مقالات مختارة
مجلّة الامن العام
مارلين خليفة:
تعتبر الدبلوماسية الاقتصادية جزءا مبتكرا من الديبلوماسية العامة، وتسعى الى التوجه الى صناع القرار والرأي العام لبناء جسور التعاون عبر ادارة المصالح الحيوية، وقد دخل لبنان في الاعوام الاخيرة في صلبها عبر بعثاته الديبلوماسية حول العالم.
يبرز الاقتصاد عاملا رئيسيا في تمتين العلاقات بين الدول وتطويرها في شكل يتواءم مع العلاقات السياسية، وربما يتجاوزها اهمية. لعل المصالح الاقتصادية كانت ولم تزل تحكم مواقف الدول بازاء بعضها البعض. ادركت الديبلوماسية اللبنانية اهمية استخدام الدبلوماسية الاقتصادية منذ اعوام، لكنها تحاول اخيرا تفعيلها بشكل مبتكر يلائم الحداثة، ولعل المكتسبات المشتركة بين الدول هي اساسية في تحديد المواقف السياسية. في هذا السياق، صدر اخيرا كتاب يعتبر مرجعيا بعنوان “الدبلوماسية الاقتصادية في عصر العولمة” للدكتور وسام كلاكش، قارب دراسة الدبلوماسية الاقتصادية في اكثر من دولة في العالم، منها لبنان مع فصل مميز عن الدبلوماسية الاقتصادية والامن. قدّم له وزير الخارجية والمغتربين السابق الدكتور ناصيف حتي.
عرض الكاتب تجارب عدد من الدول الرائدة في مجال الدبلوماسية الاقتصادية، لا سيما دول كاسبانيا واليابان وبريطانيا وماليزيا والمغرب ومصر وروسيا والصين والولايات المتحدة الاميركية، فضلا عن التطرق الى تجربة الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية، عارضا بالتفصيل لوظائف الملحقين الاقتصاديين والادوار الاقتصادية للدبلوماسي اللبناني وخصوصا في بلدان الاغتراب.
عن النموذج الدولي الاقرب لاعتماده في لبنان يقول الدكتور وسام كلاكش لـ”الامن العام”: “اعتقد ان النموذجين الاقرب يمكن ان يكونا الماليزي والمغربي. ماليزيا تجسد بلدا على الرغم من انه متعدد الدين والثقافة وافتقاره الى الثروة النفطية، الا انه استطاع بناء اقتصاد متطور قوامه الانتاج الصناعي والزراعي والقطاع الخدماتي لاسيما على صعيد السياحة. اما النموذج المغربي فتمكن عبر الجاليات المغربية في افريقيا واوروبا والتخطيط الرسمي المنسق، من تحقيق قفزات نوعية في دبلوماسيته الاقتصادية مع هاتين القارتين”.
يضيف: “اظن ان الدبلوماسية اللبنانية حققت في السنوات المنصرمة خطوات جيدة في الميدان الاقتصادي، لكن اذا ما اردنا تسجيل قفزات نوعية في مجال الديبلوماسية الاقتصادية، فينبغي ايجاد رؤية موحدة بين القوى السياسية حول السياسة الخارجية الاقتصادية للبنان. على اساسها تنبثق خطة متكاملة تعمل على تنفيذ مضمونها وزارة الخارجية والمغتربين بالاشتراك مع الادارات المعنية. هنا تقتضي الاشارة الى الدبلوماسية لأي بلد ليست سوى مرآة امينة تعكس مستوى التوافق او التباين بين مكونات المجتمع الذي تمثله. كما من المفيد رفد الديبلوماسية اللبنانية بالامكانات المادية اللازمة، الامر الذي يشكل افضل استثمار لاسيما في الوقت الحالي اذ سيكون له مردود مضاعف على الاقتصاد الوطني”.
يورد كلاكش عددا من الاقتراحات يراها مفيدة لتفعيل عمل الديبلوماسية الاقتصادية اللبنانية، ويراها تجسد خلاصات عملية لترسو على اساسها رؤيا جديدة توضع في تصرف الدولة اللبنانية ما يساعد على الخروج من المعضلات الاقتصادية والسياسية من خلال:
“أ ـ انشاء اقسام اقتصادية على غرار الاقسام القنصلية القائمة حاليا في السفارات والقنصليات اللبنانية في الخارج. يتم رفدها بالعديد البشري اللازم من خبراء وموظفين متخصصين وتأمين الموارد المالية اللازمة.
ب – اجراء دورات تدريبية وتأهيلية متخصصة في تطوير المهارات التفاوضية والتقنيات المهنية للدبلوماسيين والموظفين المحليين الذين يتابعون الشؤون الاقتصادية، وذلك في البعثات في الخارج وفي الادارة المركزية.
ج – توفير الموارد البشرية والدعم اللوجستي اللازم لتمكين مديرية الشؤون الاقتصادية في وزارة الخارجية والمغتربين من مواكبة عمل اكثر من 85 بعثة دبلوماسية وقنصلية في الخارج، اضافة الى المهمات الموكلة اليها المتمثلة بالتنسيق مع الادارات اللبنانية المعنية بالشأن الاقتصادي.
د – تعميم الاستفادة من الطاقات الاقتصادية اللبنانية المنتشرة في الخارج بانشاء رابطة اقتصادية جامعة تضم الهيئات والجمعيات والشخصيات اللبنانية التي تتعاطى الانشطة الاقتصادية والتجارية. ونحسب اننا، من خلال ارساء هيكلية تنظيمية عصرية لهذه الرابطة الاقتصادية للمغتربين، قادرون على تحديث تجربة الجامعة الثقافية التي على الرغم من تعدد المآخذ والملاحظات على عملها اثبتت انها مفيدة للبنان، لكن شرط ان تتم معالجة العوائق الادارية والقيود السياسية والطائفية التي احاطت بعملها ومنعت تطورها.
هـ – تعميق ادوات التواصل والتواجد الديبلوماسي اللبناني بفاعلية اكبر في المؤسسات الاقتصادية والدولية والاقليمية”.
تطرق الكاتب الى امكانات التعاون بين الدبلوماسية الاقتصادية والامن، وتحديدا الامن العام اللبناني الذي اعطته التشريعات صلاحيات مهمة. ذكر المرسوم الاشتراعي الرقم 139 (12\6\1959) ان من بين ابرز مهمات الامن العام “جمع المعلومات السياسية والاقتصادية لصالح الحكومة، اضافة الى تقييم المعلومات في شتى الميادين واستثمارها”. في المادة الخامسة من المرسوم ان “دائرة الاستقصاءات تتولى استقصاء المعلومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن كل ما يمت الى لبنان بصلة”. يلاحظ ضمن هذا التوجه، ان القوانين اللبنانية منحت هامشا واسعا لهذا الجهاز الامني في جمع المعلومات الاقتصادية داخل لبنان وخارجه.
اقتبس كتاب كلاكش حديثا للمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم لـ”الامن العام” في كانون الثاني 2020، شرح فيه ابعاد دور الامن العام المتقدم الذي يقوده في هذا الشأن وخصوصا عند بدء عمل الملحقين الاقتصاديين، قائلا: “ان الامن العام واكب تخريج هذه الدفعة من الملحقين الاقتصاديين من خلال المساهمة في ندوات تم التعريف فيها بدور الامن العام ومهماته وبعلاقته بالقنصليات والسفارات في الخارج، لاسيما على صعيد الامن الاقتصادي. علما انه يتم الاعداد لطرح مشروع تعيين ملحقين امنيين من المديرية العامة للامن العام، اسوة بما هو معمول به بالنسبة الى الملحقين العسكريين في الجيش اللبناني، وانطلاقا من مقتضيات المصلحة الوطنية والارتباط المباشر للامن العام بعمل السفارات والقنصليات في الخارج”.
يضيف كلاكش: “نعتقد ان من شأن ذلك فتح افاق واسعة للدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية اذا ما احسن استخدام القدرات الكامنة فيها واستغلالها. قد يكون من المفيد التفكير في تشكيل لجنة مؤلفة من الامن العام ووزارة الخارجية والمغتربين تعنى بتحديد العناصر الايلة الى وضع هذه الخطوة موضع التنفيذ الذي لا بد من ان يأتي منسجما مع مندرجات اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، لناحية وظائف الملحقين الفنيين فضلا عن ضرورة ان يحقق التكامل بين الوظائف الامنية والاقتصادية والسياسية في سياسة لبنان الخارجية. حسبنا ان هذا التوجه يجسد جوهر العمل الدبلوماسي الحديث ويوفر العديد من الفرص للاقتصاد اللبناني”.
يقول: “التعاون بين الامن والدبلوماسية الاقتصادية يكرس عبر خطوات ايجابية في الاونة الاخيرة. اعتقد ان من المناسب ان تجري الاستفادة من الطاقات الديبلوماسية التي يملكها لبنان لاسيما ان التشريعات الوطنية اعطت صلاحيات مهمة الى الامن العام عبر البحث والاستقصاء عن المعلومات ذات الطابع الاقتصادي لصالح الحكومة اللبنانية. يمكن للراصد الموضوعي لاداء الامن العام ان يعاين حجم التطور في ادائه وطرق عمله خلال السنوات الاخيرة، محققا بهذا قفزات نوعية في ميدان الديبلوماسية الاقتصادية. تجلى هذا الامر عبر مواكبة التحاق الدفعة الاولى من الملحقين الاقتصاديين بالبعثات اللبنانية في الخارج. وقد شرح اللواء ابراهيم ابعاد هذا الدور المتقدم للجهاز الذي يقوده. الواقع انه يمكن للدبلوماسيين العاملين في الخارج ان يرصدوا مدى اهمية تحصين هذا العنصر الحيوي لحماية الامن القومي اللبناني في الخارج. وكانت لي تجربة واقعية، حين تشرفت برئاسة البعثة الدبلوماسية اللبنانية في ابيدجان – ساحل العاج، في معاينة كيف ان عوامل ثلاثة اجتمعت في تحركات المدير العام للامن العام في اتجاه المغتربين: التعاون الرسمي مع السلطات الاجنبية المعنية ونسج علاقات انسانية ومهنية مفيدة مع المسؤولين الامنيين والسياسيين والتواصل المكثف مع الشخصيات الاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، فقد ادت تلك العوامل الى تكوين ما يمكن تسميته بحزام امان اضافي لتعزيز الامن القومي اللبناني في الخارج”.
عن اعتماد ملحقين اقتصاديين في لبنان من خارج الملاك وتعيينهم في الخارج مع ما يرتب ذلك من تكاليف على خزينة الدولة، فضلا عن اراء تفيد بانهم غير فعالين، يقول كلاكش: “تم اختيار الملحقين الاقتصاديين وفقا لمباراة شفهية اجرتها لمئات المرشحين، لجنة في وزارة الخارجية والمغتربين برئاسة الامين العام للوزارة وعضوية كوكبة من خيرة الدبلوماسيين. وعليه بات الملحقون الاقتصاديون بعدما فاز 20 منهم في المباراة، يشكلون جزءا ثابتا من ملاك الوزارة. على الرغم من ان من المبكر الحكم على ادائهم قبل مرور بضع سنوات على عملهم، الا ان الانطباع الاولي حولهم في اوساط الدبلوماسيين العاملين في الوزارة يفيد ان لدى الملحقين الاقتصاديين امكانات ومهارات مهنية واعدة وقابلة للتطوير، بما يساهم في تعزيز ادوات دبلوماسيتنا الاقتصادية”.