
ديفيد هيل سيحسم المشهد اللبناني: إما حلّ وتسوية وإما انفجار
“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
مرّة جديدة أثبت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه “شخصية مزعزعة” فبعد زيارته السريعة الى لبنان والتي أعقبت انفجار مرفأ بيروت منذ أسبوع بعد يومين من وقوع الكارثة نجح في 6 ساعات ما عجزت دول في تحقيقه وخصوصا منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول الفائت.
بطبيعة الحال، قامت تلك الدول بإنضاج الأرضية اللبنانية عبر وسائل عدّة منها التسخين السياسي والميداني، ومنها عبر “الدبلوماسية الناعمة” (أو الخبيثة وهو التوصيف الأفضل لها). لكن ضغوط هذه الدول المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية لم تمكنها من الوصول الى نتيجة سياسية لأنها طالما افتقرت الى الرؤية السياسية الواضحة، يحدوها هاجس وحيد هو القضاء على “ذراع إيران” في لبنان أي “حزب الله”.
طيلة فترة الضغوط التي مارستها تلك الدول سواء ماليا او اقتصاديا وخصوصا اعلاميا بقي حزب الله الأقل تضررا، فيما كان حلفاء تلك الدول يكادون يتضورون جوعا ومهانة أمام المصارف. وفي نهاية المطاف، جاء انفجار المرفأ المجهول الأسباب بين عمل حربي ضد لبنان أو كارثة بسبب اهمال جرمي ليصبّ في صالح تلك الضغوط، فيضطر حزب الله للتراجع خطوة الى الوراء متخليا عن حكومة دياب التي كان يريدها لنهاية عهد الرئيس عون، من دون أن يخسر شيئا أساسيا لغاية اليوم وخصوصا وإن كانت حكومة الوحدة الوطنية المقبلة برئاسة سعد الحريري.
للتذكير فإن “حزب الله” وحليفه رئيس المجلس النيابي نبيه بري طلبا “لبن العصفور” للحريري ليقبل بتشكيل حكومة وحدة وطنية إثر استقالته عقب انتفاضة تشرين، لكن الحريري رفض حينذاك بضغوط داخلية وخارجية، وها هو انفجار المرفأ يحقق لحزب الله ما يريده وإن كان وسط ظروف وضغوط أشد وطأة عليه.
بكل حال، وصل ماكرون “الشخصية المزعزعة” كما تصفها الدراسات عنه بغطاء إنساني شرعي، إثر ثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم، ليحتضن لبنان الذي راح مواطنوه يطالبونه بعودة الإنتداب الفرنسي من شدة يأسهم من طبقتهم السياسية الفاسدة وغير الجدية.
علما بأن فرنسا كادت تخسر لبنان في الأعوام الأخيرة لصالح الولايات المتحدة الأميركية، التي تمكنت فعليا من أن تنال حظوة لدى اللبنانيين، في حين تميزت فرنسا باضافة وحيدة هي أنها بقيت تحاور “حزب الله”، وهذا هو السبب الوحيد لقدرتها على المبادرة وليس فقط لأن “قلوب اللبنانيين تخفق على دقات قلوب الفرنسيين” كما أوحى ماكرون في كلامه في قصر الصنوبر.
على جناح الحوار، جمع ماكرون رؤساء الكتل النيابية، وفي طليعتهم رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، ولشدّة “العصف السياسي” الذي خلفه هذا اللقاء مع شخصية سياسية حزبية مدرجة على لوائح الارهاب الاميركية، نسجت أساطير حول اللقاء: هل كان على الواقف أم جلوسا؟ قيل انه خلوة، وبعضهم تساءل ما الذي حصل في الـ7 دقائق التي تحدثا فيها (لا نعلم من وضع عدّاد الوقت وتوصل الى هذه النتيجة). ساد التكتّم الجهتين الفرنسيين وحزب الله، الى أن كان خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الذي كان أكثر من إيجابي حيال زيارة ماكرون على عكس تغريدات بعض المسؤولين الايرانيين الذين لا شك أنهم وجدوا فيها تدخلا غربيا في شؤون لبنان مدركين أن ماكرون يحمل تفويضا أميركيا في لبنان، وقارئين في انفجار المرفأ عودة غير آمنة بالنسبة اليهم لاستثمارات فرنسية وخليجية ( إماراتية تحديدا) لإعادة بناء مرفأ استراتيجي يقع عند المياه الدافئة للبحر الابيض المتوسط المشرع على اوروبا والعالم.
وجّه ماكرون إذن رسائل مفتاحية، صحيح أن الغموض ساد بعض التعابير والمصطلحات مثل “حكومة الوحدة الوطنية” و”إعادة تأسيس النظام” و”ميثاق جديد مع الشعب “، والتفريق الذي أرساه بين مصطلحي النأي بالنفس والحياد (كان وزير خارجيته لودريان قد تبنّى الحياد الايجابي رسميا في زيارته الى لبنان قبل ثلاثة اسابيع) وعلم موقعنا بأن اتصالات حثيثة تجري خلف الكواليس لفهم المقصود الفرنسي من هذه المصطلحات التي تتعلق بحسب المفهوم اللبناني بالكيان والميثاق والصيغة.
وتجري اتصالات حثيثة مع مستشار ماكرون الدبلوماسي وسفير فرنسا السابق في لبنان ايمانويل بون لكي يوضح ما قصده الرئيس الفرنسي من مصطلحات تتطلب كل منها حوارا لبنانيا لبنانيا قد يتطلب اعواما!
لكن بالرغم من “الغموض البناء”، تمكن ماكورن من زعزعة “الستاتيكو” الداخلي الذي كان قائما في لبنان: قفز حسان دياب قفزة انتحارية في المجهول باقتراحه المتفرّد إجراء انتخابات نيابية مبكرة بعد شهرين، (لم يتشاور مع أحد!) ما حسم قرار إقالته- إذا صح التعبير- من الجهات التي غطّت مجيئه لرئاسة الحكومة في 11 شباط الفائت وفي طليعهم الثنائي الشيعي أي “حركة امل” و”حزب الله” وحليفهما “التيار الوطني الحر” ورئاسة الجمهورية.
هذه القفزة في المجهول سرّعت استقالة الحكومة، كذلك أدى تدخل ماكرون عند الأميركيين الى تليين في موقفهم، فاتصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس اللبناني ميشال عون وحضر مؤتمر باريس الافتراضي الذي جمع 36 دولة ومنظمة دولية ومؤسسة مالية وجمع 295 مليون دولار من “المساعدات المباشرة للشعب اللبناني”، كما ورد في البيان الختامي للمؤتمر ما يعني نزع اية ثقة عن مؤسسات الدولة اللبنانية، وهذا ما ستكون له تداعيات سياسية لاحقة.
ولعل الأهم ما ورد في بيان مؤتمر باريس قوله بأن الشركاء مستعدين لدعم النهوض الاقتصادي والمالي للبنان، مما يستدعي استراتيجية لتحقيق الاستقرار التزام السلطات اللبنانية بالكامل القيام سريعا بالإجراءات والاصلاحات التي يتوقعها الشعب اللبناني.
إن استقالة حكومة حسان دياب هي سيف ذو حدّين: قد تعني الاستقالة مقدّمة لتشكيل حكومة وحدة وطنية طالب بها ماكرون (لم تنل بركة الشخصيات المدنية المعارضة التي اجتمع بها في قصر الصنوبر لأنها تبقي على الممسكين التقليديين للحياة السياسية في لبنان أي الأحزاب وتشي اوساط اعلامية مقربة من حزب الله بأنه تخلى عن هذا الطرح جراء الضغوط الاميركية السعودية) تأتي بغطاء دولي وتبدأ ورشة إعادة الاعمار التي بات لبنان بحاجة اليها إثر اعصار انفجار المرفأ وتشرد أكثر من 300 الف لبناني وسط ازمة اقتصادية مالية خانقة. لكن مع الابقاء على الطبقة السياسية الحاكمة هي ذاتها بلا تغيير في سلوكها السيء الذي أدى الى انتفاضة 17 تشرين، وهنا الطامة الكبرى.
وقد تؤدي الاستقالة الى هروب الحكومة التي ستكون في طور تصريف الاعمال من التوقيع على استحقاقات داهمة أبرزها تطبيق قرار المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الحريري وتجنب تداعياتها التي يقال أنها ستكون مزلزلة بفعل التفاصيل التي سيتضمنها الحكم، وتجنب التحقيق الجنائي في السرقات التي طاولت مرافق الدولة وحسابات المصرف المركزي وكان ماكرون شدد في مؤتمره الصحافي في قصر الصنوبر على أهمية إعادة تنظيم القطاع المصرفي ومصرف لبنان وهذا ليس تفصيلا.
لا شك بأن الفرنسيين لديهم دالّة على لبنان، وهم قادرين على التحاور مع حزب الله، المعزول دوليا وعربيا، لكنهم بطبيعة الحال غير قادرين على حسم شكل الحل في لبنان، لأن المفتاح يبقى بيد الأميركيين الذين يتفاوضون على ملفات حيوية بالنسبة الى أمنهم القومي المتعلق تحديدا بإسرائيل (ترسيم الحدود البحرية تمهيدا للتنقيب على الغاز والنفط، الصواريخ الدقيقة لحزب الله، ودور الحزب المستقبلي).
لا يزال السقف الأميركي الذي تردد صداه أوساط دبلوماسية أوروبية وازنة وحليفة للولايات المتحدة الأميركية تقول لموقعنا “بأن انفجار بيروت كان انذارا أخيرا بضرورة الاصلاح الجذري في النظام اللبناني على المستويات كافّة وليس المؤتمر الدولي الذي انعقد في باريس باب النجاة للبنان بل تغيير جذري وإعادة تأسيس النظام”.
هذه الفكرة ليست مغرية هنا في لبنان، ويقول سياسي لبناني مخضرم بأن هذا الكلام غير واقعي، حتى وروده في كلام الرئيس الفرنسي ليس مفهوما وثمة اتصالات تجري لفهمه. يقول هذا السياسي (مسيحي مستقل) لموقعنا: “ان طرح ماكرون يعبّر عن ارادة فرنسا بمساعدة لبنان وايجاد حل سياسي ليكون مقدمة للحلول الاقتصادية والمالية وللإصلاح ولكن هذه الارادة الفرنسية التي دعت بكلمات كلاسيكية الى تغيير بالعمق واصلاح كامل وتغيير المنظومة تحتاج عمليا الى تفسير وتحديد، لأنها مصطلحات حمّالة أوجه، وممكن أن تكون مصدر نزاع أكثر وليس حل”.
فهذه المصطلحات مثل “إعادة تأسيس نظام سياسي جديد”، “إعادة بلورة الوفاق الوطني للاصلاحات”، “الشفافية في الاطار الدولي”، “إعادة وضع ميثاق جديد مع الشعب اللبناني”، تحتاج الى تفسير… ماذا يعني ذلك؟ يقول السياسي:” ماذا يعني الميثاق الجديد؟ فهو بالأصل موجود، فهل يعني ذلك إعادة النظر بإتفاق الطائف؟ أو الميثاق الوطني؟ أو بالصيغة الاسلامية المسيحية؟ من هنا فإن هذه العبارات هي حمّالة أوجه وممكن أن تشكل مصدرا للنزاع أكثر مما هي مصدر للحل”.
يضيف:” لهذا السبب يفترض بأن تدرس فرنسا هذه الكلمات وتعطي تفسيرا واقعيا لها لأن التغيير في لبنان لا يشبه التغيير الذي يحصل في فرنسا وفي دول لديها تقاليد ديموقراطية عريقة، وأكثرية وأقلية، لأنه في لبنان توجد ما يعرف بالميثاقية وهذه نقطة مهمة وخصوصا وان ماكرون اجتمع مع الطبقة السياسية التي اشتكى منها ومع المجتمع المدني البديل ولكن طرحه لحكومة وحدة وطنية صبّ لصالح المجموعة التي يشتكي منها!”.
وتتساءل الشخصية المذكورة:” ممن سيؤلف الرئيس ماكرون حكومة وحدة وطنية؟ من شربل نحاس وشامل روكز؟ بالطبع لا فهي ستكون من القيادات السياسية الموجودة”.
بالنسبة الى مفهوم الحياد، والذي كان البطريرك الماروني بشارة الراعي سيعقد اليوم الثلاثاء مؤتمرا صحافيا جامعا للحديث عنه (أرجاه بسبب استقالة الحكومة ولكي يعطى حقه)، فإن ماكرون آثر استخدام مصطلح النأي بالنفس وليس الحياد. يتجنب الفرنسيون استخدام مصطلح الحياد كنظام يكون من ضمن الدستور اللبناني كما يرغب البطريرك الماروني وذلك لكي يتمكنوا من افساح المجال للتفاوض في هذا المفهوم الذي يعارضه حزب الله بشدة، فلا يكونون فريقا بحسب ما تقول الشخصية المذكورة. لكن ما لم يقله ماكرون قاله قبل اسبوعين وزير خارجيته جان-ايف لودريان خلال اجتماعه مع البطريرك الماروني بشارة الراعي. قال بأن فرنسا تهمها سيادة لبنان لكن فرنسا لا ترى أية فاعلية لسيادة لبنان من دون الحياد. ولم يبخل بالتصريح بذلك في مدرسة الكرمل في ختام زيارته الى لبنان. إن كلمة النأي بالنفس هي كلمة سياسية لكن البطريرك الماروني –بحسب شخصية مقربة منه- يطرح مشروعا دستوريا يريد ادراج كلمة الحياد في الدستور اللبناني كما هي موجودة في الدستور النمساوي، إذ اكتشف البطريرك أنه منذ العام 1943 الى اليوم لم يكن النأي بالنفس والتحييد (السياسيين) قابلين للتطبيق.
بالمحصلة، كانت زيارة ماكرون الشرارة التي أشعلت رياح التغيير الذي لن يعرف أين ستحط رياحه، إذ تبقى الكلمة الفصل لزيارة وكيل وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل غدا الأربعاء، فشيطان التفاصيل اللبنانية والاقليمية يحلها الأميركيون في حين يرسم الفرنسيون الاخراج المناسب للشعوب ولأصدقائهم التاريخيين.