“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
فتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “صندوق باندورا” اللبناني من حيث لا يدري، فبدأت العفاريت اللبنانية تخرج عفريتا تلو الآخر، الى درجة بات الرئيس الفرنسي يحتاج فيها الى مبادرة ما لانقاذه في الداخل الفرنسي من مغبّة فشله في لبنان وهو ما سيؤثر عليه سلبيا في الانتخابات الفرنسية المقبلة نظرا الى ارتباط لبنان الوثيق بفرنسا وخصوصا من الناحية العاطفية بين الشعبين التي لا يمكن لأحد تفسيرها.
ولعل مستشاري ماكرون المختلفين بدورهم على مقاربة المعضلة اللبنانية عليهم أن يسمعوه مسرحية ميس الريم التي تقول فيها السيدة فيروز وهي كانت تلعب دور زيّون العبارة الآتية:
“إذن يا حراس الأهالي متفقين وإذا هنّي متفقين بتكونوا غلطانين وإذا انتو مشّ غلطانين بيكونوا هني مش متفقين وإذا كانوا مش متفقين بكون أنا مش سبب المشكل؟”.
نعم، سيطلع الرئيس ماكرون في النهاية هو سبب المشكل في لبنان لأن الجميع بحسب الاجواء التي تظهرها الاطراف متفقين على أنه يعرقل الحلول على الطريقة اللبنانية كيف؟.
جاء الرئيس ماكرون بمبادرته على جناح السرعة بعد يومين على انفجار مرفأ بيروت وذلك في 6 آب الفائت انطلاقا من دور فرنسا كحامية للبحر الابيض المتوسط الذي يعتبر المنطقة العازلة لجنوب اوروبا والذي حاولت تركيا العبث بها من بوابة التنقيب عن النفط عنوة في مناطق اقتصادية خالصة تخص اليونان بحسب معاهدة “سيفر” لسنة 1920. عادت تركيا لتطمح ببعض الجزر اليونانية معتبرة ان معاهدة سيفر اعطتها لليونان فيما هي اراض تركية يحدوها الى ذلك اكتشافات الغاز والنفط. وبعد ان عمدت تركيا الى منع القبارصة اليونان من التنقيب، واتجهت الى لبييا عبر مقاتلين سوريين وحاولت مدّ انبوب من ليبيا الى تركيا كان مقدّرا له ان يمر بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان، دخلت فرنسا كرأس الحربة العسكرية الأمنية الخاصة باوروبا ووقفت حاجزا ببوارجها مع بريطانيا وايطاليا في عرض المتوسط وارغمت الاتراك على وقف التنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان ولحماية المنطقة العازلة الاسياسية للدفاع عن اوروبا.
جاء انفجار 4 آب كفرصة حقيقية للرئيس ماكرون لمواجهة تركيا ولتدجين كل القوى الفاعلة في هذه المنطقة وفي مقدمتها ايران، فاختار باب “السلمية” مع “حزب الله”، وهذا ما لم يعجب اطرافا عدة وخصوصا عند المسيحيين والكنيسة المارونية ولا سيما بعد ان شاهدت هذه الاطراف كيفية تراجع ماكرون امام مطالب “حزب الله” تدريجيا: عرض ماكرون اولا (بطلب اميركي) حكومة يرأسها نواف سلام رفضها الحزب، ثم اختار الحزب اسم مصطفى اديب الذي اختاره الحريري بعد ان وافق عليه حزب الله بعد فلترته لاسماء عدة، عرض ماكرون انتخابات مبكرة فرفضها النائب محمد رعد وقبل ماكرون بالأمر، كذلك راح ماكرون يفاوض الحزب حول التركيبة الحكومية التي ترضيه، وما زاد الطين بلّة ان ماكرون وان كان يتقاسم مع الاميركيين ضرورة حماية امن اسرائيل وعدم وجود سلاح نوعي مع حزب الله حيّد السلاح الى أجل غير معروف عمليا وحصر الكلام معه بالمعضلات السياسية وهو ما اثار سخط الاطراف اللبنانيين ومن ورائهم الولايات المتحدة الاميركية التي وبالرغم من تركها المباردة للفرنسيين فإنها احتفظت لنفسها باللعب باستقلالية وهو ما ظهر بشكل جلي في العقوبات التي طاولت حليفين رئيسيين لحزب الله هما الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن الخليل.
وهذا ما طمأن الاطراف المسيحية وخصوصا الكنيسة المارونية.
لكن اللعبة هنا تكمن في أن هذه العقوبات دفعت حزب الله الى مزيد من التشدد والتشبث بوزارة المالية، وهذا ما عرقل عملية التأليف، ودفع برئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالأمس الى استدارة لا تزال جزئية لحزب الله، رافضا وضع حقيبة وزارية بإسم طائفة معينة، وبالرغم من انتقاده للرئيس المكلف ولعدم اتشارته للكتل النيابية إلا أن المراقبين توقفوا عند هذه الجزئية، أي أن رئيس الجمهورية ولأول مرة منذ تفاهم مار مخايل في شباط 2006 يخيّب حليفه حزب الله في ملف استراتيجي حيوي له ضمن المحاصصة الطائفية الموجودة في البلد. هذه الاستدارة أراحت سعد الحريري لأنه ضمن عدم تأليف حكومة لا يكون هو رئيسها بطلب مباشر من السعوديين للفرنسيين، إذ لوحت الرياض لباريس بوقف اي تعاون استثماري معها ان قبلت بالحريري، وهذا ما شكل صدمة لإيمانويل بون كبير مستشاري ماكرون ولماكرون بالذات، ولا بد ان تكون حركة عون قد طمأنت الحريري لذلك.
كذلك، فإن اليد الاقليمية المتمثلة بالمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة اللتان تعلّمتا كيفية تحريك أدواتهما من دون أن تفصحا علانية، بدتا مرتاحتين لتشدد حزب الله، ولاستدارة عون، ما يعني أن الحزب يعزل نفسه بنفسه ويبدو وكأنه هو من ينسف مبادرة ماكرون. أي بمعنى آخر فإن الكنيسة المارونية، والمسيحيين، وزعيم السنّة والرعاة الاقليميين متفقين على “فركشة” مبادرة ماكرون!
وكذلك “حزب الله”…كيف ذلك؟ تشير الاوساط المراقبة الى أن حزب الله لا يمكن ان يكون مرتاحا لدخول رئيس دولة غربية الى ساحته اللبنانية، يدرك الحزب في عمقه ان هذا الرئيس أي ايمانويل ماكرون يرتبط اولا واخيرا بالسياسة الاميركية ويهمه أمن اسرائيل، وبالتالي فإن عدم تشكيل الحكومة لا يضعف حزب الله الموجود بالرغم من أزمته الداخلية، فإن تشكلت الحكومة ونال وزارة المال يكون رابحا، وإن فشل الأمر يبقي على حكومة تصريف الاعمال المتحكم بها عمليا، علما بأن غاية الحزب وطموحه يبقى ان يعود الحريري الى رئاسة الحكومة، مدركا أن كل “خزعبلات” الحريري الأخيرة هي لتقديم اوراق اعتماده للمملكة العربية السعودية التي لا يبدو بأنها ستلدغ من الجحر للمرة الألف!
في هذا السياق، وقع الرئيس إيمانويل ماكرون في ازمة حقيقية، ما حدا بالطباخين الفرنسيين الى اعطاء 48 ساعة اضافية لانقاذ مبادرته واعادة اخراجها بشكل قد يكون مقبولا من الاطراف اللبنانيين.
في هذا السياق يبقى السؤال الجوهري؟ لماذا يتشبث حزب الله بوزارة المالية؟ ولماذا تحجبها عنه القوى السياسية الأخرى؟
تقول اوساط سياسية مطلعة بعمق على عمل الماكينة السياسية اللبنانية بأن الجمهورية الثانية أي اتفاق الطائف منح الصلاحيات التي كانت لرئيس الجمهورية للحكومة مجتمعة وليس لرئيسها وبالتالي لدينا في لبنان رئيسا لمجلس الوزراء وليس للحكومة. فرئيس الحكومة هو الاول بين متساوين لكن لا سلطة لديه على الوزراء والسلطة الوحيدة التي اناطها به الدستور تكمن بوضع جدول اعمال مجلس الوزراء وهي السلطة الوحيدة التي يتمكن من خلالها التفاوض مع الوزراء.
وتشير الاوساط الى أنه بعد اقرار المراسيم في مجلس الوزراء فإن 85 في المئة منها تحتاج الى تمويل من الخزينة، ولا نص في الدستور اللبناني يرغم وزير المالية اللبناني على التوقيع على اي مرسوم اقره مجلس الوزراء ولو بالإجماع. تعلّق الاوساط: إن تسليم وزارة المالية لمجموعة واحدة أيا كانت يعني تسليمها مفتاح خزنة السلطة التنفيذية أي 85 في المئة من قرارات مجلس الوزراء، وبالتالي فإن توقيع وزير المالية هو عمليا أهم من توقيع رئيس الحكومة. وتتساءل: فكيف إذا سلمنا مفتاح الخزنة الى مجموعة لبنانية لديها ايضا السلطة التشريعية وجيش خاص بها؟
تشير الشخصية الى أن سياسة حزب الله هي على قاعدة: “خذ وطالب” وهو يعمل على تغيير النظام اللبناني بالتقسيط ويريد الفوز بالمالية كأمر واقع قبل التوجه الى باريس حيث سينعقد مؤتمر خاص لاعادة دراسة النظام وعقد سياسي جديد حيث ستكون له مطالب جديدة.
وتشير الاوساط المذكورة الى أن لا شيء مجانيا في السياسة، وقد يكون من حق الطائفة الشيعية المطالبة بأن تكون جزءا من السلطة التنفيذية لكن ذلك لا يجوز ومكوّن اساسي منها يمتلك السلاح، وهو لا يتوانى عن فتح باب المداورة في وظائف الفئة الاولى ولا ننسى ان من ضمنها قيادة الجيش اللبناني. وخلصت الاوساط الى القول: لن يعطى حزب الله شيئا في السياسة قبل المؤتمر التأسيسي لعقد سياسي جديد، أما التهويل بالعامل الأمني فلم يعد يجدي في بلد انهار كليا ولم يعد من شيء يستحق الخوف عليه.