مقالات مختارة
موقع: 180 Post
أنطون مراد
عميد ركن متقاعد
وسط هذا الضجيج السياسي والإعلامي الذي بدأ من لحظة إعلان رئيس مجلس النواب الاتفاق الإطار حول مفاوضات ترسيم الحدود، وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، وانطلاقاً من خبرتي الميدانية وأبحاثي حول هذا الموضوع، وجدت أن من واجبي أن أشرح للشعب اللبناني حقيقة الأمر بشكل صادق ودقيق لأني أعتبر أن الجيش اللبناني يخوض معركة حقيقية مع العدو الإسرائيلي وعلينا جميعًا الإلتفاف حوله وعدم التشويش على مهمته.
بشكل دقيق نحن أمام مهمة تفاوض لمعالجة الإشكاليات الحدودية في البر والبحر كون اتفاق الإطار ينص على تلازم المسارين. هذه الإشكاليات وُجدت نتيجة الفوارق بين الخطوط التي حاولت الحلول مكان الحدود الدولية، فهناك خمسة خطوط في البر وخمسة خطوط في البحر، سنشرح ظروف وجودها والإشكاليات التي تسبّبت بها.
بالنسبة للحدود البرية، مرّت هذه الحدود بثلاث مراحل تاريخية، فأصبح لدينا خمسة خطوط على الشكل التالي:
1-الخط الأول هو خط لجنة بوليه – نيوكومب في العام 1923 وهو الترسيم الأول لحدودنا الجنوبية وهو عبارة عن خط الانتداب بين فرنسا التي كانت منتدبة على لبنان وسوريا وبين بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين والأردن والعراق. وضعت هذه اللجنة 38 نقطة حدودية بين رأس الناقورة والمطلة (قبالة كفركلا وسهل الخيام)، وأودعت تقريرها عصبة الأمم فأصبحت حدودنا معترف بها دوليًا.
2-الخط الثاني هو خط الهدنة في العام 1949 حيث كان الترسيم الثاني لحدودنا والذي نفّذته لجنة الهدنة المشتركة برئاسة الأمم المتّحدة وكانت تضم أعضاء لبنانيين وإسرائيليين.
3-الخط الثالث (يتضمن الرابع والخامس) هو خط الانسحاب (الخط الأزرق) في العام 2000 والذي هو عمليًا عبارة عن ثلاثة خطوط: أولًا، خط الخريطة الورقية الذي تساوي سماكته 50 مترًا على الأرض، ثانيًا، خط لائحة إحداثيات 2000 وهي عبارة عن لائحة تتضمّن 197 نقطة مستخرَجة من الخط الأزق، ثالثًا، الخط الأزرق الرقمي Digital Blue Line.
نتيجة الفوارق بين هذه الخطوط وخط الحدود الدولية، خسر لبنان مساحاتٍ واسعة من أراضيه يغتصبها العدو الإسرائيلي مستفيدًا من كون هذه الخطوط صادرة عن الأمم المتّحدة. تم حصر هذه الأراضي في ثلاث عشرة منطقة وضع لبنان تحفّظاته عليها ومساحتها 485487 متر مربع. بالإضافة إلى هذه المناطق، توجد إشكالية بلدة الغجر حيث يحتل العدو الإسرائيلي الجزء اللبناني من البلدة برغم أن الخط الأزرق مطابق للحدود الدولية، وبالتالي فإن الوضع هناك هو احتلال إسرائيلي واضح للأراضي اللبنانية وخرق فاضح للقرار 1701 وللخط الأزرق. أما الإشكالية الأخيرة فهي مزارع شبعا حيث يرفض العدو الإسرائيلي الانسحاب منها بحجّة أنها سورية وليست لبنانية.
كما في البر كذلك في البحر، هناك خمسة خطوط تشرح الإشكالية البحرية وكيف خسر لبنان مساحاتٍ كبيرة من مياهه يغتصبها العدو الإسرائيلي مستندًا على شرعة القوة في غياب أي مستند قانوني يبرّر اعتدائه.
بدأت المشكلة البحرية في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2006 حين بدأ التفاوض بين لبنان وقبرص حول حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة بين البلدين، واقتصر الوفد اللبناني حينها على مدير عام النقل البري والبحري في وزارة الأشغال العامة والنقل وبرفقته موظف من الوزارة نفسها، من دون إشراك الوزارات الأخرى المعنية، فكان الخطأ الأول حيث تم اعتماد الخط الوسطي بين لبنان وقبرص، وانطلق هذا الخط من النقطة رقم (1) جنوبًا وصولاً إلى النقطة رقم (6) شمالاً حيث تمّ التراجع بهاتين النقطتين إلى الجهة اللبنانية، وتم ذكر ذلك في محضر الإجتماع .
استنادًا لنتيجة عمل الوفد اللبناني، وقّع لبنان بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2007 اتفاقية مع قبرص حول ترسيم المنطقة الإقتصادية الخالصة. بعد حوالي السنتين، استفاقت الحكومة اللبنانية على ضرورة ترسيم حدودها البحرية، فكلّفت لجنة مشتركة شارك فيها الجيش اللبناني. رسمت هذه اللجنة الحد البحري الجنوبي حتى النقطة رقم (23)، فتبيّن أن هذه النقطة تقع على مسافة 17 كيلومتر جنوب النقطة رقم (1)، أي أن الفارق هو عبارة عن مثلّث رأسه عند رأس الناقورة (النقطة B1) ومساحته 860 كيلومتر مربع. استغل العدو الإسرائيلي هذا الخطأ، فسارع إلى توقيع اتفاقية مماثلة مع قبرص بتاريخ 17/12/2010 وحدّد الخط الفاصل بين البلدين إعتبارأ من النقطة رقم (1)، فقضم بذلك مساحة 860 كيلومترًا مربعًا من المياه اللبنانية دون أي مسوغ قانوني.
لم يصادق مجلس النواب اللبناني على الاتفاقية مع قبرص، لكنه تسرّع باصدار القانون رقم 163 حول تحديد المناطق البحرية للجمهورية اللبنانية، واعتمد النقطة (23) كنقطة ثلاثية لجهة الجنوب. جاء هذا القانون رغم وجود عدة آراء من قضاة وديبلوماسيين وضباط وأكاديميين لبنانيين كانوا يقولون بأن للبنان الحق بمساحات كبيرة جنوب النقطة (23). وقد ثبّت هذه الآراء دراسة قدّمها السيد جون براون من مكتب الهيدروغرافيا البريطاني UKHO قبل صدور القانون 163، وأوضح فيها أن بامكان لبنان اعتماد خيارين جنوب النقطة (23) من خلال إعطاء جزيرة “تخيليت” نصف تأثير أو عدم احتسابها كليًا، وهذه الدراسة تُمكّن لبنان من كسب حوالي 1300 كيلومتر مربع إضافي. برغم ذلك، صدر القانون وبعدها صدر المرسوم رقم 6433 الذي يحدّد إحداثيات المنطقة الاقتصادية الخالصة، وأودعه لبنان الأمم المتّحدة. استفاد العدو الإسرائيلي من هذا المرسوم ففرض منطقة النزاع بين النقطتين (1) و(23).
بدأت الوساطة الأميركية خلال العام 2012، حيث اقترح المبعوث الأميركي السيد فريدريك هوف خطّاً يقسم المنطقة المتنازع عليها، فأعطى لبنان حوالي 468 كيلومترا مربعا وترك لإسرائيل حوالي 392 كيلومترا مربعا، فلم يقبل لبنان بهذا المقترح لأسباب مختلفة أهمها الانقسامات السياسية الداخلية. بعد هوف، استلم آموس هوكشتاين المهمة ومن بعده دايفيد ساترفيلد وحاليًا دايفيد شينكر الذي سيحضر عملية التفاوض المقرّر انطلاقها في الرابع عشر من هذا الشهر.
إذًا أصبح لدينا خمسة خطوط في البحر هي: الخط اللبناني المعلن (23)، الخط الإسرائيلي المعلن(1)، خط هوف، خط الدراسة البريطانية مع احتساب نصف تأثير لجزيرة “تخيليت”، والخط الأخير هو من دون احتساب أي تأثير لجزيرة “تخيليت”.
إن الجيش اللبناني يعرف جيّدًا أنه سيتعرّض لنيران العدو الإسرائيلي، وهو جاهز لمواجهتها لأنها ستأتيه من الأمام، لكن الخطر الأكبر هو تعرّضه لنيران صديقة لأنها تأتي من الظهر وتكون غير متوقّعة.
بالنسبة لنيران العدو، فقد بدأت منذ الآن من خلال محاولة رفع مستوى التفاوض إلى المستوى السياسي، وكذلك من خلال حصر التفاوض بالبحر في حين أن دولة الرئيس نبيه بري اعتبر أن التأخّر ثماني سنوات حقّق انتصارًا للبنان من خلال فرض شروطه على العدو الإسرائيلي، ومنها شرط تلازم المسارين البري والبحري، ولكن قبل أن تنطلق المفاوضات تبيّن أنها ستكون محصورة بالبحر من دون البر، وما يدل على ذلك هو تشكيل الوفد العسكري الذي لا يضم ضابطًا خبيرًا بالحدود البرّية في حين أنه يضم ضابطًا بحريًا هو العقيد الركن مازن بصبوص الذي من خلال معرفتي به أستطيع أن أُطمئن اللبنانيين لأنه يتمتّع بكفاءة عالية وله دراسات عميقة في موضوع الحدود البحرية ودراساته تتطابق مع دراسة المكتب الهيدروغرافي البريطاني وقد سبق وعرض دراساته على السلطات السياسية اللبنانية ولكنها لم تأخذ بها.
على اللبنانيين أن يدركوا منذ الآن أن جيشهم الوطني يخوض معركة تفاوض، وهذا يعني أن المفاوض سيأخذ في مكان ويعطي في مكان آخر كون العناد دون وجود خطة بديلة يقودنا إلى إضاعة ثماني سنوات أخرى مع ما يعني ذلك من خسارة للثروات وخاصةً أن دول الجوار سبقتنا جميعها في استخراج النفط والغاز.
من هنا، فان المهمة تتطلّب من الجيش اتخاذ قرارات جريئة، وهو بذلك بحاجة لدعم جميع القوى السياسية. لذا، نصيحتي لقوى السلطة عدم تكبير الهدف وعدم إطلاق انتصارات وهمية، وتأمين متابعة يومية للوفد المفاوض وتزويده بالقرارات الواضحة وتحمّل تبعة النتائج لا رميها على الجيش اللبناني. كذلك عليها التعاطي بشفافية تامة مع هذا الملف وإطلاع اللبنانيين على مسار التفاوض ضمن الحدود المسموح بها. والأهم من كل ذلك التعاطي مع هذا الملف على المستوى الوطني وتجيير أي انتصار يتحقّق لمصلحة الوطن لا لمصلحة شخصٍ أو حزبٍ أو طائفةٍ.
أما بالنسبة للقوى التي هي خارج السلطة، فنصيحتي لها أيضًا الالتفاف خلف الجيش اللبناني في معركته مع العدو الإسرائيلي، والتعامل مع هذه المهمة بروحٍ وطنية عالية وعدم نصب الكمائن واستغلال أية ثغرة لتوجيه النيران على الخصوم لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة.
ولجيشنا البطل أقول، وفقكم الله في هذه المهمة الوطنية، نعرفكم لا تخافون من هذا العدو لأنكم ابطالٌ، كلنا خلفكم في معركتكم، حماكم الله من النيران العدوة وأبعد عنكم خطر النيران الصديقة.