“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة: (خاص)
وجّه وزير الخارجية والمغتربين المستقيل ناصيف حتي إشارة جديدة تفيد بأن رجال الفكر والدبلوماسية والمنطق السياسي ليس لهم مكان بعد في الشأن العام في لبنان.
صحيح بأن حتيّ قدّم استقالته اليوم لرئيس الحكومة حسان دياب بفعل إرادي وبكامل قواه العقلية وبقناعة تامّة، ولمّا حاول دياب ثنيه عن استقالته وهو يقدمها له كان حتي حازما بجوابه: “بدّي إمشي”.
كان الوزير الآتي من عالم الدبلوماسية الرفيع تواقا ليغادر هذه التجربة التي دامت 6 أشهر في غابة الدبلوماسية اللبنانية، حيث لا مكان للأصول العريقة وحيث تسود شريعة الغاب وقاعدتها: القوي يأكل الضعيف. آثر المغادرة ببيان مكتوب يحوي الكثير من الرسائل الهادفة (أنظر البيان الكامل على موقعنا) ليس أقلها أنه كان يعقد آمالا على تحقيق “التغيير والاصلاح” ولم يتمكن بسبب اصطدامه بالواقع، وربما أشدها وطأة حين اعترف بأنه تعذر عليه العمل وحين حذر من أن يصبح لبنان دولة فاشلة تماما.
في مكتبه في قصر بسترس، تحلق حوله ظهر اليوم الاثنين مساعدوه الأقربون، من دبلوماسيين واداريين، جلس يتجاذب أطراف الحديث معهم بهدوء وارتياح ظاهر على ملامحه وكأنه أزاح عنه كابوسا مزعجا. قال بوضوح: “أريد العودة الى المنتديات العلمية والدبلوماسية أناقش الخبراء والمتخصصين بالقضايا الراهنة”..
ناصيف حتي، مثل كثر من التكنوقراط وجد في وزارة الخارجية والمغتربين في البلد الخطأ وفي التوقيت الخطأ. رجل فكر وقلم، ترعرع على حب الوطن والضمير الانساني الحي والاخلاق العالية والتواضع. حمل شابا وصية والده وهو كان مغادرا للدراسة في واشنطن. كان والده قد اعطاه رسالة وقال له: يا بني لا تفتحها قبل وصولك الى المطار. قرر ناصيف فتحها في الطائرة، فعثر على العلم اللبناني مكتوبا عليه بخط والده: حافظ على هذا العلم.
في تجربة الستة أشهر، الممضة، لكل من يعرف كواليس هذه الوزارة والقوى التي تحركها يبدو بأن ناصيف حتي تذكر وصية والده واكتشف أنه لن يتمكن من الحفاظ على علم بلاده فقرر الانسحاب. ظهر هذا الامر جليا في بيان الاستقالة وتحديدا في العبارة الاخيرة: ” لقد شاركت في هذه الحكومة من منطلق العمل عند رب عمل واحد اسمه لبنان، فوجدت في بلدي ارباب عمل ومصالح متناقضة، إن لم يجتمعوا حول مصلحة الشعب اللبناني وانقاذه فإن المركب لا سمح الله سيغرق بالجميع”.
سألناه لم اختار هذا التوقيت فكان جوابه بأنه يوجد دوما تاريخ، وهو اكتشف بعد 6 أشهر ان العمل الحكومي العام لم يحقق شيئا من طموحات الناس وتعذّر العمل لا يتعلق بوزارة الخارجية على وجه التحديد، وهو كان يتمنى ان تعمل الحكومة على الاصلاحات بوتيرة اسرع، فقرر التصالح مع ذاته والاستقالة، ما عاد في مجال إبقى” كما قال.
وهل طلب منه صديقه وزير الخارجية الفرنسي جان-ايف لودريان الاستقالة؟ يضحك ويوجه صوب الاعلام قائلا بأن الاعلاميين يخلطون بين وجهات النظر والتحليل والمعلومة وهذا أمر غير جائز لأنه يجب توجيه السؤال الى الاشخاص المعنيين. مثال آخر عن الاخبار المضللة التي انتشرت قبيل تقديمه استقالته عن لقاء جمعه اليوم في قصر بسترس مع رئيس جهاز الامن والارتباط في حزب الله الحاج وفيق صفا، ينفي الخبر كليا متأسفا الام وصل اليه الاعلام اللبناني من قلة الدقة ويردف:” لا أعرف شكله للرجل”.
منذ زمن طويل جدا، لم ينتفض وزير ويقدّم استقالته اعتراضا على الأداء في الحكومة، فعلها حتي من دون تردد. هو رجل لا يبحث عن سلطة، يعيش مع الناس كما يقول. يستذكر صديقه وزير الخارجية الفرنسي الاسبق أوبير فيدرين، الذي كان يدور به بسيارته لمرات في شوارع باريس لإيجاد مكان يركن فيه سيارته وهو لمّا يزال وزيرا للخارجية. هكذا يحب ان يمارس حياته ببساطة اعتادها في حياته الدبلوماسية مع الكبار في الاخلاق والسلوك.
“هيك عشت، وهيك بدي ابقى” يقول.
في الدقائق الاخيرة قبيل مغادرته قصر بسترس، استجاب الوزير حتي لطلبات دبلوماسيين واداريين واعلاميين لالتقاط صور معه، هو الوزير الذي آثر البقاء في الصورة الرومانسية التي طالما رسمها للبنان الذي يحبه، وعوض البقاء مطوقا بالمصالح الحزبية والطموحات الشخصية آثر حمل حقيبته والمغادرة برأس مرفوع، لعلّ المستقبل يغيّر من الواقع المرير الذي يمر به لبنان فتتم اعادة البناء على قواعد جديدة كما يقول.