مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
لا تزال المبادرة الفرنسية على قيد الحياة. من مؤشرات ذلك الزيارة التي تأجلت قسرا للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 22 كانون الاول بسبب اصابته بوباء كورونا، كذلك الاتصالات الفرنسية الحثيثة والدائمة بالاطراف اللبنانيين والتواصل الفرنسي مع مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان، وتنسيق باريس مع الاتحاد الاوروبي
على الرغم من الحركة الفرنسية المكوكية، الصامتة منها والعلنية والتي توجتها المبادرة الفرنسية في الاول من ايلول الفائت، لا يبدو بحسب العارفين انها ستحقق اي خرق قبل بدء ولاية الرئيس الاميركي جو بايدن في 20 كانون الثاني الجاري. المعوقات امام هذه المبادرة محلية وخارجية في آن، ناتجة عن التجاذبات الاقليمية التي تلعب دورا بارزا في تجميدها. العقبات السياسية المحلية والاقليمية تشل اي انجاز لهذه المبادرة المستمرة ببطء السلحفاة. لكن ذلك لم يحبط عزيمة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي دعا الى عقد المؤتمر الدولي الثاني لدعم بيروت والشعب اللبناني، في 2 كانون الاول. وكانت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية اعلنت عشية المؤتمر ان المبادرة وصلت الى طريق مسدودة.
اشارت الصحيفة في افتتاحيتها الى انه حتى “جزرة المساعدات الدولية تبدو عديمة الفاعلية في مواجهة انهيار النظام السياسي اللبناني الذي يظهر انه غير قابل للاصلاح، ما يخلف مرارة كبرى لدى الرئيس الفرنسي الذي سافر مرتين الى بيروت لحض القادة اللبنانيين على الاتفاق على حكومة مهمة”.
هذه المرارة عبّر عنها ماكرون مرارا. عشية المؤتمر اصدرت الرئاسة الفرنسية بيانا اشارت فيه الى ان اية اجراءات لم تنفذ بموجب خارطة الطريق الفرنسية المقترحة لمساعدة لبنان على حل ازمة سياسية واقتصادية كبيرة، كما لم يتم احراز اي تقدم في ما يتعلق بمراجعة حسابات مصرف لبنان. وقالت ان العقوبات الاميركية على الطبقة السياسية في لبنان لم تؤت ثمارها، وابدت اعتقادها بانها لن تؤدي الى تأليف الحكومة اللبنانية.
في المؤتمر الذي لم يحمل وعودا بتقديم مساعدات مالية الى لبنان، اعلن ماكرون ان فرنسا تساهم في دعم الشعب اللبناني، وهذا الدعم لا يمكن ان يأتي عوض دعم السلطات اللبنانية، ولا يمكنه ان يستبدل ضرورة تأليف حكومة. وقال ان “على الساسة اللبنانيين تأليف حكومة جديدة لتنفيذ الاصلاحات، والا فلن يحصل لبنان على مساعدات دولية”. وشدد على ان فرنسا لن تتخلى عن ضرورة القيام بالاصلاحات وعن التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت. وبحسب الرئيس الفرنسي، من المقرر تأسيس صندوق يديره البنك الدولي للمساعدة في تقديم المساعدات الانسانية للبنان.
زيارة الرئيس ماكرون الثالثة، لو حصلت، كانت ستكون مفصلية في بلد تنهار فيه الدولة، علما ان مبادرة بلاده على اهميتها بدأت تواجه منافسة المانية عبر الاتحاد الاوروبي. تشكل برلين الرافعة المالية لأي مشروع اوروبي في الشرق الاوسط، بينما تنشط باريس في الشق السياسي. لكن يبدو ان برلين دخلت بقوة اخيرا على الخط اللبناني سواء من خلال هبات وقعها سفيرها اندرياس كيندل مع وزير الخارجية اللبناني شربل وهبه اخيرا بقيمة 48 مليون اورو، او عبر الاتحاد الاوروبي. عقد وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي اجتماعا في 7 كانون الاول الفائت صدرت عنه توصيات مهمة في شأن لبنان، وكانت لبرلين بصماتها في هذا البيان الذي دعا لبنان لان “يقيم محادثات فاعلة مع صندوق النقد الدولي وان تستانف في اقرب وقت ممكن”. وعدد وزراء الخارجية الاوروبيون مجموعة من الاجراءات المفتاحية كما وصفوها، مثل: “اعتماد قانون الكابيتال كونترول، والانتقال السريع الى تحقيق جنائي لمصرف لبنان، واتخاذ تدابير توفر الاستقرار للقطاع المصرفي عبر التشريعات اللازمة بشكل ضروري”.
حاولت المبادرة الفرنسية الدفع في اتجاه تشكيل حكومة بعد انسداد افق داخلي بسبب الخلافات المستحكمة، وخصوصا بين قصر بعبدا وبيت الوسط. تنخرط هذه المبادرة في صميم المشكلات اللبنانية، وهي تقريبا ذاتها الورقة الاصلاحية التي تم التوافق عليها وكان يجدر برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ان يطبقها، لكنه آثر تقديم استقالته في العام 2019، وهي محصلة مشاورات عميقة مع الاطراف اللبنانيين وتنص على مجموعة من الاصلاحات الجريئة التي تتطلب خطوات شجاعة بدورها من قبل المسؤولين اللبنانيين لتطبيق مسار اصلاحي حقيقي. من ابرز مقترحات الاصلاحات التي تضمنتها المبادرة الفرنسية: اعادة الاعمار بعد تفجير 4 آب، خطة حكومية لمكافحة كوفيد – 19، التحقيق المحايد والمستقل بانفجار المرفأ، استئناف فوري للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الموافقة السريعة على التدابير الوقائية التي طلبها صندوق النقد الدولي بما في ذلك القانون المتعلق بالكابيتال كونترول والتدقيق في حسابات مصرف لبنان، اطلاق استدراجات عروض في ما يتعلق بمعامل توليد الكهرباء بواسطة الغاز، التخلي عن مشروع معمل سلعاتا بصيغته الحالية. عقد اجتماع ثان لمجموعة المتابعة المحلية لمؤتمر سيدر واطلاق موقع الكتروني مخصص لمتابعة المؤتمر بكل اجزائه (مكونات المشاريع والتمويل والاصلاحات) وفقا لما ورد في الاطار المرجعي الخاص بمتابعة سيدر، الاطلاق الفعلي للتدقيق الكامل في حسابات مصرف لبنان، انجاز التعيينات القضائية (قضاة مجلس القضاء الاعلى) والمالية (اعضاء هيئة المراقبة على الاسواق المالية) والقطاعية (الهيئات الناظمة لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني)، وذلك وفقا لمعايير شفافة تعتمد على الكفاية، موافقة البرلمان على اقتراح قانون حول استقلالية القضاء، اطلاق دراسة حول الادارة العامة من قبل مؤسسة دولية مستقلة (البنك الدولي او منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية) مع مكتب متخصص.
كذلك نصت على تعيين اعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومنحها القدرات الضرورية للقيام بالمهمات المنوطة بها والتطبيق الفوري للاصلاحات الجمركية، واصلاح الشراء العام. بالنسبة الى المالية العامة، الاعداد والتصويت على مشروع قانون تصحيحي للمالية يبين بشكل صادق وضع الحسابات لسنة 2020 وذلك في غضون شهر، واعداد واعتماد ميزانية متجانسة لسنة 2021 ، واصلاح القانون الانتخابي مع ضم المجتمع المدني بشكل كامل، ما يسمح للبرلمان بأن يكون اكثر تمثيلا لتطلعات المجتمع المدني.
لكن يبدو ان الصداقة الفرنسية التاريخية مع لبنان لم تجعل الرؤى متطابقة لغاية اليوم حول هذه الخطوات وسبل الاصلاح. فاذا قاربنا هذه المبادرة من حيث نقاط قوتها وضعفها، يمكن القول ان ابرز نقاط قوتها تنطلق بما تشتمل عليه من بنود، ومن قناعة لبنانية واسعة تضم القوى السياسية والشرائح الشعبية بانه يجب العمل على تخطي الوضع المتردي في لبنان والناتج من الازمة المالية والاقتصادية والتي اججها انفجار المرفأ. اما نقاط ضعفها، فبحسب اكثر من مسؤول سياسي على تماس مع هذه المبادرة، فانه يوجد بعض التسرع في الخطوات الفرنسية، فضلا عن تباين داخل الطاقم الفرنسي المعني بها حول مقاربة هذه المبادرة واسلوب تطبيقها. اما نقطة الضعف الابرز، فتتمثل في تلطي بعض الساسة اللبنانيين خلف المبادرة الفرنسية واستغلالها بغية تحقيق مآرب لا تمت بصلة الى مقاصدها الحقيقية. من الامثلة، محاولة التلطي خلف المبادرة لتحقيق مآرب من ضمنها طريقة تشكيل الحكومة ومحاولة اسقاط اعراف جديدة على التشكيلة الحكومية تحت عنوان ان الحكومة يجب ان تكون غير مسيسة ومؤلفة من التكنوقراط فحسب. في هذا السياق، اكد الفرنسيون مرارا للمسؤولين اللبنانيين في اتصالاتهم بانهم ليسوا معنيين بالالاعيب الداخلية وكنهها ان كل طرف يشد البساط صوبه، وانهم ليسوا في صدد اقصاء اي من القوى السياسية ووضعها خارج المشهد، خصوصا وان جزءا كبيرا من الاصلاحات ومنها مجموعة من القوانين التي تطلبها المبادرة تتطلب موافقة القوى السياسية.
كذلك هناك توجس من بعض بنودها، ومنها التحقيق الجنائي الذي اثاره المبعوث الرئاسي الفرنسي السفير جاك دوريل بشكل كبير في زيارته الاخيرة الى لبنان، قائلا لعدد من مضيفيه انه لا يمكن التوجه نحو المستقبل اذا لم نعرف ما الذي حصل في الماضي.
لم يتورع ماكرون في مؤتمر صحافي سابق اقامه في باريس، عقب فشل تشكيل حكومة برئاسة السفير مصطفى اديب، من القول ان اللبنانيين فشلوا في الالتزام بعهودهم، ووضع جزءا من اللائمة على “حزب الله”، علما انه لم يوفر الرئيس سعد الحريري. في احدى اللقاءات السياسية طلب احد المفاوضين الفرنسيين من مضيفه توسط “حزب الله” لدى حلفائه لتفكيك الالغام المحلية امام المبادرة، فأتاه الجواب ان الحزب لا يمكنه الاملاء على حلفائه.
تبقى العقوبات الاميركية التي لم تأت صدفة لمرتين كادت الحكومة فيهما ان تتشكل، فهذا الامر ليس صدفة بل امرا مقصودا وممنهجا بحسب العارفين. ففي كل مرة يبذل الفرنسيون جهدا لتحقيق انفراج في الوضع اللبناني يضع الاميركيون العصي في الدواليب. لكن ذلك لا يدفع الفرنسيين الى اتهام الاميركيين علانية. حين طرح السؤال على مصدر رئاسي فرنسي كان يتحدث الى مجموعة من الصحافيين في قصر الاليزيه، عشية انعقاد مؤتمر باريس الثاني لدعم الشعب اللبناني، قال: “العقوبات لم تسبب انسدادا لكنها لم تساعد في ازالة العراقيل”.
Les sanctions n’ont rien bloque, mais ils n’ont rien debloque
فالفرنسيون يبدو انهم لا يريدون الاعتراف بأن جهودهم لا تلاقي حماسة اميركية.
لكن، هل صحيح ان المبادرة الفرنسية وصلت الى انسداد افق كما كتبت “لوفيغارو”؟
يقول المعنيون في لبنان ان هذه المبادرة لم تنته ولن تنتهي، والفرنسيون وعلى رأسهم ماكرون لن يتراجعوا عن الاهتمام بلبنان. تاريخ العلاقة لا يسمح الا بهذا السلوك الفرنسي، كما ان لبنان هو من المواقع القليلة في الشرق الاوسط حيث يوجد حضور فرنسي بارز. ولبنان مهما انهار يبقى مطلا على قضايا المنطقة برمتها، لكن المراوحة سوف تستمر لغاية تسلم الرئيس الاميركي جو بايدن زمام السلطة رسميا في الولايات المتحدة الاميركية، بعدها يمكن فصل الخيط الابيض عن الخيط الاسود.