“مصدر دبلوماسي”
نبيل الجبوري –العراق
(رأي)
قوة معنوية هائلة تنبع من مرجعيتها الأخلاقية العالية، تحط رحالها في بغداد او “دار السلام” التي تئنّ من جراح الحروب والفوضى السياسية التي استهدفت دورها الفاعل وعمقها التاريخي وارثها الحضاري.
ليس مجرد حدث عابر. البابا ليس شخصية اعتيادية. لطالما توافد القادرة والرؤساء من دول عظمى واقليمية الى العراق، لكن لم تكتسب الزيارات ربع القيمة التي حملتها الطائرة البابوية التي هبطت في مطار بغداد أمس حاملة على متنها رسائل ومضامين كبرى.
قد تكون الدلالات توضحت او لربما لا تحتاج لتوضيح لهذه الرحلة الفريدة من نوعها من حيث الارتباط بين المسلمين وما بين المسيح. فأرض الرافدين تزينت بهذا الجزء الانساني المتسامح فهي مهد الاديان والطوائف والقوميات التي كانت ضمن تلك الفسيفساء التي زينت لوحة الوطن.
للبابوية دور فعّال في العلاقات الدولية وفي الانتشارعالميا نظرا الى دبلوماسيتها الفاعلة التي تتسم بالهدوء والأفق الشاسع. انطلق البابا من بعد الاستقبال الرسمي الحافل في بغداد الى النجف و ذي قار جنوبا ثم نحو الشمال لإربيل، والموصل التي لازالت تنزف من جراحات اثخنت جسدها بسبب احتلال داعش و ما لحق بالمدينة من دمار فظيع.
على المستوى الشعبي وبعيدا عن البروتوكولات الرسمية تفاعل العراقيون مع هذه الزيارة بشكل لافت وغير مسبوق فهم تواقون للسلام وللمحبة وللتعايش السلمي بين الجميع وينبذون ما تمّ استيراده من الشرق والغرب من عناوين الطائفية والدين والفئوية، فالكل شريك بالانسانية كما يقول الامام علي عليه السلام وهذه رسالة سامية تحملها الاديان كلها.
ربما هنالك جانب غفلت عنه وسائل الاعلام حيث وجّه العراقيون رسائل تشرح مايحدث على مسرح العراق من تجاذبات القت بظلالها على طبقات الشعب الذي انتفض بتظاهرات في اكتوبر2019 رافضا الوصاية والتبعية التي تمارسها دول الجوار وتدخّلها بالشأن العراقي والتي مزقته واراقت دماءه.
الشعب العراقي يعتبر البابا فرنسيس لفتة سلام وبارقة امل ورسالة صادقة عكس مايحمله القادمون من قادة الدول والزعماء الذين يفدون الى قصور الحكم في بغداد. فهذه الشخصية الاعتبارية وقيمتها الدينية وثقلها المعنوي في زيارتها التاريخية قالت بخطاب في بغداد العاصمة “جئت إليكم حاجاً تائباً لطلب المغفرة بعد دمار الحرب”، هذه الكلمات كان لها الوقع الكبير على اهل العراق من المسلمين قبل المسيح، فالجميع عانى من الفساد ومن الارهاب والتطرف، والجميع تواق الى العودة لأحضان الوطن، فهذه الشخصية تمكنت من التأثير الايجابي اكثر من علماء وخطباء المنابر الاسلامية انفسهم، وهذه مواقع التواصل تضج بصور الحبر الاعظم والاقتباسات من خطابه ملأت صفحات العالم الافتراضي، بل حتى في الواقع الفعلي فهذه الزيارة حديث كل اثنين وكل مجموعة وكل مجلس وارجعت الامال لنفوس الشعب الذي شاهد الاستقبال لهذا الزائر المميز وذلك بفلكلور عراقي وموسيقى عراقية وهذه دلالات المحبة والتسامح ونبذ التطرف الذي سوقه تجار الموت.
ثمة امر هام، فإن عددا من الاهالي لم يترددوا من رفع يافطات غايتها لفت انظار البابا فرانسيس الى معاناتهم من الاهمال الحكومي والتي قد لاتبدو انها غائبة عنه، إذ تحدث في القصر الرئاسي عن اهمية تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز السلام في المنطقة والتصدي للفساد واستغلال السلطة.
قال: “فلتصمت الأسلحة”، “وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة” وهذه اشارات الى التفاعل مع قضايا الناس وحثّ بابوي لأن تكون لهم رعاية في تحقيق الغاية التي تأسست من اجلها الحكومات. حدث قد لا يتكرر مرة اخرى، وبشائر خير يتأمل منها ابناء الرافدين بعد ان كان العالم بأسره يراقب طائرة البابا منذ تحركها من روما الى لحظة وصولها الى بغداد، وهذا بحد ذاته ابراز لأهمية العراق وما تعرض له خلال عقدين من الفوضى، ولكأن لسان حال الحبر الاعظم يقول ان بلاد ما بين النهرين لم تنحصر بكونها منشأ العلوم والإبداعات الإنسانية، بل هي المهد الأول للأفكار الدينية في الحضارات القديمة.