“مصدر دبلوماسي”-مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
تصوير: عبّاس سلمان
فرضت التنمية الانسانية المستدامة التي تنفذها منظمات غير حكومية ذاتها على الدول والمنظمات الدولية الكلاسيكية. لكنها تجاوزت هذه الدول باشواط، فلم تعد الدولة لاعبا اساسيا في استطاعتها معالجة القضايا الانسانية بمفردها من جهة وتلك التي تتعلق بالامن الدولي من جهة اخرى
بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي في العام1990 وبزوغ العولمة النيوليبرالية الاقتصادية، تربعت الرأسمالية كنظام اقتصادي ومالي ونقدي مهيمن على العالم بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، وارتكز هذا النظام الدولي المعولم على اقتصاد السوق وتحرير المبادلات التجارية الدولية. مع بدء حقبة العولمة، ظهر لاعبون جدد على الساحة الدولية مثل الشركات الكبرى المالية والاقتصادية والافراد والمنظمات غير الحكومية، فيما لعبت الدول والمنظمات الحكومية الدولية دور الرافعة التي تخدم مصالح الرأسماليين، المالية والاقتصادية، خارج اطار اي حدود او عوائق وطنية. في هذا السياق، برز دور مهم للمنظمات غير الحكومية، وذلك في سياق خفض الحواجز وازدياد التجانس الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
تشير الباحثة في الشؤون الدولية رانيا حتي لـ”الامن العام” الى انه “على ضوء تلك التحولات والتغيرات، انقلب المشهد في مسرح العلاقات الدولية رأسا على عقب، وخصوصا مع الانتقال من مفهوم الامن العسكري الوطني الى مفهوم الامن الانساني الجماعي”. وتعتبر ان “برامج التنمية الانسانية المستدامة فرضت على الدول والمنظمات الدولية تعديلا في السلوكيات، فلم تعد الدولة لاعبا اساسيا في استطاعتها معالجة القضايا الانسانية بمفردها من ناحية، وتلك التي تتعلق بالامن الدولي من ناحية اخرى”.
وتشرح ان “منظمة الامم المتحدة التي انشأتها الدول، المولجة في الحفاظ على السلم والامن الدوليين، عجزت في كثير من الاحيان عن حل مشاكل الامن الدولي والانساني من دون التعاون المتعدد الطرف مع مختلف الفاعلين وغير الفاعلين في العالم”.
بالعودة الى الوجهات الايديولوجية، “من وجهة النظرية الماركسية فان المنظمة الاممية تعبّر عن توازن القوى، في حين انه من وجهة النظرية الوظيفية تخدم المنظمات الدولية مصالح الدول الكبرى وليس مصالح الشعوب بحسب الباحث السياسي البريطاني دافيد ميتراني، فيما للنظرية الليبرالية وجهة نظر مختلفة عن النظريتين التي ذكرت. فهي ترى المنظمة الدولية الحكومية من المنظور السياسي، وتحث على التشارك والتعاون المتعدد الطرف بين اللاعبين المتنافسين لمناهضة الخلل على الساحة الدولية ومعالجة القضايا المهمة. من بين تلك القضايا: البيئة والغذاء والصحة والارهاب الدولي والحراك الاصولي العابر للدولة واسلحة الدمار الشامل وحقوق الانسان وسواها. كل تلك المسائل تخطت حدود الدول وقدرة المنظمات الدولية على معالجتها. في ظل هذا التشابك الحاصل، كان لا بد من ايجاد مخرج مستقل بالنسبة الى الافراد. من هنا بدأت تبرز اهمية المنظمات غير الحكومية المستقلة عن الدول كافة لتأخذ لنفسها اطارا متمايزا لخدمة مصالح الشعوب”، بحسب حتي.
كيف نشأت المنظمات غير الحكومية وما اهدافها؟ ما علاقتها بالدولة كلاعب على الساحة الدولية؟ وهل ستصبح تلك المنظمات فاعلا بارزا يحدث تغييرا في النظام الدولي؟
تعود حتي الى نشأة المنظمات غير الحكومية واهدافها، وتقول: “المنظمات غير الحكومية هي تجمّع او جمعية او حركة تتألف بشكل دائم من افراد، عكس المنظمات الدولية الحكومية التي انشأتها الدول. تنتمي المنظمات غير الحكومية الى بلدان مختلفة لتحقيق اهداف عالمية مجانية. نشأتها قديمة جدا (جمعيات دينية، مدارس فكرية، الخ..). لكن تعددها وتطورها السريع في سياق العولمة النيوليبرالية وبروز القضايا الانسانية العابرة للحدود، يعطيانها اليوم طابعا مميزا عن السابق لانها تشمل قطاعات كثيرة من النشاطات الاجتماعية كالصحافة والتوثيق والدين والاخلاق والمساعدة الاجتماعية والمنظمات المهنية والنقابات والعلوم والصحة والطب والتجارة والسياسة وسواها. ولعل اشهرها على الاطلاق، منظمات الدفاع عن حقوق الانسان مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية والمنظمات الانسانية كاللجنة الدولية للصليب الاحمر الدولي. من بين هذه المنظمات ايضا من هي عالمية مثل الغرفة الدولية للتجارة، الاتحاد الدولي للنقابات الحرة، الاتحاد الدولي للنقابات المسيحية، الاتحاد الدولي للمنتجين الزراعيين، غرين بيس، اطباء بلا حدود، الجمعية الدولية للعلوم السياسية. ومنها من هي اقليمية مثل اتحاد المحامين العرب، الشبكة التجارية الافريقية، المنظمات غير الحكومية الاوروبية للدفاع عن البيئة. ظاهرة المنظمات غير الحكومية ONG هي احدى مميزات المجتمعات الديموقراطية، حيث تمنح الدولة مكانة مهمة ومتعاظمة للمبادرات الخاصة”.
تشير حتي الى ان اهم هذه المنظمات موجودة في الشمال، اي في اوروبا واميركا الشمالية: “منذ اكثر من ثلاثة عقود تعاظم دورها بمساعدة وسائل الاعلام في المجال الانساني، لكن ايضا في النضال ضد العولمة. من اجل ذلك، انشئ المنتدى العالمي الاجتماعي في بورتو اليغري في البرازيل، بين عامي 2001 و2002”.
تلعب هذه المنظمات دورا في تحريك الرأي العام لصالح قضية انسانية عالمية بهدف الضغط على الحكومات ومراكز القرار الدولي لعقد اتفاقات او وضع قوانين متعلقة بحقوق الانسان كالتنمية والبيئة، او للاعتراض على قضايا معينة: “على الرغم من كل ذلك، فهي لا تخضع للقانون الدولي، اي ليس هنالك من قوانين دولية ترعاها وتنظم عملها، بل تطبق عليها قوانين الدولة التي تعمل على اراضيها”.
ما هي علاقة المنظمات غير الحكومية بالدولة؟ تقول حتي: “يفترض ان تكون هذه المنظمات نوعا من معارضة دولية هدفها تصويب عمل الحكومات واللاعبين الآخرين”.
لكن، الى اي مدى تتمتع بالاستقلالية عن الدول لكي تستطيع القيام بمهامها حتى الانسانية منها؟
تشير الباحثة الى ثلاثة معايير:
“اولا، ان المنظمات غير الحكومية تعمل كغيرها من المنظمات الدولية الحكومية على ارض الدول ولا يمكن ان يتم ذلك الا بموافقة الدول. اكثر من ذلك، فهي تخضع لقانون الدولة المضيفة ولا يرعى عملها اي قانون دولي.
ثانيا، هناك عدد كبير من المنظمات غير الحكومية تنشئها الدول لتقوم عوضا عنها بمهام لا تريد هذه الدول او لا تستطيع القيام بها.
ثالثا، ان الدول هي التي تموّل بشكل اساسي هذه المنظمات التي انشأتها، وتكون في معظم الاحيان منظمات مصطنعة لخدمة مصالح الدول التي انشأتها. على سبيل المثال، المنظمات التي تمولها USAID الاميركية وخبراؤها ومثقفوها عبر العالم، وهي مستعدة لتسويق مفاهيم جديدة تختارها الخارجية الاميركية كالمبادرة الحرة والحوكمة والديموقرطية وحماية حقوق الانسان، بمعنى ان هذه الادارة تحركها لخدمة مصالحها، اي خدمة مشروع العولمة النيوليبرالية. لا بد من الاشارة هنا، الى ان سبب وجود هذه المنظمات اساسا تمثل في تحقيق نوع من التضامن على المستوى العالمي، فكثيرا ما نشهد انقسامات حادة في الاتحادات الدولية النقابية متأثرة بالانقسامات السياسية واستراتيجيات حكومات الدول. قد يحصل هذا الانقسام بين ناشطين ينتمون الى دول غنية، او بين الذين ينتمون الى دول غنية والاخرين التابعين لدول فقيرة وخصوصا في موضوع التنمية. صحيح ان هذه المنظمات نجحت في التأثير على الحكومات في مجالات عدة من خلال خلق رأي عام عالمي ساهم في ابراز تطور وسائل الاعلام والاتصال، لكن الضغط الذي قد يمارسه الرأي العام ليس مستمرا، بل هو موسمي يتأثر ايضا بالمواقف السياسية والاستراتيجية للحكومات التي يخضع لها افراده. نضيف الى ذلك، ان كل الضغوط التي مارستها المنظمات غير الحكومية في مجال البيئة ومكافحة الفساد والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصا تلك المرتبطة بالعولمة الاقتصادية باءت بالفشل. فهل استطاعت الزام الدول الكبرى التوقيع على اتفاق كيوتو؟ وهل تمكنت من كبح جماح العولمة النيوليبرالية ومنع العالم من الوقوع في ازمات اقتصادية وانسانية مدمرة، آخرها وباء كورونا العالمي؟” تسأل حتي.
ختاما، المنظمات غير الحكومية التي هي كيانات تتجاوز المجال الجغرافي للدول، تختلف باختلاف اهدافها واحجامها وقدرتها على التأثير: “تحاول هذه المنظمات دخول ملعب العلاقات الدولية، تحركاتها وخبراتها في بعض المجالات على المستوى العابر للدولة، والتي قد تقلب التفاهمات الديبلوماسية الكلاسيكية بين الدول. كما انها، تحت شعار الدفاع عن حقوق الانسان والمساعدة الانسانية، اتخذت لنفسها حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واصبحت فاعلا مؤثرا في قرارات الدولة في حين لا تستطيع الدول الاستغناء عن بعضها البعض، كاللجنة الدولية للصليب الاحمر الدولي لما لها من تأثيرات ايجابية وحاجة انسانية”.
اخيرا تسأل حتي: “بناء على ذلك، هل يتجه العالم الى نظام دولي جديد ما بعد “وستفاليا”؟ (اول اتفاق ديبلوماسي في العصر الحديث ارسى نظاما جديدا في اوروبا الوسطى والغربية مبنيا على مبدأ سيادة الدول). نظام يسكنه الفاعلون الرسميون الذين هم ليسوا مجرد حكومات وانما منظمات غير حكومية وشركات متعددة الجنسية؟”.