جدار برلين… فالوضع الاقتصادي والتنموي في دول الخليج العربي يشبه وضع فرنسا وألمانيا في تلك المرحلة… والوضع في الدول العربية التي شهدت ولا يزال بعضها يشهد حالات من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني يشبه ما عاشته دول أوروبا الشرقية في تلك الفترة.
فألمانيا الشرقية التي اختارت الانضمام الى ألمانيا الغربية سرعان ما اندمجت في بيئة التسامح والسلام والتنمية… وكذلك فعلت دول أوروبية عدة باختيارها الانضمام الى بيئتها الطبيعية في الاتحاد الأوربي… في حين دخلت دول أخرى كيوغوسلافيا السابقة في صراعات وحروب عرقية وطائفية ومذهبية وقومية دمرت اقتصاداتها وقسمت شعوبها وشتّتت وحدتها… لتعود بعد الأثمان الباهظة التي دفعتها الى كنف بيئتها الطبيعية في الاتحاد الاوروبي.
وفي واقعنا العربي قدمت مصر بعد خروجها من تداعيات ما عاشته بين العامين 2011 و 2013 نموذجا ناجحا من التعاون السياسي والاقتصادي والتنموي مع أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربي الست، حتى أنه أصبح بإمكاننا الحديث عن نواة نظام عربي جديد من خلال “مجموعة 6 + 1” (أي دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر) … وقد جاءت قمة جدة في تموز 2022 التي ضمت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والاردن والعراق لتبشر بإمكان توسيع هذه النواة بحيث نصل الى يوم نرى فيه الدول العربية الإثنتين والعشرين في مسار واحد نحو نظام عربي جديد يحوّل دولنا الى “أوروبا جديدة” ويشارك في بناء العولمة على قيم التسامح والسلام والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة، ويسمح ل”الدول العربية” وشعوبها بأن تتعاون وتتكامل وتصبح جزءاً فاعلا ومقررا من النظام العالمي ومتفاعلا معه، مع الحفاظ على خصوصياتها وثقافتها وحضارتها وتاريخها وقيمها الدينية وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية.
آليات العمل:
إن مساهمتنا في نشر ثقافة التسامح والسلام والتنمية المستدامة من خلال “رؤية العوربة” تقوم على مجموعة من الأطر التنظيمية أبرزها:
- الهيئة التأسيسية لمجلس أمناء “رؤية العوربة” وهو مجلس يضم قادة الرأي والأكاديميين الذين وضعوا رؤية العوربة والذين سينضمون اليهم للمساهمة في بلورة هذه الرؤية وتطويرها ونشرها.
- أكاديمية “العوربة” للتثقيف السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومهمتها تنشئة جيل الشباب والكوادر المهنية، وفي برنامجنا لهذه السنة بإذن الله تخريج ما بين 300 الى 500 كادر شبابي بحسب ما تسمح به الظروف واتفاقات التعاون والشراكة التي نعمل عليها. وهنا لا بد لي من توجيه الشكر الى المجلس العالمي للتسامح والسلام بشخص معالي الرئيس احمد الجروان الذي أخذ على عاتقه دعم هذه المبادرة ورعايتها.
- المنهج الجامعي “العوربة” لشهادات الليسانس والماجستير والدكتوراه في اختصاصات العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدبلوماسية الذي بدأنا السنة الماضية بتدريسه في جامعة ESUIP الفرنسية في باريس والذي سنباشر قريبا بتدريسه بالتعاون مع الجامعة اللبنانية الكندية وغيرها من الجامعات في لبنان.
- مركز الشرق الاوسط وشمال افريقيا للابحاث والدراسات الاستراتيجية وهو مركز يعنى بمواكبة الشؤون البحثية والاعلامية المتعلقة ب”رؤية العوربة”.
- المركز اللبناني للبحوث والحوار المسيحي الإسلامي – تعارف الذي يعنى بتمتين العلاقات الإنسانية في المجتمعات العربية على قاعدة سلم القيم الدينية والاخلاقية التي تنشر ثقافة التسامح والسلام والاخوة الانسانية والاعتدال والحوار والانفتاح.
أخيرا،
أتوجه بالشكر الى جامعة الدول العربية على ما قدمته لنجاح هذا المؤتمر… كما أتوجه بالشكر الى معالي الرئيس أحمد الجروان على الفرص المتلاحقة التي يؤمنها من خلال نشاطات واعمال المجلس العالمي للتسامح والسلام.
واسمحوا لي في النهاية أن أخص بالتحية والعرفان والتقدير صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي لبى الدعوة الى هذا المؤتمر والذي لم يترك هذه القاعة على مدى يومين كاملين من اعمالنا كتعبير منه عن ايمانه وتمسكه وحرصه على تشجيع ثقافة التسامح والسلام وهو الذي اتخذ شعار “شركة ومحبة” عنوانا لحبريته يوم انتخابه على سدة بطريركية انطاكية وسائر المشرق للموارنة، وهو الذي جمع ويجمع بين الحفاظ على الاصول التراثية السريانية لكنيستنا المارونية وبين الهوية العربية الحضارية لأبنائها في لبنان والدول العربية.