![الشهيد لقمان سليم](https://i0.wp.com/masdardiplomacy.com/wp-content/uploads/2021/02/Slim.jpg?fit=512%2C289&ssl=1)
الشهيد لقمان سليم
مصدر دبلوماسي”
كتبت مارلين خليفة:
لم أعثر على أبلغ من عبارة الاديبة رشا الامير شقيقة المفكر السياسي لقمان سليم لأعبّر عن مدى المستقبل المظلم الذي ينتظر لبنان وسط عقليّة ظلامية تنخر عميقا في عظام هذا الوطن.
لم أتعرّف الى الشهيد لقمان سليم إلا مرّتين اثنتين، وانتهى التعارف بسوء تفاهم بسبب احد اصدقائه المتسرّعين، ما دفعني الى الابتعاد كليا عن المشاركة في اية فاعليات تقوم بها جمعية “أمم” بسبب “نصرة” سليم لصديقه بطبيعة الحال ولو كان مخطئا. لكن ليس هذا مهما اليوم.
فأنا منذ فجر أمس، في اللحظة التي قرأت فيها تغريدة شقيقته رشا الأمير معلنة عن “اختفاء” شقيقها في ظروف غامضة وهو في زيارة الى نيحا الجنوبية، ساورتني حالة من الانقباض، تأكد سببها مع الاعلان عن العثور على جثة سليم مقتولا في سيارته على احدى طرقات النبطية.
منذ الأمس، شعرت بحزن عميق وكنت أتساءل: لماذا أحزن الى هذه الدرجة على شخص لا أعرفه؟ لا بل أنه ليس صديقا لي؟ لا بل إنني أرى حضوره ثقيلا في بعض الاحيان على القنوات العربية بسبب تطرّفه وحدّته في التعبير عن آرائه، وانا لا تعنيني آراءه لكن بطبيعتي لا أحب التطرّف.
حاولت أن أكتب خبرا عن استشهاده فلم أفلح. عشت شرودا ذهنيا استمر لغاية كتابة هذه السطور، ثم ايقنت أنني حزينة على نفسي وعلى جميع الكتاب والمفكّرين والأكاديميين والباحثين والاشخاص الذين يسبحون عكس التيار في بلد اعتبر دوما بلدا للحريات وهو بات بنظري بلدا للاجرام المعولم.
قتل لقمان سليم، يعني في وجداني أنه ممنوع عليك كمثقف أن تنتقد وأن تخرق المحظورات بل أن تنساق الى السائد، وتبقى تحت سقف محدّد، منخفض، أن تبقى مطأطئ الرأس، أن تكتب قدر المتيسّر، وإن حاولت العكس فستموت، مات قبلك كثر والحبل على الجرّار.
إن طبيعة عمل لقمان سليم، لا تجعل الاسترسال في تحليل اغتياله محصورا بكونه كاتبا يعبر عن رأي سياسي ما، فمسيرة الرجل حافلة بالمواقف السياسية الحادة والكتابات والاعمال المسلوخة عن البيئة التي يعيش فيها، والمرتبطة بعوالم وقيم غربية منها محاكمة مجرمي الحرب والعمل على عدم الافلات من العقاب وهو ما لم يركّز عليه الاعلام المحلي والعربي، بل تمّ اختصار الرجل بأنه خصم لحزب الله.
يحضرني في هذه المناسبة فيلم “تدمر” الذي أنتجه لقمان سليم مع زوجته المخرجة الالمانية على ما اعتقد مونيكا بورغمان، يومها تعرفت اليه (اعتقد في العام 2018) في سينما صوفيل، حيث نظمت السفارة السويسرية عرضا مجانيا للفيلم وفوجئت باكتظاظ الصالة بالشباب اللبنانيين والسوريين الذين لم يعثروا على مقعد فافترشوا الارض. يتناول فيلم تدمر التعذيب الذي يعاني منه المعتقلون في السجون السورية، وقد اختار سليم عددا من المحررين منهم وهم لبنانيون لإعادة تمثيل فنون التعذيب التي تعرضوا لها في السجن السوري طيلة أعوام. لم أتحمل من أن أشاهد أكثر من نصف ساعة من الفيلم المرعب، أذكر أنني خرجت ورأيته واقفا في الخارج فعرّفته بنفسي وأخبرته بمشاعري وبأنني لن أكمل مشاهدة الفيلم لما يحتويه من مشاهد قوية ومؤلمة، فضحك وقال لي هذا هو المقصود أن يشعر الناس بمعاناة هؤلاء المظلومين في السجون السورية. ثم، قرأت أخيرا بعد اغتياله أنه كان يوثق حالات التعذيب في الحرب السورية كما وثق الحرب اللبنانية في أرشيف كامل، ويعدّ ذلك عملا خطرا، لأن أعمال التوثيق هذه ستستخدم حتما أمام المحاكم الدولية لاحقا لملاحقة المرتكبين.
ثم التقيت بالشهيد سليم في مؤتمر نظمه في 2018 عن اللاجئين السوريين، حيث أجريت معه مقابلة تحدث فيها عن معاناة هؤلاء وهو من اعتبر بأن لبنان هو بالأصل بلد لجوء ولا ضير من أن يبقى هؤلاء فيه على قدر ما يشاؤون.
لا يسعني الكتابة أكثر عن لقمان سليم فهذا ما أعرفه عنه، ثم شاهدت كيف أحرقت خيمته في ساحة الشهداء حيث كان ينظم محاضرة عن حياد لبنان، واتهم بالخيانة والعمالة.
بأي حال، لم يكن لقمان سليم رجلا عاديا بعلاقاته الدولية وتواصله مع مراكز الابحاث العربية والعالمية، وأكبر دليل مروحة الشجب الدولية التي انطلقت منذ الأمس بدءا من وزير خارجية اميركا انطوني بلينكن الى الاتحاد الاوروبي وكبار الدبلوماسيين والباحثين الدوليين. فالرجل الذي لم يرذل ضاحية بيروت الجنوبية التي رذلت فكره السياسي، كانت لديه الجرأة أن يعيش في حارة حريك ويعبّر عن افكاره الثقيلة على هذه البيئة ومن داخلها وهو ما يعتبر شجاعة وقوة سواء توافقنا معه بالرأي أم لم نتوافق.
وبالتالي، فإن الخصومة السياسية أو الفكرية مع سليم ليست هي الاساس، ولم أشعر بالحزن العميق لأنه شخصية مقرّبة مني ومن أفكاري بل بالعكس، لكنّ لقمان سليم يرمز بالنسبة الي الى حالة المثقف الشجاع الذي يتحدّى بيئته وقيودها، ويخرق أفكار الاكثرية ويقف متحديا شامخا صارخا بقناعاته بلا خوف، وهو نموذج اللبناني الحيّ، الذي لا توقفه أفكار متحجرة ولا يخيفه شيء. يمثل لقمان سليم، ما مثله جبران تويني وسمير قصير ومحمد شطح من جرأة وشجاعة لا تعترف بالسائد وتريد التغيير، هل معها حق أم لا ليس هذا الأساس، بل يكمن الجوهر في تلك الروح الثورية الشامخة المنعتقة التي عقدت آلة قتل رهيبة ومجهولة -في لبنان الساحة السائبة لمئات اجهزة الاستخبارات- العزم على قتلها، كل لسببه الخاص ولأهدافه الخاصة.
أيقظ مقتل لقمان سليم نقمة داخلية لدى كل لبناني حرّ، ملّ القتل، ملّ مقارعة الافكار بالتصفية الجسدية. بالأمس قتل سليم، لكن الآلاف مثله وأمثاله سيولدون في لبنان وسيحملون أفكارا ثورية منعتقة “شريرة” بالنسبة الى السائد فهل سيتم قتلهم كلّهم؟
إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من ترداد عبارة رشا الأمير: هنيئا لكم هذا الرّكام!