“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة
دمج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل متعمّد في إجابته أمس في المؤتمر الصحافي بين مفهومي النأي بالنفس والحياد، معتبرا إياهما ذي معنى واحد بحسب ما قال لموقع “مصدر دبلوماسي”. وهو قال ردّا على سؤالنا عما إذا كان يتبنى مفهوم الحياد الذي أطلقه البطريرك الماروني بشارة الراعي منذ مدة، “بأنه سبق تحدث عن النأي بالنفس في معرض مؤتمره”.
هذا الجواب لماكرون هو نفسه مضمون جواب وزير خارجيته جان-إيف لودريان أثناء مؤتمر صحافي عقده قبل اسبوعين في مدرسة الكرمل، فحين سئل عن تبني فرنسا لمفهوم الحياد بعد لقائه الراعي قال لودريان بالحرف: “لقد التقيت البطريرك الماروني أمس، وبان لي ذلك كإنتقال ضروري فشخصيته هي قوية في البلد. وانا سمعت حديثه. وأخيرا حين تطرق الى موضوع الحياد، أنا أعتبر أنه يتحدث عن الحياد الإيجابي. إن الحياد الإيجابي يعني بالنسبة إلي الرسالة التي ترددها فرنسا بشكل منتظم، إنها النأي بالنفس، السيادة وسلامة لبنان في ما يخص الصراعات الموجودة في المنطقة والتأكيد على سلامة لبنان وقوته وهويته. هذه الرسالة نتقاسمها تماما مع البطريرك”.
فارق بين المفهومين
في المفهوم الدستوري، ثمة فارق صريح بين مفهومي النأي بالنفس وهو سياسي، وبين الحياد وهو مفهوم قانوني يتطلب اقرارا داخليا وتعديلا دستوريا وربما قرارا من مجلس الأمن الدولي.
يرفض أحد كبار الدستوريين في لبنان هذا الأمر قائلا بأن الرئيس ماكرون استخدم مصطلح الناي بالنفس كي لا يدخل في سجالات اللبنانيين التي لا تنتهي حول مفهوم الحياد الواسع قانونيا، مشيرا الى أن الفريق المعارض لهذا المفهوم أي “حزب الله” وفريقه السياسي يرفض فكرة الحياد ويعتبر أنها موجهة ضده لأنها تتطلب حيادا تامّا عن اسرائيل وكل الصراعات في المنطقة وكذلك الابتعاد عن أي تعاون عسكري أو سياسي أو دبلوماسي خارج إطار الدولة اللبنانية. وبالتالي إختار الرئيس ماكرون تعبيرا غير صدامي، هو النأي بالنفس مستندا فيه الى وثيقة رسمية لبنانية هي إعلان بعبدا الصادر في العام 2012.
غير أن الخبير الدستوري يقول أن ماكرون تحدث عن النأي بالنفس قاصدا الحياد، وهو مغزى إجابته الى موقع “مصدر دبلوماسي” وهو تكرار لما قاله وزير خارجيته قبل اسبوعين.
وفي تسريبات من الاجتماع الذي جمع الرئيس ماكرون مع رؤساء الكتل النيابية، فإنه طلب منهم الابتعاد من ايران واسرائيل، ما يعني أنه طلب حياد لبنان، وقالت اوساط سياسية في قراءة لها لموقعنا أن تبني لبنان للحياد قد يكون الثمن لكي سيفكّ عنه العزلة الدولية الأميركية والأوروبية والعربية، ولا يستبعد ان يكون ماكرون قد تناقش في فكرة المؤتمر الدولي الداعم للبنان بالمساعدات مع الأوروبيين والأميركيين، “لكن لكل شيء ثمن”. وتشير المعلومات الأولية الى أن ماكرون طرح من جانبه مسألة حكومة وحدة وطنية إلا أن فرقاء عدة من بينهم وليد جنبلاط آثروا الحكومة الحيادية، في حين طلب فرنجية ان تكون اية حكومة حيادية برئاسة سعد الحريري.
الرأي الدستوري
في رأي دستوري، نشره قبل فترة الدكتور أنطوان مسرة وكان نصا ملهما للبطريرك الماروني وقد تم توزيعه على المرجعيات الروحية الاسلامية والمسيحية وعلى البعثات الدبلوماسية ومنها السفارة البابوية، أن مفهوم الحياد لا يحتاج اي تعديل دستوري ولا أي قرار أممي لأن لبنان في حالة حياد منذ الميثاق الوطني ودخوله في جامعة الدول العربية وما خرق الحياد هو اتفاق القاهرة أولا وتفاهم مار مخايل بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” ثانيا، بحسب مسرة.
يقول الدكتور مسرّة:” بعد “فك الحصار عن الشرعية” في لبنان تتألف حكومة استقلالية تؤكد في بيانها الوزاري الثوابت الميثاقية والدستورية اللبنانية والعربية والقرارات الدولية، وأيضًا الثوابت في سياسة لبنان الخارجية الرسمية منذ 1943 حول الحياد اللبناني ومقدمة الدستور: “لبنان عربي الهوية والانتماء”.
ويشرح مفهوم الحياد اللبناني:” ليس تحييد لبنان عن الصراعات العربية والإقليمية مطلبًا جديدًا، أو مطلبًا مناقضًا للدستور اللبناني وميثاق جامعة الدول العربية والتزامات لبنان الدولية.
صرخة البطريرك الكاردينال بشاره الراعي في 5/7/2020 في سبيل تحييد لبنان ليست تعبيرًا عن معارضة أو موالاة. انها نابعة من أعماق تاريخ لبنان، منذ 1860 بشكل خاص، ومواثيق لبنان وميثاق جامعة الدول العربية ومعاناة اللبنانيين المشتركة في “الحروب من أجل الآخرين”، وهي نابعة من ضرورة استعادة الشرعية اللبنانية والعربية والدولية. وهي نابعة اليوم من لقمة العيش اليومية انتقالاً، بعد أكثر من نصف قرن، من الساحة الى الوطن”.
كيف يتحقق تحييد لبنان
يتحقق تحييد لبنان بحسب مسرة:” من اللبنانيين أولاً في دولة لبنانية واحدة لا دولتان، وجيش واحد لا جيشان، والتزام الدستور: “لبنان عربي الهوية والانتماء” (المقدمة)، ثم ثانيًا مساندة عالمية ثابتة”.
ويقول:” إن تحييد لبنان هو استعادة، بعد طول اختبار ومعاناة مشتركة، لاعلان بعبدا في 11/6/2012. التزمت جميع الأطراف بهذا الإعلان وهو يتمتع بصفة دولية نتيجة تبليغه الى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة”.
وفي الخلفية التاريخية يقول مسرّة:” يندرج تحييد لبنان في المسار التاريخي الطبيعي للدولة اللبنانية منذ الميثاق الوطني سنة 1943، شرط ان تتمتع الدولة اللبنانية بالصفات الأساسية المسماة ملكية droits régaliens ((rex, regis, roi وهي أربعة: احتكار القوة المنظمة، واحتكار العلاقات الدبلوماسية، وفرض الضرائب وجبايتها، وبناء السياسات العامة”.
ما الذي خرق حياد لبنان؟ يقول الدكتور مسرة:” تحوّل لبنان منذ 1969 من خلال اتفاقية القاهرة وفي الحروب المتعددة الجنسيات في 1975-1990، وفي خروق اتفاقية الهدنة سنة 1949 وفي اطار استراتيجيات خارج الميثاق العربي للدفاع المشترك ومن خلال الجيش السوري في لبنان في السنوات 1990-2005 ومن خلال محور سوري-إيراني إقليمي مناقض لما ورد في مقدمة الدستور اللبناني: “لبنان عربي الهوية والانتماء”، تحول لبنان من وطن “عربي الهوية والانتماء” الى ساحة صراعات إقليمية، منذ 1969 في اتفاقية القاهرة والتي تمّ الغائها في المجلس النيابي اقرارًا باستعادة الدولة صلاحياتها الحصرية في الدفاع. ويستند تحييد لبنان الى “التعهدات اللبنانية”، حسب تعبير ادمون رباط، والى الدستور اللبناني والميثاق العربي للدفاع المشترك وقرارات الأمم المتحدة”.
ويختم مسرة:” “تكمن جذور تحييد لبنان في وثيقة الوفاق الوطني-الطائف بالذات في ثلاثة بنود على الأقل: تسليم كل التنظيمات المسلحة أسلحتها الى الجيش، إعادة تمركز وانسحاب الجيش السوري في لبنان، لبنان عربي الهوية والانتماء، الانتقال من “الدويلات الى الدولة” (كميل منسى، الياس هراوي: عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة”.