“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة
لا تكتمل صورة “لبنان الكبير” في الاعوام المئة الفائتة من دون “عصفورة الشمس” فيروز ولا يمكن للبنان أن يخطو الى مئويته الثانية الموافقة في الأول من أيلول 2020 إلا بتكريم “زهرة الحرية” وأيقونة الاغنية اللبنانية والرمز الأخير الباقي من معزوفة لبنان الجميلة، ولعلها “زهرة الحرية” الأخيرة… و”غربة” التي سنقتقدها إن غابت.
ثمة من أسرّ للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهذه الحقيقة، فأراد تأدية التحية للبنان الذي يحبه ويتمنّاه، فزار مساء اليوم الإثنين سفيرتنا الى النجوم في “دارة فيروز” في الرابية حيث استبقته الى مائدة العشاء وهو وصف اللقاء بعد خروجه من منزلها بأنه “كان استثنائيا”، وقال أنه “يعد بأن يكون لبنان أفضل مما هو عليه وأن السيدة فيروز أيقونة ولها مكانة بقلوب الفرنسيين واللقاء مع السيدة فيروز كان فعلا استثنائيا”.
في منتصف العقد الثامن من عمرها (فيروز مولودة في العام 1934) طغى استقبال “ديفا” الاغنية اللبنانية لرئيس فرنسا على كل المشاورات النيابية الملزمة اليوم لاختيار رئيس جديد للحكومة اللبنانية وهو سفير لبنان في المانيا مصطفى أديب الذي لن ينال الاجماع الشعبي والمحبة الفائقة التي تحصدها فيروز بصوتها الذي بخاطب العالم، والدليل صرخات بعض الشبان والشابات المعترضة على تكليفه، وقد حاول هؤلاء اسماع صوتهم لماكرون أمام دارة فيروز، وإن كان عددهم ضئيلا.
السيدة الملهمة التي كسرت حدود القارات بصوتها الأخّاذ “الذي أشتهيه أكثر مما أشتهي أن يطول عمري” كما كتب يوما الشاعر أنسي الحاج، اختارت العزلة في منزلها منذ أعوام طويلة حيث تعيش مع عائلتها الصغيرة، لأنها تريد أن يحبها الناس لفنّها وليس لشخصها كما يقول لموقعنا الناقد الأدبي والفنّي عبدو وازن. منذ اعوام والسيدة “الديفا” تعتصم بالصمت لأسباب كثيرة لم ولن تفصح عنها يوما. قالت يوما وهي تتحدث عن حياتها العائلية مع عاصي الرحباني وذلك في حديث أجرته إيفانا مرشليان ومحمود زيباوي لملحق “النهار” في العام 1992:” أفضل اليوم الصمت. أنا منذ البداية من أصدقاء الصمت. سألوني في مصر عن شعوري بالغناء أمام أبو الهول فقلت:” أبو الهول” صاحبي من زمان”.
على أهمية هذا اللقاء التاريخي مع الرئيس الفرنسي، فإنه لم ينج من الانتقادات ومن محاولات تجريده من قيمته الوجدانية والانسانية والوطنية الراقية فحاول البعض انزاله الى درك الحسابات السياسية وادماجه بأهداف المرحلة الصعبة التي يقودها بعض اللبنانيين المتهوّرين والمؤثّرين للأسف لدى بعض عواصم القرار الاقليمية. لا يعرف هؤلاء أن فيروز ضاق بها البلد منذ زمن طويل، وليقرأوا في ختام هذا التقرير ما قالته في الثمانينيات لأنسي يالحاج في ملحق “النهار”، وفي كلماتها العاتبة والمتألمة كلام وجهته على ما يبدو ومن حيث لا تدري لـ”ثوار” نهايات المئوية الثانية.
بكل حال، فإن هذا اللقاء الطاغي بجماليته على كل البشاعات السياسية القائمة، كان مختصرا على الرئيس ماكرون والسفير الفرنسي برونو فوشيه وبعض معاوني ماكرون في الإيليزيه، ومن دون وسائل اعلام إلا مصوّر الرئيس الفرنسي الخاص، وريما الرحباني ابنة السيدة فيروز التي اهتمت بالتقاط صور اللقاء، وذلك بطلب من السيدة فيروز شخصيا، وثمة من يقول أنه بسبب احترازها من وباء كورونا وهي المعروف عنها اهتمامها بصحتها.
السيدة الثمانينية ومحبوبة اللبنانيين والعرب استضافت ايضا قلة من الشخصيات على حفل عشاء في منزلها في الرابية.
عبدو وازن: ماكرون اختار شخصية وطنية جامعة
تكتسب الزيارة والاستقبال اهمية قصوى بثلاثة أوجه: أولا لما تمثل فيروز من ابداع غنائي عالمي في وجدان اللبنانيين والعرب والعالم ولدى الفرنسيين بشكل خاص وهم لم ينسوا حفلتها الشهيرة في الأولمبياد في العام 1988 والتي قلّدها بعدها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران وساما راقيا علما بأن ماكرون قلدها وسام جوقة الشرف الفرنسي الأرفع في الجمهورية الفرنسية وقد أنشأه نابوليون بونابرت القنصل الاول للجمهورية الفرنسية الاولى في 19 ايار 1802.
وهنالك المعنى الوطني الأوسع في مئوية لبنان الكبير ” هذه المناسبة هي رمز لما يعنيه لبنان للفرنسيين كبلد متعدد الثقافات والأديان ونموذج للتعايش في الشرق الأوسط الذي تكثر فيه النزاعات ويحمل في طياته التزاما فرنسيا بالحفاظ على الرمز اللبناني المتمثل بالحرية والانفتاح”. وماذا تفيد هذه الزيارة ماكرون؟ يقول وازن:” إن الرئيس ماكرون شخصية ذكية، وهو أيضا يحب أغنيات السيدة فيروز، ويظهر في هذه الزيارة عن وجهه الثقافي والحضاري المقدّر للفن في احياء دور المجتمع وبلورة هوية الوطن والشعوب، كما أن فيروز تمثّل في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان الوحدة الوطنية ولعلها الممثلة الوحيدة الجامعة للشعب اللبناني”.
نصوص عن فيروز وكلام لها عن فرنسا ولبنان و”الثورة” و”الثوار” منذ الثمانينات والتسعينيات…
جمع موقع “مصدر دبلوماسي” بالتعاون مع صديقة مقرّبة من السيدة فيروز رفضت الكشف عن اسمها مجموعة من أجمل النصوص التي كتبها عنها الشاعر أنسي الحاج هنا مقتطفات منها:
*أنسي الحاج: “أحبها بإرهاب”:
-في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها. ليكن للعلماء بالصوت وللخبراء معرفة، وليقولوا عن الجيّد والعاطل، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة، أحبه في جوعي حتى الشبع، وفي شبعي حتى الجوع. أضمّ يديّ كالمصلين وأناديك: إحفظها! إحفظها! إذا كنت الله فهي برهانك، وإذا لم تكن أنت الله فهي بديلك!. لقد وقعت سابقا في بشاعة الكبرياء فكتمت اعترافي، والآن أقول اعترافي: إني لا أؤمن إلا بها، وأعيش لأنها هي الحياة. باقي ما أفعله أفعله مرغما، أنا مرهون بنزوات حنجرتها، عاقد مصيري على نظرها وخنصرها وآثار قدميها. لقد أعادت اختراع الينابيع، ليست هي طريق الحياة بل الحياة، إني أتكلّم من أعماق البصيرة حيث الصدق لا يختبئ من الخجل ولا يتدلّل لكي يتعرّى: يا رب احفظها! يا رب اخدمها! يا رب أعطني كلاما يليق بها! لقد ساقوا اليها المديح، وارتكبوا بحقها خطيئة التعظيم العادي وخطيئة عادة التعظيم، ولكن يا ربّ لماذا أناديك؟ وهل أنت سوى غريب آخر؟ (…).
يضيف أنسي الحاج عن فيروز:” تغني لنا الأسرار التي جهلناها، والأحلام التي نسيناها. تغني وصوتها مكشوف كاليد المفتوحة، وتغني وصوتها محجّب كوجه خفضه العذاب والخفر الى رجاء الأرض. شعر أغنياتها جميل ولحن أغنياتها جميل، ولكن ليس هذا فقط.(…). صوتها وتمثيلها وحضورها، إن في وجودها إشعاعا يبهر كالبرق، ويستولي على الناظر اليها كما يستولي الكنز على المسافر: صوتها الذي أسمعه فكأنه هو الذي سمعني، بل كأنه أحسن من أن يصغي الي وأنا أصغي اليه. صوتها الساقط فينا كالشهيد، المخمد حولنا العواصف، الملهب فينا غرائز البراءة والوحشية، صوتها كمصابيح في المذبح، وكزهرة جديدة حمراء في حديقة قديمة. لا صوتها في سمعنا فحسب، بل الى الأمام من حياتنا. صوتها المنوّر الذي تنويره كتنوير الصليب لنتوقف ونقدّم لفيروز الشكر في جميع العالم. لأن صوتها راعي الرعشة، لأنه هو الرعشة، وهو نار الحبّ الأخيرة الممشوقة كعروس فوق الماء. (…)
* حوار مع فيروز نشر أيضا في ملحق “النهار”. سألها أنسي الحاج:
-هل تشعرين أنك تنتمين الى بلد آخر؟
-ليس بالضرورة، ولكن أجد في نفسي حبا وشوقا وحنينا وتعصبا لبلد كفرنسا، أحس مني قطعا هناك وأحس من هناك أصداء عميقة في نفسي. في لبنان لا أجد إلا إسم عائلتي. (…). أضافت فيروز متحدثة عن لبنان ردا على سؤال آخر لأنسي الحاج:” غرفتي هي ملكي، لا أملك هذا البلد، لا بشعوري ولا بمالي. بلد لا أملكه ولا يملكني أنت، أثور عليك لأنك فيّ، لأني فيك. هذا هو الحب. أملكك وتملكني ليس بيني وبين لبنان أي مجرى دموي ولا تيار روحي، ولا تعامل عقلي، إنه أرض أجهل ما عليها ولا أحب أن أعرف ما عليها. هو لغيري هو ملك لمن تعرف من محافظين وطائفيين وتجار ورأسماليين وإقطاعيين ورجعيين، لا أحس أقل شهوة في مزاحمتهم عليه. ولا حتى أحسدهم عليه. هو لهم فليحافظ عليه، كل ما أشعر به تجاه ذلك هو احيانا شيء من القرف.
-هذا القرف، أليس لأنك كنت تريدين لبلادك وضعا افضل؟
-ربما، ولكن لن أفعل شيئا حتى يتحسن الوضع، الثوار يضحكونني الثورة هنا مرحلة زمنية، طور من اطوار العمر، كالطفولة والمراهقة ليست، هنا، حالة فكرية ونفسية مستمرة، إنها كما قيل فورة.
-لماذا؟
-لا أعرف، ربما لأننا شعب خليط وغير أصيل، ربما لأننا شعب تاجر وعميل، بكل معنى الكلمة، عاجز عن الصمود في قضايا الفكر العليا، ربما بأن لبنان بلد صغير ولا يحتمل القضايا الكبيرة. لانه ربما بأن أعداء التقدم هم أقوى بكثير من طلاب التقدم وربما لأننا مرتبطون بالخارج ارتباط الكوكب بالفلك.
-إذن الاستسلام؟
-أو التطلع الى التطور الطبيعي، أنا لا أؤمن بالثورة، إذا كان من خير لهذا البلد فيكون عن طريق التطور الطبيعي. (…).
*وكتب أنسي في العام 1981 بعنوان “شاعرة الصوت”: ” ليس صوت فيروز ظاهرة خرافية منفصلة أو مستقلة عن شخصيتها، بل هما سيل ومصدر، لم أعرف فنانا أو فنانة في اصالة فيروز، وحدسها العجيب قد يصل الى حدّ النبوءة. وإذا أردنا أن نبحث عن احد أسرار صوتها، وجب علينا أن نبحث عنه أيضا في الغنى الكثيف والمتراكم لحياتها الداخلية، قليلا ما نجد بين فئة المؤدين فنانا خلاقا. وفيروز هي من هذه القلّة، إنما نخلع على ما تغنيه بركة هي أكبر من مدى الموهبة البحتة، ولا تكتفي بإيصال ما لا يوصل أحيانا، بل توصله، والى جانب الشحنة الشعورية المرهفة حتّى الدمع، بذوق جمالي يطهّر الروح والحواس من شوائب الحياة اليومية ومن آثام البشاعات الموروثة، ثقافة وعادات. والذوق، هنا، تلقائي وتام، حتى ليخيّل اليك أنه بلغ أداء ووقعا حدود العبقرية، وليس افتراء أن يزعم المرء أن العبقرية، في أحد معانيها، هي الذوق، أو ان الذوق عندما يدعمه الغنى الداخلي ويحمل على رأسه تاج البعد السحري الذي لا يفسرّ يصبح نوعا من أنواع العبقرية. يمثل لي صوت فيروز الحب. وأضمّن كلمة الحب الاغراء الخجول والحنين والعتاب والصفح والأسى والغفران والندم والبراءة والتضحية والغزل والصلاة والشهوة. آخرون غنّوا عن الحب أكثر مما غنّت فيروز، لكنّ كلّ أغنية بصوت فيروز هي جوّ من الحب، حتى لو كانت تتحدث عن موضوع آخر. ينشر صوتها مناخا من الاتصال الكهربائي الفوري بالذات وبالآخر، اتصالا داخليا، محض داخلي، لا تضيع منه ذرة واحدة في الثرثرة الخارجية. إنه صوت حميمي يشعرك بأنه لك دون سواك. كلما أحب الانسان الأرض يظن انه أول انسان يحب، وهكذا صوت فيروز كلما سمعته تظنه قد بدا معك.(…).