مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
تنطلق العلاقات الدولية في مجملها من “النظرية الواقعية” المرتكزة الى المصلحة الوطنية والقوة وتوازن القوى. لكن لهذه النظرية اشكال عدة تتغير مع تغير المتحكمين بمصائر غالبية الدول. فما هي النظريات التي تحكم العلاقات الدولية وتشرح سلوك الدول حيال بعضها البعض؟
لا يعدّ تحليل الاسس والمعايير التي تحكم العلاقات بين الدول امرا بسيطا ويرتبط فعليا بتفسير العلاقات السياسية القائمة منذ قرون من حيث صراع النفوذ والاستراتيجيات والتحالفات، من هنا تنبثق اهمية معرفة ما يسمى بقوانين الجغرافيا السياسية والنظريات التي توجه الحوادث السياسية في العالم.
تتعدد النظريات التي تفسر حقيقة العلاقات بين الدول والاسباب التي تقود الى الحروب او التحالفات ومنها النظرية الواقعية التي شكلت الظاهرة الاساسية التي تحكم العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا في العام 1648 ونشوء الدولة المؤسساتية القائمةعلى مبدأ السيادة الوطنية. في هذا السياق تقدّم الباحثة في الشؤون الدولية رانيا حتي شرحا وافيا لهذه النظريات. تقول حتي لـ”الامن العام” بأن “العلاقات بين الدول تحكمها المصالح السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، وتسعى الدول المعبرة عن المصلحة الوطنية الى التفتيش عن القوة في عالم تسوده الفوضى والنزاعات المستمرة، ما يدفع كل دولة الى تحصين ذاتها لمنع الدول الاخرى من الاعتداء عليها وتهديد امنها. اما السلام والاستقرار من وجهة نظر هذه الدول فلا يمكن ان يتحقق الا من خلال توازن القوى”. بعد “النظرية الواقعية”، تنطلق حتي لشرح “النظرية الليبرالية” والتي تعني امكانية التعاون بين الدول من خلال انشاء مؤسسات ومنظمات معنية بتحقيق التعاون في تقليص حدّة النزاعات. فيما الامن والاستقرار بحسب الفكر الليبرالي لا يتحقق الا من خلال ايجاد القيم والمصالح المشتركة مقابل تقليص الابعاد العسكرية فتتشابك حينها المصالح الاقتصادية التي تؤدي بدورها الى تحقيق الرفاهية لجميع الفاعلين الدوليين”.
بعد انتهاء الحرب الباردة وبزوغ عصر العولمة “تطورت النظريات التي تفسر طبيعة العلاقات بين الدول، فبرزت مدارس جديدة منها “النيوليبرالية الاقتصادية”، ونظرية غرازنر حول “الانساق الدولية” اي القواعد والقوانين التي يجب ان تحكم العلاقات الدولية، فيما فرضت “نظرية الاعتماد المتبادل” لجوزف ناي وروبير كوهين نفسها بفضل ازدياد التجانس الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين الدول في ظل تقلّص الحواجز بين الدول”.
في السياق عينه، رتب انهيار الاتحاد السوفياتي مجموعة نتائج اسهمت في تكوين ملامح الفترة التي يتسم بها النظام الدولي في العلاقات الدولية. تشير حتي:” خلال تلك الحقبة تربعت الولايات المتحدة الاميركية على قمة النظام الرأسمالي بما تملكه من قدرات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية، ما عدّ بمثابة انتصار للنموذج الرأسمالي الاميركي. فبفضل “القوة الناعمة” والعولمة استطاعت الولايات المتحدة التحكم باللعبة السياسية الدولية وبمفاصل النظام الدولي عن طريق الجاذبية ومن ثم استفرادها على الصعيد الدولي من دون منازع.
في هذا الاطار، لم تكن الولايات المتحدة الاميركية الوحيدة التي استطاعت الاستفادة من اقتصاد السوق والعولمة النيوليبرالية، إنما دول عدة مثل دول “البريكس” استطاعت بما فيها الصين، تركيز نشاطها الاقتصادي على القطاع الثانوي من خلال انتاج سلع بتكلفة منخفضة في سياق العولمة. هذا التنظيم للاقتصاد الدولي سمح لبكين تطوير صناعتها والاستفادة من عمليات نقل التكنولوجيا. فمنذ العام 1990 وحتى العام 2020 بدأت العلاقات الدولية تهتز بسبب تغيّر موازين القوى الدولية في ظل تضاعف الناتج القومي الصيني بمقدار 14 ضعفا تقريبا”.
في هذا السياق المتجدد، أنشأت الصين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية والذي بلغ عدد اعضائه 103 من الدول. يقوم المصرف الآسيوي باقراض العديد من الدول النامية، بما يشكّل منافسة لدور البنك الدولي، هكذا تمكن العملاق الصيني من تحقيق ما يسميه كثر معجزة اقتصادية خلال العقدين الماضيين، فيما عانى الاقتصاد الاميركي من ازمة حادة في العام 2008.
هذا الوضع القائم أدى إلى المنافسة بين الصين والولايات المتحدة الاميركية – كما تقول حتي-ويمكن اخذه كنموذج في العلاقات الدولية، بحيث شكل احدى النقاط الرئيسية التي ترتكز اليها النظريات لفهم سلوك وحوافز تلك الدول وتأكيد للنظرية الواقعية التي عرّفناها بداية، والقائمة على المصلحة الوطنية والقوة وتوازن القوى. بعد الصعود الصيني وانحسار السيطرة الكاملة للولايات المتحدة الاميركية زادت الحدة في العلاقات الدولية وباتت اشد تعقيدا في عالم تسوده الفوضى”.
ازداد التأزم في العلاقات بين تلك الدول بعد تفشي جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية الكارثية على العالم. تشير حتي:” بعد جائحة كورونا “انعدمت النظريات التعاونية لتتغلب عليها المصلحة الوطنية والذاتية والانانية، الامر الذي عزز طبيعة الصراع وحرب الكل ضد الكل. ولكن بالرغم من التنافس والصراع الاقتصادي الشرس اعطت نظرية “الضرورة” و”عبر الوطنية” حلولا لمعالجة القضايا العالمية في ظل التناقضات الحاصلة وعدم تجانس المصالح بين الدول الكبرى بهدف حصر الخلافات والعودة الى “الاعتماد المتبادل المعقد” بالرغم من “الدولاتية” المسيطرة في العلاقات الدولية (الدولاتية: تعني الدولة بمقوماتها الخمسة السلطة والشعب والاقليم والشخصية القانونية والسيادة)، ومناهضة الخلل عبر الارتكاز الى القانون والقواعد الدولية و اعطاء دور للحوكمة الدولية التي تشمل الجهات الرسمية وغير الرسمية لحل القضايا عبر الوطنية والابتعاد عن الهيمنة التي تؤثر في تلك العلاقات في ظل هذه التحديات الآنية”.
باختصار، في القرن الحادي والعشرين، لا يزال العالم يعيش في نظام عالمي فوضوي وخصوصا بعد احياء جائحة كورونا للصراعات من جديد بسبب الركود الاقتصادي. ولكن ينتظر من اللاعبين الدوليين والمنظمات الحكومية وغير الدولية ومن بينها الافراد والمنظمات غير الحكومية، توسيع آفاق النقاش للدخول الى معالجة الخلل وحل المشاكل الانسانية بطريقة تشاركية وتعاونية، واتخاذ الاعتماد الاقتصادي والصحي والبيئي المتبادل اطارا جديدا لتجنب الخلافات والصدامات بين الدول. تشري حتي:” لا شك بأن تنامي الاعتماد المتبادل يقلل من احتمالية نشوب حروب باردة حقيقية او حروب ساخنة لان كل الدول لديها حوافز للتعاون في عدد من المجالات بما فيها الامن الصحي. في الوقت نفسه، ان سوء التقدير مثل خطر “السير اثناء النوم” يؤدي إلى كارثة بشرية. ومن المؤكد بأن هكذا ترابط وتفاعل في شتى المجالات الصحية والبيئية الخ….تسهّل من احتمالية التعاون والسلم والاستقرار. اما عكس ذلك، فيمكن ان يؤدي الى “تدمير شامل مؤكد ومتبادل” وربما يفكك القواعد القانونية التي تقوم عليها العلاقات الدولية وقد يشعل العالم. فبالرغم من بعض قوة الدول و ضعف بعضها الآخر على الساحة الدولية، الا ان جميع الدول بحاجة للتعاون والتشارك لتفادي الوصول الى الانهيار”.
وتختم حتي بقولها:” يبقى الحل الامثل في السعي الى اتفاق على انشاء مؤسسات عبر وطنية، او اطر قانونية عليا، تديرها حوكمة دولية يتم الاحتكام اليها لعلاج الخلافات، لتبقى عاملا مهما في تجنب الصدامات الدولية بما فيها بين الصين والولايات المتحدة وبقية الدول كاطار لتسوية الخلافات، فضلا عن اعتماد الاطر المؤسسية، او القانونية التي تؤدي الى لعب دور مهم في ادارة النزاعات ومعالجة المشاكل والتحديات والتهديدات العالمية المشتركة. وربما قد تقلل تلك الاطر من العلاقات الدولية الاكثر تشددا وانانية والاتجاه نحو علاقات دولية اكثر انسانية والخضوع مجددا لقواعد قانون دولي لا تتحكم فيها الانتقائية والاستنسابية”.