مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
بات التعاون الدولي حول اللقاح المضاد لفيروس كوفيد-19 ضروريا بسبب تخطي الجائحة لحدود البلدان ما يتطلب تعاونا متعدد الاطراف. اقتنع المجتمع الدولي بذلك وكانت الصين سبّاقة بتوزيع لقاحاتها بشكل مجاني على اكثر من بلد بحسب تصريحات مسؤوليها، من هنا نشأ مصطلح “دبلوماسية اللقاح”.
دخل مصطلح “دبلوماسية اللقاح” في الآونة الاخيرة على القاموس الدبلوماسي والاقتصادي وحتى الجيو-سياسي في دول العالم قاطبة. ويندرج تحت هذا العنوان نفوذ دول وسطوتها والتنافس بين دول وقارات ومحاولة استقطاب الدول الصغرى وذلك عبر توريد اللقاحات للقضاء على فيروس كورونا الذي يحصد ارواح الناس حول العالم بمنجل الموت الذي لا يرحم.
فيما تعاقد لبنان رسميا عبر وزراة الصحة مع شركة “فايزر” الاميركية للحصول على 2،1 مليون جرعة من اللقاح المضاد لفيروس كورونا، فانه فتح الباب ايضا لاستيراد لقاحات اخرى، وسط بدء حملة التسجيل للراغبين عبر منصة الكترونية. في سياق التشبيك الدبلوماسي المتنوع، صدر عن وزارة الصحة اللبنانية قرار بشأن التسجيل والترخيص باستيراد اللقاح الروسي المضاد لفيروس كورونا “سبوتنيك”، واوضحت السفارة الروسية في بيروت في بيان اصدرته بأنه “نعتقد ان هذه الخطوة المهمة من قبل السلطات اللبنانية، تفتح فرصا جيدة لاقامة تعاون متبادل المنفعة بين صندوق الاستثمار المباشر الروسي والشركاء اللبنانيين، سواء من خلال الحكومة او بمشاركة القطاع الخاص ونحن على يقين من ان التجهيز السريع للامدادات الى لبنان باللقاح المذكور اعلاه سيساعد في تجاوز الوضع مع انتشار مرض خطير مثل كوفيد-19”.
واكدت السفارة ان “الكميات المحددة وموعد تسليم اللقاح الروسي إلى لبنان هي موضوع مفاوضات مع الصندوق، وادى هذا الامر إلى ترجمة هذه القضية إلى مستوى عملي، وبدأت المناشدات المقابلة من الحكومة اللبنانية، ولكن المعلومات المتداولة في وسائل الاعلام اللبنانية حول التبرع المزعوم من السفارة الروسية بـ 200 الف جرعة كهبة للجانب اللبناني لا تتوافق مع الواقع، وهي عارية عن الصحة شكلا ومضمونا”، مشددة على ان “جميع جوانب توفير اللقاح الروسي تتطلب مناقشة موضوعية مباشرة مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي”. هكذا يمارس لبنان دبلوماسية اللقاح وهو تسجّل ايضا في منصة “كوفاكس” التي تتيح جلب لقاحات اخرى ايضا منها “استرازينيكا” واللقاح الصيني “سينوفارم” وسواه.
واذا كانت الدول الصغرى مثل لبنان تسعى للافادة من هذه الدبلوماسية لصالح شعبها، فان الدول الكبرى تمارس هذه الدبلوماسية بشكل اوسع. وقبل الوصول الى الصين والولايات المتحدة الاميركية، نعرّج على التجربة الهندية. فقد نقلت الوكالات العالمية بأن الهند رفعت بوصفها
صيدلية العالم منسوب دبلوماسيتها الطبية عبر توزيع شحنات من لقاح كوفيد – 19 الى دول فقيرة في منافسة واضحة مع الصين. ويستخدم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قدرات بلاده -باعتبارها ثالث اكبر منتج في العالم للقاحات المستخدمة في الوقاية من العديد من الامراض- في تحسين العلاقات مع دول المنطقة ومقاومة التمدد الصيني السياسي والاقتصادي. تقدم حكومة مودي للدول القريبة الملايين من الجرعات من لقاح “استرازينيكا” المنتج محليا رغم ان برنامجها للتطعيم المحلي بدأ للتو.
وقدمت الهند جرعات من اللقاح الى افغانستان وكمبوديا وميانمار وبنغلادش ونيبال وسريلانكا وجزر المالديف لمساعدة تلك الدول على البدء بتحصين الاطقم الطبية، وذلك ضمن مبادرتها المسماة “صداقة اللقاح” للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وتعتزم امداد منغوليا والدول الجزر في المحيط الهادي بشحنات في اطار دبلوماسية اللقاح الهندية الآخذة في الاتساع.
وارسلت الهند نصف مليون جرعة من لقاح “استرازينيكا” الى افغانستان، وهي اولى الجرعات التي تصل إلى تلك الدولة التي تمزقها الحرب والتي لا تزال تنتظر اجازة منظمة الصحة العالمية للاستعمال الطارئ قبل توزيعها. وكانت الهند اعتمدت لقاحين من اجل الاستخدام الطارئ احدهما طوِّر من قبل “استرازينيكا” وجامعة اوكسفورد، ويصنع حاليا في الهند من قبل معهد الامصال الهندي. اما الآخر فهو لقاح محلي يدعى “كوفاكسين”، وتنتجه حاليا شركة “بهارات بايوتيك” المحلية بالتعاون مع المجلس الهندي للبحث الطبي والمعهد الوطني لعلم الفايروسات.
وبدأت “دبلوماسية اللقاحات” تظهر بشكل جليّ في الشرق الاوسط عندما اظهر عدد من شركاء واشنطن رغبة واضحة في الحصول على المنتجات الروسية او الصينية.
بالانتقال الى اوروبا، فقد دعا المستشار النمساوي سيباستيان كورتس الى ترك “المحرمات الجيوسياسية” جانبا وذلك في تلميح الى قيام الوكالة الطبية الاوروبية بدراسة امكان تسجيل اللقاحات من روسيا والصين. سبقه في ذلك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، اذ شدد على ان اتخاذ القرار بشأن استخدام لقاح “سبوتنيك V” الروسي لا ينبغي ان يكون سياسيا، بل علميا، بناء على نتائج المرحلة الثالثة من التجارب السريرية الواردة في مجلة “لانسيت” العلمية البريطانية. بدورها، اعلنت اسبانيا عن استعدادها لاستخدام اللقاح الروسي بعد موافقة الوكالة الطبية الاوروبية.
ربّما جاءت قضية ما سُمّي، اخيرا، “حرب اللقاحات” بين بريطانيا والاتحاد الاوروبي، لتؤذن بما ستحمله المرحلة المقبلة من حرب مستمرة بين الطرفين، لاسباب بمسمّيات كثيرة، الا ان قوامها “صراع على سلطة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.”
بدأت معالم الخلاف بالظهور في سياق سعي الجانبين الى تأمين احتياجاتهما من لقاح “استرازينيكا – اكسفورد”. ثمّ تطوّرت الى ما يشبه النزاع بعدما اعلن الاتحاد الاوروبي اقترابه من سنّ تشريع يمنع تصدير اللقاحات خارج دول الاتحاد، الّا بعدما يضمن التكتل حاجاته أولا، ولا سيما من لقاح “فايزر” الذي يجري تصنيعه اساساً في بلجيكا، في وقت عقدت فيه بريطانيا صفقة لشراء 40 مليون جرعة منه.
اما بالنسبة لالمانيا، فقد اعربت قيادتها عن رغبتها في التعاون مع موسكو بشأن هذه المسألة، واكدت المستشارة انجيلا ميركيل منذ كانون الثاني الماضي، استعداد برلين للمساعدة في تسجيل اللقاح الروسي في الاتحاد الاوروبي. تتالت الاصوات في الاتحاد الاوروبي، مطالبة بالتسريع في اجراءات تسجيل اللقاح الروسي حتى يتسنى استخدامه في التطعيم ضد وباء كورونا.
كذلك تراجعت اكثر وسائل الإعلام الاوروبية نفوذا عن الدعاية التي كانت تهدف الى تشويه سمعة اللقاح الروسي، وبدأت الآن تتحدث عن ايجابيات لقاح “سبوتنيك V” وهو ما يشير الى تغير في المواقف وخصوصا بعد صدور دراسة المجلة العلمية “لانسيت” الذي فتح اعين المشككين على حقيقة لقاح “سبوتنيك V” وأكد علميا مدى نجاعته وسلامته في مقاومة فيروس كورونا.
فالمجلة البريطانية اشارت الى ان لقاح “سبوتنيك-V” الروسي، هو لقاح “ناقل فيروسي” يعمل على اساس اخذ فيروسات اخرى، وجعلها غير مؤذية لتصبح متكيفة لمكافحة “كوفيد-19”. واعتبرت ان هذه التقنية يستخدمها ايضا لقاح استرازينيكا اكسفورد الفعال بنسبة 60 في المئة بحسب الوكالة الاوروبية للادوية.
رغم معارضة البرلمان الاوروبي وبعض الحكومات المعروفة بعدائها التقليدي لروسيا، توجه الى موسكو منسق العلاقات الخارجية في المفوضية الاوروبية جوزيف بوريل وبدعم من الحكومتين الالمانية والفرنسية لطرح اسس تعاون جديدة تتجاوز الملفات الساخنة. طبعا خلفيات الزيارة عنوانها “اللقاح” الذي اتي ليضع العلاقات الاوروبية الروسية في مراجعة شاملة.
من الطبيعي ان يكون نشر اللقاح على نطاق واسع هو امر حيوي لأنه سيقلل من خطر الوفيات والحالات الحرجة ومن الضغوط على انظمة الرعاية الصحية وسيتيح تخفيف اجراءات التباعد بصورة كبيرة ويعطي دفعا للاقتصاد، لكن من المنتظر ان تبلغ قيمة سوق اللقاح 35 مليار دولار. تشير الدراسات ومنها دراسة نشرها موقع “مآلات” بعنوان: “لقاح كوفيد 19…تنافس محموم على دبلوماسية اللقاح” الى ان ” اغلب الدول تراهن بمستقبلها الآن على لقاح فيروس كورونا، واصبح السباق نحو تحقيق هذا الهدف مسيّسا، ومن بين الدول الساعية الى تطوير اللقاح: الصين والولايات المتحدة الاميركية والمملكة المتحدة. وكما كان الحال في الاستجابات المبدئية للجائحة، تتنافس القوى العظمى حتى حين يكون التعاون في مصلحتها العليا. فعلى الرغم من ان الولايات المتحدة وبريطانيا دولتان حليفتان، فانهما تعملان بشكل منفصل في تطوير اللقاح، كما ان روسيا اعلنت هي الاخرى عن تطوير لقاحها (سبوتنيك) وهي بدأت اعطاءه لسكانها ابتداء بالعمالة الموجودة على الخطوط الامامية، اي العاملين بالرعاية الصحية والمدرّسين.
وبحسب الدراسة المذكورة، تستخدم الدول اللقاح المحتمل ايضا اداة للضغط لخدمة مصالحها الجيو سياسية والاقتصادية. على سبيل المثال في اواخر آب الماضي تعهد رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ بأن تشارك الصين بعض الجرعات من اي لقاح تطوّره –وتشارك كذلك الخبرة العلمية بتطوير اللقاح- مع دول غرب شرق آسيا. وفي لقاء بين وزير الخارجية الصيني وانغ بي ونظيره المغربي، تعهّد الاول بأن توفّر بلاده اللقاح للدول الافريقية. وبينما تعاني كل الاقتصادات بدرجات متفاوتة من فيروس كورونا، ربما ينتهي المطاف بان يكون الاقتصاد الصيني اقل معاناة ويجني منافع اكبر بعد انحسار الفيروس امام اللقاحات. ولكن ما يقف في طريق الصين هو الهيمنة البنيوية الراسخة للولايات المتحدة الامر الذي سيزيد من حدة التنافس الاميركي الصيني على الحصص السوقية وعلى سلاسل التوريد وعلى الحلفاء والشركاء”.
تشير التوقعات بحسب الدراسة المذكورة الى ان الصين ستبادر الى توزيع لقاح فيروس كورونا على نطاق واسع في العام 2021، وبخلاف المنافع التي سيعود بها ذلك على سكانها، ستستغل الصين تطوير اللقاح في استعادة سمعتها التي تضررت من كونها بلد المنشأ للفيروس. تعوّل الصين على توسيع علاقاتها بالدول النامية من خلال توزيع اللقاحات، حيث تزداد المنافسة بين الصين والدول الغربية بقيادة الولايات المتّحدة الاميركية على النفوذ. وانضّمت الصين في تشرين الاول الماضي الى مشروع اتاحة لقاحات كوفيد 19 على الصعيد العالمي، ذلك الائتلاف الذي يستهدف إتاحة اللقاحات والذي اعرضت الولايات المتحدة عن الانضمام اليه.
وبينما يمكن ان يحقق هذا تفوقا دبلوماسيا للصين، هناك بعض العقبات المحتملة، فالتحديات العملية التي تواجه انتاج وتوزيع لقاح على نطاق جماهيري ضخمة للغاية نظرا للاحتياج المرجّح الى تقنيات نقل اللقاح عند درجة حرارة تحت الصفر. وسيتعين على الشركات الصينية ايضا العمل بجدّ لبناء الثقة في لقاحاتها، نظرا للفضائح السابقة المتعلقة بسلامة اللقاحات، وكذلك المخاوف في الخارج من انخفاض جودة سلع الرعاية الصحية التي شحنتها الصين للدول الاخرى استجابة للجائحة. وهنالك مخاطر سياسية متعلقة بتوزيع اللقاح، فقد تعهدت الشركات والحكومة الصينية بتوفير اللقاح بحسب الاولوية لعدد من البلدان، من بينها البرازيل واندونيسيا، لكنها قد تتعثر في تسليم كافة الشحنات التي تعهدت بها، وهو ما قد يتسبب بردّ فعل دبلوماسي سلبي من الدول التي تنتظر في آخر الطابور، او بدفع هذه الدول الى البحث عن مورّدين آخرين.
اضافة الى ذلك فان اي انطباع عن تلقي الاثرياء واصحاب النفوذ للقاح اولا قد يؤثر على الانطباعات الشعبية عن الصين. ومن المحتمل ان يعوق التعاون الاوسع نطاقا في مساحات اخرى مثل مبادرة الحزام والطريق. لذا ترجح بعض التحليلات ان الصين تواجه خطر التعهد بأكثر مما ستلتزم به بخصوص توزيع اللقاح في 2021، مما قد يعوق آمال الصين المنتظرة في تحسين صورتها الدولية من تطوير اللقاح مبكرا. في المقابل، ربما تفتقر واشنطن والقوى العظمة الاخرى الى وسائل تضاهي مناورات بكين. فعندما تطور الولايات المتحدة لقاحها ستركز على الارجح على جهود التعافي الصحي لسكانها حيث ان التوترات السياسية على اشدها. والاتحاد الاوروبي يداه مشغولتان بتنازع الدول الاعضاء على السيطرة داخل الاتحاد وحزم الانقاذ الاقتصادي. اي لقاح من المملكة المتحدة سيستخدم على الارجح في بريطانيا وربما في الاتحاد الاوروبي قبل اتاحته في المناطق الاخرى.
أما اليابان وكوريا الجنوبية فمشغولتان اذ تمر الاولى بانتقال سياسي للسلطة، وتأخذ الثانية حذرها من تهديد كوريا الشمالية، ومن ثمّ لن تنخرطا في دبلوماسية لقاحات خاصة بهما. وهذا المناخ السياسي العالمي يترك روسيا والصين لتحصدا المنافع الجيو سياسية والاقتصادية لتطوير اللقاحات على حساب الغرب.