“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة
رأي
يسعى وزير الخارجية والمغتربين شربل وهبه الى اعادة لبنان الى حاضنته العربية، واعادة العرب الى لبنان. ويبدو من خلال مواقفه سواء في المحافل العربية او عبر بيانات التضامن عند كل اعتداء على دولة عربية مثل السعودية انه يحاول خرق جدار الحصار على لبنان على قدر المتيسر.
تحتسب هذه السياسة لوزير الخارجية شربل وهبه نقاطا ايجابية له، وخصوصا أنه لا يلتفت الى الانتقادات التي توجّه اليه وخصوصا من المحور المناوئ للدول الخليجية والعربية أي محور الممانعة المدعوم من ايران، لأنه بسلوكه ومواقفه يعلي شأن الدولة اللبنانية ومصالحها العليا وليس مصالح أطراف فيها، ولو كانت هذه الاطراف تعتبر أن ميزان القوى السياسي والعسكري يميل لناحيتها. وفي هذا السلوك الدبلوماسي ما يبشر بالخير للدبلوماسية اللبنانية التي يجب ألا تصطف بعد الآن مع مصالح القوي بل ان تعلي مصلحة لبنان وصداقاته التاريخية فوق اي اعتبار.
إلا أن اللافت في اليومين الاخيرين اعلان الوزير شربل وهبه عبر حوار صحافي انه قرر استدعاء السفير الايراني محمد جلال فيروزنيا غدا الاثنين الى وزارة الخارجية لاستيضاحه ما نشره موقع “قناة العالم” الإيرانية من كلام غير مألوف بحق البطريرك الماروني بشارة الراعي، قبل ان تقوم القناة بعد موجة استنكارات مسيحية بسحب المقال الذي هاجم البطريرك على خلفية مطالباته بالتدويل والحياد ومقابلة مع قناة الحرة قال فيها انه يؤيد السلام مع اسرائيل بحسب ما نقل الموقع.
ويقول الوزير وهبه في مقابلته التي اعلن فيها استدعاءه لفيروزنيا:” سيكون الكلام بصراحة وصدق، انطلاقا من الصداقة القائمة بين الجانبين”. مشيرا الى أن “الاعتذار من الجانب الايراني وصل لغبطة البطريرك، وأنا سأحضر قداس بكركي غدا (أي اليوم الاحد) وسأستمع الى كل توجيهاته. واتمنى ان تكون الامور قيد الحل او بالأحرى حلت حاليا”.
في زمن الانهيار الشامل، حيث لم يعد للمواطن اللبناني ما يخسره، ربمّا أقل تعزية هي البدء بقول الحقائق كما هي. مع الاحترام للوزير وهبه، لكن لماذا عليه أن يصغي الى توجيهات من رجل دين ولو كان بطريركا؟ فهل هي توجيهات تتعلق بزمن الصوم المبارك؟ أم انها توجيهات سياسية معينة؟ بالتاكيد هي توجيهات سياسية، لان البطريرك الماروني بشارة الراعي يمارس السياسة بأبعادها الداخلية والاقليمية بعيدا من الجانب الديني، كما يفعل سواه مثل امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.
في الشكل، فإن هذه القدسية التي يسبغها المسؤولون مسيحيون ومسلمون على رجال الدين وكأن لهم عليهم مونة لم تعد مقبولة.
ثانيا، يقول الوزير وهبه وبالفم الملآن وقبل يومين من وصول الموعد لمقابلة سفير ايران بأنه “يستدعيه”، وكانه فخور بهذا الامر. وهذا ما ذكرني، بالبيان الذي سبق “الزيارة الروتينية” لسفيرة أميركا دوروثي شيا لوهبه على خلفية القاضي محمد المازح وقراره المضحك بمنع الاعلام من محاورتها، والحملة من محور الممانعة لمساءلة السفيرة على تصريحات نارية لها ضد حزب الله على قناة سعودية. يومها لم يترك الوزير وهبه سبيلا للتوضيح بأنه لا يستدعي السفيرة بل يستقبلها في زيارة روتينية وأن التسريبات في شأن الاستدعاء غير صحيحة، مدافعا بذلك عن حقه كوزير للخارجية بالدفاع عن صداقات لبنان مع الدول وعدم خضوعه لضغط المحاور والاعلام الصديق لها.
كذلك يذكّر استدعاء السفير فيروزنيا، بقيام مدير الشؤون السياسية في الخارجية في زمن جبران باسيل بـ”استقبال” سفير الامارات السابق في لبنان على خلفية ملف المعتقلين في الامارات، في وقت انعدمت فيه اية تغطية اعلامية للامر ولم يتم استخدام مصطلح استدعاء كليا، احتراما –كي لا نقول خوفا- لمشاعر الاماراتيين.
الأمر سيان بالنسبة الى السعودية، حيث تم نشر الكثير من التقارير ضد المملكة ولم تتم مساءلة الصحافيين الذين كتبوها لأنهم ينتمون لمحور الممانعة، المستقوي بدوره بموازين القوى والامر الواقع. ولو حصل الامر من قبل آخرين لقامت الدنيا ولم تقعد. ولم تقم المملكة العربية السعودية باستدعاء سفير لبنان في الرياض فوزي كبارة لمساءلته.
الأمر سيان بالنسبة لإيران التي تشنّ ضدها يوميا عبر المنابر اللبنانية حملات شعواء نظرا لدعمها فئة من اللبنانيين وتقويتهم على حساب آخرين يتبعون للمحور العربي، وآخر الظواهر هو الهتاف ضدها في الصرح البطريركي وهو أمر غير مسبوق. مع ذلك، لم نر اي استدعاء من وزارة الخارجية الايرانية للسفير اللبناني في طهران حسن عباس.
فإذا كان كل مقال أو رأي أو هتاف يطاول شخصية عربية او دولية او لبنانية يستوجب استدعاء السفراء فهذه مصيبة. وإذا كان الأمر يتعلق باحترام المرجعيات الدينية فقناة العالم اصدرت بيان اعتذار وسحبت المقال، فلم استدعاء السفير؟ وهذا يعني رفع منسوب التأزم الى مستوى الدولتين وعدم تركه على مستوى الاعلام.
ان يقوم الوزير وهبه باصلاح ذات البين مع الدول العربية الشقيقة وهو واجب وطني برأيي، وتصحيح الاخطاء المميتة التي ارتكبها وزراء سابقون بحق العلاقات اللبنانية العربية في المحافل الدبلوماسية العربية والدولية، لا يعني القيام بـ”شطحات” ضد دول صديقة منها ايران، فقط لأن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع اصدر بيان “ولولة” وشدّ عصب تماشيا مع مواقفه السياسية، ومثله فعل “التيار الوطني الحر” الذي ظهّر فجأة عمق محبته لبكركي! ولأن الرابطة المارونية دافعت عن مرجعيتها الدينية، وقد أدت هذه الحركة الى تراجع القناة عن “شطحتها” في حق رجل دين يمارس السياسة بأبعادها كلها.
ليس دفاعا عن ايران، بل دفاعا عن الاصول وعن الاعلام وعن الدبلوماسية والوزير وهبه ليس بحاجة لمن يعلمه الاصول الدبلوماسية وهو سفير عريق، لكن يبدو بأن الضغوط المعنوية والدينية تؤثر فيه.
لا نريد في لبنان ان نثبّت نموذج تقديس رجال سياسة. رجال الدين الحقيقيين والذين يستحقون شن الحملات للدفاع عنهم يشبهون قداسة البابا فرنسيس الذي حمل حقيبته وتوجه الى العراق، ويشبهون المرجعية الشيعية العليا السيد علي السيستاني الذي يجلس بتواضع في منزله المتخفف من اية مظاهر، حتى انه لا يضع في يديه خاتما، يجلس متطلعا بخفر الى البابا الجالس امامه فيما يبادله الاخير نظرات الخفر ذاتها. هؤلاء هم رجال الدين. اما من يلبسون العباءات ويعتلون المنابر ويخطبون ويطرحون طروحات “همايونية” غير قابلة للتحقيق وسجالية بامتياز فهم تخلوا عن دورهم كرجال دين، وهم تحت مجهر النقد. لا ندافع البتة عن التعرض للبطريرك بتعايبر غير مقبولة من القناة المذكورة، لكن استدعاء سفير من اجله بعد تراجع المحطة امر يستحق التمحيص.
البطريرك الماروني لا يتصرف كرجل دين بل كرجل سياسة: دافع عن شخصية عليها علامات استفهام كبرى بعد ان خسر اللبنانيون مدخراتهم فقط لأنها مارونية ونسي ابناء الطائفة الفقراء الذين يئنون وجعا في بيوتهم ولا من يلتفت اليهم، وضع خطا احمر على رجال مصارف ومال لأنهم موارنة متناسيا جميع اللبنانيين الآخرين ومن بينهم الموارنة الضعفاء. البطريرك الماروني طرح موضوع تدويل الأزمة اللبنانية مع ما يحمله هذا الطرح من مخاطر، وبالرغم من أنه غير مستند الى اي احتمال منطقي لتحقيقه في ظل التوازنات الاقليمية والدولية القائمة. البطريرك الماروني يطرح موضوع حياد لبنان السجالي منذ تأسيس لبنان واستقلاله وذلك في مرحلة دولية تشهد تطبيعا مع اسرائيل، وبالتالي من الطبيعي ان يتعرض لسهام المعترضين، فلم تحييده؟
البطريرك الماروني لم يدع محدثه سفير ايران فيروزنيا بذاته الذي زاره منذ مدة على رأس وفد رفيع، لم يفسح له المجال بإكمال عرضه بمساعدة لبنان وتزويده بالنفط ودعمه في ملف الكهرباء كي لا يغرق بالظلمة، بل عاجلة بالقول: هل تعرض علينا حبة بانادول؟!
رجال الدين يستمعون ويصغون ولا رفضون المساعدة من أي طرف جاءت. لكن رجال السياسة يقومون برفض كل ما لا يمتّ لمصالحهم بصلة.
مرة جديدة، يحسب للوزير شربل وهبه اعادته لبنان لحاضنته العربية الطبيعية، على الأقل هو يحاول، لكن اصلاح “شطحات” سلفه جبران باسيل في المحافل العربية، لا تعني الاستقواء على سفير دولة لأنها في المحور المقابل وتعتبر دولة صديقة للبنان أقله بإسم العلاقات الدبلوماسية التي نقيمها معها.
الدبلوماسية بمكيالين ليست مفيدة، والافضل تحييد الدبلوماسية اللبنانية عن التمترس وراء عباءات رجال الدين جميعهم دون استثناء.