“مصدر دبلوماسي”
كتبت رانيا حتّي:
يمثّل لبنان جزءاً من منظومة جغرافية في الشرق الأوسط، تعود قيمته عند بوابة البحر الأبيض المتوسط الى تعددية مواقعه الجيوستراتيجية من جباله حتى ساحله وشواطئه . في 4 آب 2020 وقع إنفجار ضخم في مرفأ العاصمة بيروت أدّى إلى مأساة إنسانية مصحوبة بكارثة صناعية وتجارية ضخمة. أثار هذا الحدث المفجع إهتماماً دولياً وعالميا غير مسبوق بسبب طبيعة ونوع الحادث من ناحية الإخلال في معاهدة قانون البحار الدولي باعتبار أن لبنان هو جزء منها وموقّع عليها في العام 1995 . تنص الإتفاقية على بنود عدة أهمها الحفاظ على أمن الموانىء وواجبات الدولة الساحلية، لكن لبنان أخّل بما يتعلّق ببند استقبال السفن التي تحتوي على أغراض خطرة، كما والموافقة على إدخال 2700 طن من نيترات الأمونيوم وركنها في عنبر رقم 12 لمدة 7 سنوات. لذلك، تخطت الكارثة الحدود الوطنية ودخلت في تأثيرات السياسة البحرية وأدخلت لبنان دائرة المساءلة الدولية. ما جعل أغلبية الدول تُبدّل مساراتها وتعاطيها مع الأزمة وتفرض على السلطات اللبنانية تحقيق الإصلاحات المطلوبة ومحاسبة الفاسدين والمخليّن بتلك الإتفاقية.
لكن من ناحية كيفية وقوع الإنفجار فهذا يُترك للجهات المعنية في التحقيق. إلاّ أنّ ما يثير الشكوك، هو وجود عمل إجرامي في موقع له ميزة جيوستراتيجية عالمية كمرفأ بيروت، لا يحدث عن طريق الخطأ أو الإهمال فقط، إنما قد يكون مخطط له لضرب موقع لبنان و عدد كبير من الدول المستفيدة منه. من هنا نطرح تساؤلات عدة عن مدى أهمية موقع مرفأ بيروت “جيوستراتيجياً” و مدى تأثيراته في العلاقات الدولية والتحالفات والصراعات الإقليمية –الدولية ؟
أهميّة موقع مرفأ بيروت الجيوستراتيجي
يتمتع مرفأ بيروت بأهمية حيوية من خلال موقعه الجيوستراتيجي في المنطقة، باعتباره يشكّل محطّة للتجارة الدولية وعقدة مواصلات بين آسيا و أوروبا وافريقيا. ويضم المرفأ أربعة أحواض يصل عمقها إلى 24 متراً، فضلاً عن ستة عشر رصيفا.
تجدر الإشارة، بأن الرصيف رقم 16 يمكن أن يستوعب محطة حاويات تستوعب أكبر السفن في إطار العمليات اللوجستية، بحيث تم تداول 1.22 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدمًا (TEU) سنة 2019. ولتقييم أهميّة خطوط الشحن البحري، أشارت “الأونكتاد” سنة 2018 من خلال مؤشر التنمية والتجارة، بأن لبنان إحتل عبر مرفأ بيروت المرتبة 38 من أصل 171 دولة، وإحتلّ إقليمياً المرتبة السادسة إذ يتعامل مع 300 ميناء عالمي وترسو فيه نحو 3 آلاف و100 سفينة سنويًا. كل ذلك يشير ويؤكد على ميزة مرفأ بيروت كونه من أفضل الموانئ أداءً على مستوى العالم والمنطقة. هذا ما يبرر طموحات الدول وحوافزها للحصول على امتيازات فيه نظراً لأهميته الجيوسياسية و الجيو-إقتصادية. فالتحكم بهذا الموقع الجاذب للشرق والغرب قد يتيح التحكم بمنطقة حوض بحر المتوسط بما فيه الغاز والنفط والمنطقة بكاملها. من هنا يمكن تفسير الإهتمام الدولي بمرفأ بيروت.
عروضات فرنسية – صينية وعالمية
في 17 كانون الأول 2020 سيطلق رئيس مجلس الإدارة رودولف سعادة الرئيس التنفيذي لمجموعة CMA CGM الفرنسية العملاقة ( المجموعة الرائدة العالمية في مجال النقل البحري والخدمات اللوّجستية) الدعوة إلى تقديم عروض ومناقصات تسمح في استخدام المرفأ كمنصة لوجيستية في الاتصالات عبر البحر الأبيض المتوسط أو آسيا – البحر الأسود أو خط “البوسفور السريع” أو حتى خط شمال أوروبا – البحر المتوسط لتفعيل وظيفة أساسية تتمثّل في إمداد البلاد ومناطقها الفرعية. وكانت قد أنشأت تلك الشركات في بيروت، المركز الإقليمي كمنصة مخصصة لتلك المجموعة وCEVA Logistics ومؤخرا The Hub، بهدف التطوير الرقمي لأنشطتها.
أما عالمياً، قدّمت شركة MSC عرضًا مشتركًا مع تلك المجموعات الفرنسية للحصول على امتياز في المرفأ، بحيث يشكل هذا التحالف بينهما 60 في المئة من مجموع حجم البضائع التي تمر عبر بيروت العاصمة اللبنانية نحو دول المنطقة كافة. وتحويل المرفأ كمركز لإعادة توزيع الشحن وإعادة التكوين استنادًا إلى الروابط التي يديرها اللاعبون الرئيسيون في مجال الخدمات اللوجستية الدولية.
من ناحية أخرى، استمرت الصين منذ العام 2018 بتقديم عروض إستثمارات تصل إلى أكثر من 12مليار دولار أميركي، أبرزها شبكة من سكك الحديد تمتّد على الخط الساحلي، وهي شبكة متكاملة تجعل لبنان مترابطاً من أقصاه إلى أقصاه، عبر سكّة الخط الساحلي وربط المرافئ وسكّة طريق الشام، بما فيها نفق حمانا، والخطوط الداخلية التي تربط الجنوب بالبقاع وبالساحل غرباً ودمشق وحمص شرقاً. ويتكامل ذلك مع عرض لتأهيل مرفأ بيروت البحري وإدارته. وقد تستفيد بكين من تلك المشاريع الإستثمارية لتحقيق التعاون والمنفعة المتبادلة والمتكاملة مع مشروع طريق الحرير التي أطلقته سنة 2013 . إذ يُعتبر لبنان بالنسبة للصين وغيرها من الدول نقطة دخول رئيسية للمنطقة بأكملها عبر مرفأ بيروت.
انطلاقاً مما ذكرناه من طموحات وحوافز دولية نجد بأن مرفأ بيروت لم يعد له أهميّة محلية سيادية فحسب بل أهميّة عالمية، لأنه يرتكز على آليات الإستيراد الدولي لمواد الخام والمنتجات المصنّعة حيث تمثّل البضائع التي تدخل إليه حوالي 75 في المئة عن طريق البحر ومن خلاله تُصدّر السلع إلى دول المنطقة كافة وعلى الأقل الى 56 دولة . لذلك نستطيع القول بأن مرفأ بيروت تحوّل من مادة جيوبوليتيكية إلى مادة جيواستراتيجية بامتياز في شرق البحر الأبيض المتوسط على المستويين الإقليمي والدولي .
في النهاية، لا شك بأن انفجار مرفأ بيروت “الدولي” أحدث انقلاباً في مشهد العلاقات الدولية ولا ريب بأن تعطيله كميناء حيوي ناشط وجاذب سيشكّل خللا في التحالفات وسوف يعمّق النزاعات والصراعات وربما قد يُحدث حروباً دولية. ذلك، أن من يتحكّم بموقع مرفأ بيروت من خلال الإستثمارات فضلاً عن إعادة إعمار بنيته التحتية بوسائل تكنولوجية، رقمية ولوجستية حديثة قد يتحكم بالمنطقة من الناحية التجارية والإقتصادية. ونظراً لأهميته الكبرى قد يدفعنا إلى التشكيك بأن الإنفجار الذي وقع بمرفأ بيروت لم يأت صدفة بغضّ النظر عن الإهمال الحاصل لسنوات بل هو عمل تخريبي مدّبر و مخطط له لضرب موقع لبنان الجيوستراتيجي وقطع الطريق على عدد كبير من الدول المستفيدة منه .
فالمستفيد من إعادة تأهيل المرفأ سيسعى لتفعيل وتعزيز صداقاته مع لبنان والجوار وفي المنطقة، أما المتضرر من مرفأ بيروت فسوف يحاول زعزعة الأمن والإستقرار الداخلي وفي المنطقة بهدف تعزيز مرافئه كبديل عن مرفأ بيروت كما وقطع الطريق على نهوضه مجدداً. يبقى الجواب الأكيد بأن ما بعد كارثة مرفأ بيروت لن يكون كما قبله، فهل سنكون أمام سيناريوهات تسوية دولية – إقليمية لتقسيم النفوذ في المنطقة والتسويات بين مختلف الللاعبين، أم حروب وصراعات حتى إلتقاء وتقاطع المصالح ؟
*رانيا حتّي، أكاديمية وباحثة لبنانية