مقالات مختارة
موقع “أساس”-مارلين خليفة
أنهت رسالة نصّية تتطلب قراءتها ثلاثين ثانية حقبة نضال دامت ثلاثين عاما خاضها القيادي في “التيار الوطني الحر” ميشال دو شاديريفيان في المعترك الدبلوماسي بهدف توضيح وجهة نظر “التيار الوطني الحر” في المحافل الدولية، ولمّا حاول توضيح وجهة نظر الدبلوماسية الدولية تجاه “التيار” تمّ فصله.
أنهت رسالة نصّية، تتطلّب قراءتها ثلاثين ثانية، حقبة نضال دامت ثلاثين عاماً خاضها القيادي في “التيار الوطني الحر” ميشال دو شاديريفيان في المعترك الديبلوماسي بهدف توضيح وجهة نظر “التيار الوطني الحر” في المحافل الدولية، ولمّا حاول توضيح وجهة نظر الديبلوماسية الدولية تجاه “التيّار” فُصِل منه.
لِمَن لا يعرف، ميشال دو شاديريفيان هو أول مسؤول عن الاتصالات الديبلوماسية يستمرّ في موقعه طوال هذه المدة منذ عيّنه العماد ميشال عون حين كان رئيساً للحكومة الانتقالية عام 1990، واستمر لغاية 26 نيسان الجاري، حين تلقّى رسالة نصية من رقم مجهول تبلّغه قرار فصله من “التيار الوطني الحر”، وتطالبه بتسليم بطاقته الحزبية.
سبق لدو شاديريفيان أن قدّم استقالته في كانون الأول الفائت على خلفيّة عجزه عن إقناع رئاسة الجمهورية وقيادة “التيار الوطني الحرّ” بأنّ ثمة مناخاً ديبلوماسياً عربياً ودولياً “قد يكون صحيحاً أو خاطئاً” يحمّل مسؤولية عدم تشكيل الحكومة لقيادة “التيار الوطني الحر”. ردّة فعل رئاسة الجمهورية كانت هادئة، إلا أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل رفض تحميله المسؤولية عمّا يحصل، معتبراً أنّ معلومات السفراء خاطئة، واضعاً نفسه في موقع دفاعي. عند هذا الحدّ، ولما تعذّر على دو شاديريفيان إيصال رسائله المتعدّدة، وهو أوّل من حذّر من عقوبات أوروبية ضد التيار ورئيسه، قال لباسيل:” ما بقا بدّي”، وبعث باستقالته الخطّية إلى نائب “رئيس التيار الوطني الحر” مي خريش.
لكن ما الذي حدا دو شاديرفيان إلى الاستقالة، وهو يعمل في المعترك الديبلوماسي والدولي منذ تسعينيات القرن الفائت ومرّ بمطبّات عدة؟
يقول لـ”أساس”: “لم يعد بإمكاني الدفاع عن سياسة “التيار الوطني الحر” في المجتمع الديبلوماسي، فأينما حضرت لا أسمع سوى انتقادات للتيار الذي أمثّله، فقرّرت التنحّي حفاظاً على صدقيّتي ومبادئي التي عملت من أجلها”. دو شاديريفيان، أحد مؤسّسي “التيار الوطني الحر”، يقلّب مئات الصور الأرشيفية لاجتماعات مع كبار الديبلوماسيين والمسؤولين الدوليين وإلى جانبه العماد ميشال عون. ولكن أيضاً النائب جبران باسيل، الذي كان العماد عون قبل تسلّمه الرئاسة يطلب من دو شاديريفيان أن يرافقه في اجتماعاته الديبلوماسية، وهذا ما تثبته الصور التي في حوزة دو شاديريفيان. قبل الخوض في مسيرة زاخرة بالأخبار والأحاديث يجب التذكير بأنّ دو شاديريفيان رفض المثول في جلسة استماع أمام الهيئة الأولى لدى مجلس التحكيم في “التيار الوطني الحر”، التي حُدّدت في 21 نيسان عند الساعة 4 و10 دقائق، في حين تلقّى قيادي آخر دعوة للمثول في الساعة 4 و15 دقيقة، أي أنّ كل قيادي أُعطي 5 دقائق للإدلاء بدلوه!
إقرأ أيضاً: جبران باسيل: مُنتَج انتهت صلاحيته
لا يزال دو شاديريفيان يعتبر نفسه عونيّاً نسبة إلى المبادئ العونية التي حملها طوال أعوام نضاله، فـ”ليست البطاقة هي التي تحدّد هويّتي السياسية”. سيعمل دو شاديريفيان مع “الخط التاريخي” في “التيار الوطني الحر” من دون أن يذكر أسماء، وذلك بحسب المبادئ التي حملها: “محاربة الفساد، الشفافية في العمل السياسي، احترام المواثيق الدولية والمجتمع المدني والقضاء المستقلّ”.
ما يحزنه أنّه بعد كل العمل الذي قام به في غياب العماد ميشال عون عن الساحة اللبنانية، ثم بين عاميْ 2005 و2016، يرى التيار الوطني الحر، بعد تسلّم العماد عون زمام البلد، “يفقد الكثير من وهجه”. ويضيف: “على الرغم من علمنا أن لا صلاحيات لدى رئيس الجمهورية، لكنّنا كنّا نأمل أن يساند “التيار الوطني الحر” الرئيس لا أن يعيقه”.
قبل 31 عاماً… التعارف مع العماد عون
لم يكن دو شاديريفيان يعرف العماد ميشال عون رئيس الحكومة الانتقالية في بعبدا في عام 1988، لكنّه كان من مناصريه، وخصوصاً ضدّ الوجود السوري في لبنان.
تناهى إلى مسامعه، هو المسافر إلى أتلانتا في زيارة عائلية، أنّ الجيش اللبناني بقيادة عون ينقل لبنانيين إلى قبرص في طوّافاته، وذلك في عزّ حرب التحرير بين الجيشين اللبناني والسوري. اتّصل بمكتب العماد عون، طالباً أن يُنقل وزوجته وابنه الصغير جورج الى قبرص، فجاءه جواب العماد عون عبر مرافقه فادي ماضي: “طوافات الجيش ليست تاكسي، خلّيه يروح بواسطة “كارغو”، أي باخرة شحن”!
بداية العمل السياسيّ… من أتلانتا
وهكذا كان. لدى وصوله إلى مطار أتلاتنا تعرّض دو شاديريفيان وعائلته لموقف محرج، إذ أُبقوا في المطار ساعتين للتفتيش والتدقيق لكونه “مسيحي لبناني”. وكانت الإدارة الأميركية حينذاك مصطفّة إلى جانب وجهة النظر السورية في لبنان. هال دو شاديريفيان هذا الواقع، فقصد كنيسة الموارنة في أتلانتا، حيث عقد اجتماعاً مع عدد من أبناء الجالية اللبنانية، وسرد لهم قصف السوريين لـ”المناطق المحررة”، أي تلك التي كانت تخضع لسلطة عون، متحدّثاً عن مبادئ عون في الحرية والسيادة والاستقلال وضرورة إخراج الاحتلال السوري من لبنان. واُتُّفق على تنظيم تظاهرة مؤيّدة لعون ضمّت قرابة 300 لبناني، زار وفد منهم، وفي مقدّمهم دو شاديريفيان، الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في مقرّه في المؤسسة التي أنشأها للدفاع عن السلام العالمي ومراقبة الانتخابات.
لم يكن دو شاديريفيان يعرف العماد ميشال عون رئيس الحكومة الانتقالية في بعبدا في عام 1988، لكنّه كان من مناصريه، وخصوصاً ضدّ الوجود السوري في لبنان
هذا النشاط أدّى إلى أن تتّصل به شبكة CNN الأميركية، وتجري معه مقابلة عن الأوضاع اللبنانية دامت 20 دقيقة، وشنّ فيها دو شاديرفيان حملة ضد السوريين، مدافعاً عن وجهة نظر عون. وسرعان ما تلقّى اتصالاً من القصر الجمهوري في لبنان ودعوةً من العماد عون للقائه. ولمّا عاد إلى لبنان بعد أسبوع بالباخرة من قبرص إلى مرفأ جونيه، توجّه إلى بعبدا، وفوجئ بالعماد عون يقول له: “أنا منذ فترة في موقعي ولم تطلب مني CNN مقابلة، فهل بإمكانك العمل على تنظيم مقابلة مع المحطة الأميركية؟”. وافق دو شاديريفيان وتمكّن باتصالاته أن ينظّم مقابلة لعون الذي سرعان ما كلّفه بالاهتمام بالعلاقات مع الأجانب.
بعد 13 تشرين
سرعان ما انضمّ ميشال دو شاديريفيان إلى “الجبهة اللبنانية الجديدة”، التي كان يرأسها الشهيد داني شمعون، وكان أمينها العام الشهيد جبران تويني، وكان هدفها دعم ومساندة سياسة العماد ميشال عون، فتعاون دو شاديريفيان في الشق الدبلوماسي مع وليد فارس الذي شغل في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب مهمّات استشارية.
في 13 تشرين الأول 1990، دخلت القوات السورية إلى لبنان، وقُتل داني شمعون، وسافر العماد ميشال عون إلى فرنسا بعد 7 أشهر أمضاها في السفارة الفرنسية، وتوجّه دو شاديريفيان للعيش في قبرص خوفاً من عمليات انتقامية، لكن سرعان ما اضطر إلى العودة الى لبنان بعد وفاة والده.
دو شاديريفيان هو أرمني كاثوليكي من الأشرفية، ومن سكان بدارو. والده جورج دو شاديريفيان من مواليد زحلة، ووالدته نينيت من مواليد قبرص. ولد في 6 تشرين الثاني من عام 1952، ودرس في المؤسسة اللبنانية الحديثة في الفنار لمؤسّسها الأب ميشال خليفة. تابع دراسته الجامعية في كلية هايكازيان وفي الجامعة الاميركية حيث تخصص في إدارة الأعمال، وعمل في حقل التأمين منذ عام 1978 حتّى اليوم. بدأ حياته السياسية الفعلية بعد مقابلته مع شبكة CNN. وهو لا ينتمي إلى عائلة سياسية.
قائد الأوركسترا الديبلوماسية لعون المنفيّ
بعد 13 تشرين الأول، جمع دو شاديريفيان ورفاقه “العونيون” أنفسهم لمواصلة النضال، وطلب منه العماد المنفيّ في فرنسا أن يتولى منذ عام 1991 الاتصالات الدبلوماسية، وكان دو شاديريفيان يزوره دوماً في منفاه في “لاهوت ميزون” أوّلاً، ثم في باريس، على مدى 15 عاماً. يعرف دو شاديريفيان جميع الديبلوماسيين الذين مرّوا في لبنان منذ التسعينيات إلى اليوم، وكان يجول على السفارات كلّها للمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان. وطالما ووجه بالصدّ، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية. ويروي دو شاديريفيان أنّ وكيل وزير الخارجية الأميركي الحالي ديفيد هايل كان وقتذاك مستشاراً أوّل في السفارة الأميركية في بيروت، وكان يؤيّد الوجود السوري، معتبراً أنّه يحافظ على السلم الأهلي اللبناني. ولمّا عاد هايل سفيراً مطالباً بإبعاد السوريين عن قرار لبنان، لم يتردّد دو شاديريفيان بتذكيره بمواقفه السابقة!
دو شاديريفيان هو أرمني كاثوليكي من الأشرفية، ومن سكان بدارو. والده جورج دو شاديريفيان من مواليد زحلة، ووالدته نينيت من مواليد قبرص. ولد في 6 تشرين الثاني من عام 1952، ودرس في المؤسسة اللبنانية الحديثة في الفنار لمؤسّسها الأب ميشال خليفة
حركة دو شاديريفيان المكّوكية حقّقت تفهّماً دوليّاً لمواقف عون، على الرغم من كونه في المنفى. والمفارقة التي يرويها دو شاديريفيان أنّ العماد عون لطالما كان يقول له: “خود معك جبران”، ليرافقه في كل الاجتماعات الديبلوماسية، وهذا ما كان يحصل، وكان رئيس التيار الوطني الحر حاليّاً يدوّن محاضر الجلسات.
نهاية المشوار
بعد عودة العماد ميشال عون من المنفى عام 2005، صار دو شاديريفيان المستشار الديبلوماسي لرئيس التيار العماد عون، فكان ينسّق ويعدّ كل الاجتماعات الديبلوماسية مع الوفود الأجنبية. ورافق العماد عون في أسفار عدّة، منها إلى برلين ومدريد. كان اللقاء الديبلوماسي الأخير مع عون في 28 تشرين الأول من عام 2016، أي قبل يومين من تولّي عون رئاسة الجمهورية. يتذكّر ميشال أنّ ذاك اللقاء “كان مع سفير مصر السابق في لبنان الصديق نزيه النجاري والمبعوث السعودي ثامر السبهان يرافقه القائم بالأعمال آنذاك والسفير الحالي وليد البخاري”. يتابع: “أذكر جيداً أنّ النجاري والبخاري خاطبا عون وقتذاك بـ”فخامة الرئيس”، وكنت حاضراً وجبران باسيل”. بعد انتخاب عون في 31 تشرين الأوّل من عام 2016، طلب من دو شاديريفيان الالتحاق بوزارة الدفاع ليكون مستشاراً دبلوماسياً لوزير الدفاع وقتذاك يعقوب الصرّاف، وغادر الوزارة بعد تولّيها من قبل الياس أبو صعب. بقي مسؤولاً عن الاتصالات الديبلوماسية في التيار، وكانت تجمعه اجتماعات دورية مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وآخرها في 16 كانون الأول 2020. بعدها انقطع الاتصال. استقال دو شاديريفيان، ولم يلقَ طلبه مقابلة الرئيس أيّ جواب إلى حين تلقّيه رسالة نصّية تعلمه بفصله نهائياً من “التيار الوطني الحر” في 26 نيسان عند الساعة الرابعة إلا خمس دقائق من عام 2021.