“مصدر دبلوماسي”
كتبت رانيا حتّي:
في لحظة مفصلية تعيشها المنطقة بدءاً من إقرار صفقة القرن إلى وعد نتنياهو بضم جزء من الضفة الغربية وغور الأردن في تموز المقبل ودخول “قانون قيصر” الأميركي ضد سوريا حيّز التنفيذ في حزيران الجاري وتداعياته على لبنان، دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى حوار وطني شامل في بعبدا غدا الخميس بغية إيجاد مسعى إنقاذ لإيجاد حلول تؤدي الى معالجات وطنية وللصدّي للمخاطر الداهمة إقليمياً ودولياً.
بالإضافة الى الأزمة الإقتصادية المستفحلة في لبنان والتي ستكون في إطار تحديات المرحلة التي ستطرح على الطاولة قد يكون التوجه نحو الشرق عامة والصين خاصة إحدى تلك الخيارات المصيرية والمفصلية.
وقبل يومين من انعقاد هذا الاجتماع، استبقه مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر ليشنّ عبر مقابلة لموقع “الهديل” حملة على التوجه اللبناني صوب الصين وقال ردا على سؤال بأن “الدعوة لتوجّه لبنان نحو الشّرق وتحديدًا نحو الصّين وروسيا وإيران هي “صادمة”.. فهل يخبرنا أحد عن حجم المساهمات المالية والتقديمات الصينية للبنان؟ كم قدّمت روسيا من مساهمات مالية للبنان؟… الولايات المتحدة كانت في العام 2019 أكثر دولة قدّمت مساعدات للبنان، بأكثر من 750 مليون دولار أميركي كمساهمات إقتصادية وتنموية وأمنية.. كم قدّمت الصّين للبنان للمساعدة في مواجهة فيروس كورونا؟ الولايات المتحدة قدمت مساعدات للبنان بلغت قيمتها 25 مليون دولار لمواجهة كورونا، ماذا قدمت الصين؟ لننظر لجيبوتي كمثل سريع، حيث لم تقدّم الصّين سوى “الفخاخ” والدّيون المرتفعة وعقود الإستثمار غير الشفافة وجميعنا يرى كيف تسعى الصّين للاستحواذ على أي دولة تُقصّر في دفع مستحقات الديون كما فعلت في بعض الحالات حيث استحوذت على المرافئ لمدة 99 سنة.. وقدّمت للعالم عدم الشفافية في موضوع فيروس كورونا.. هذا ما قدّمته الصّين!
الواقع أن هذا التوجه الجديد، هو “صادم” أيضا لكثير من الطقم السياسي والاقتصادي والمالي الذي حكم لبنان، فمنذ انتهاء الحرب اللبنانية في تسعينيات القرن الفائت إعتمدت الحكومات المتعاقبة سياسة الإستدانة في مجالات عدة، وكان لإعادة الإعمار الحصة الأكبر من تلك الديون من أجل تأهيل البنى التحتية وقطاع الكهرباء وبناء الجسور والطرقات الخ…
في ظلّ انعدام استراتيجية تخطيط ورؤية واضحة نحو مستقبل إقتصادي إنتاجي، إقتصرت كل تلك السياسات المتبعة على الإقتصاد الريعي بما فيها القروض والفوائد من البنوك والمصرف المركزي فضلاً عن القروض من الدول الغربية باريس 1 وباريس 2 ، نتيجة لذلك، وُقعّت الدولة اتفاقيات شراكة مع دول اوروبية متوسطية وغربية.
اليوم، وبسبب تلك السياسات الإقتصادية الريعية، يعاني لبنان من أزمة إقتصادية خانقة، تعجز فيه الدولة من الإستمرار والصمود وقد يتجه صوب الإنهيار الحتمي. لذلك، تسعى الحكومة اللبنانية من ضمن إطار الخطة الإنقاذية التي اقرتها إتخاذ خطوات إصلاحية مثل إعادة هيكلة الدين العام الذي يطالب به صندوق النقد الدولي حيث تمتلك فيه الولايات المتحدة الأميركية بأكثرية الأصوات، كما باستطاعتها وضع ” فيتو” في حال معارضتها لقرار لا يتلاءم مع مصالحها. في هذا الوقت، يجري الحديث عن استعداد الدولة الصينية للقيام بالتعاون العملي مع الجانب اللبناني، “على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة”، كما جاء في بيان صدر أخيرا عن السفارة الصينية في لبنان حيث تتابع الشركات الصينية باهتمام فرص التعاون في البنى التحتية والمجالات الأخرى. ما يعني ذلك، بأن المنافسة بين واشنطن وبكين وصلت إلى الساحة اللبنانية وأصبح لبنان ينحو صوب ” قوس الأزمات ” الخارجية. هذا المصطلح ” قوس أزمة ” طرحه قبل ثلاثة وثلاثون عاماً “زيبينغو بريجنسكي” مستشار الأمن القومي الأميريكي آنذاك، كمفهوم يقوم على خلق عدم استقرار وفوضى شاملة تشمل لبنان وسوريا إلى العراق والخليج، امتداداً إلى حدود أفغانستان والصين.
ما يُثير القلق، في ظل التنافس الصيني – الأميركي على الصعيد الدولي والمنطقة الإقليمية بالإضافة إلى الصعوبات الإقتصادية في الداخل اللبناني هو اسئلة حول اذا ما كانت الدولة اللبنانية ستتلقف القبول بالمبادرة الصينية؟ وهل إجتماع بعبدا للقيادات الحزبية والكتل النيابية يهدف غدا الخميش بدعوة من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يهدف إلى إجماع وطني للإتجاه نحو الشرق؟
أمام مشهد مماثل، يبدو بأن لبنان دخل حالياً في نطاق ” قوس الأزمات” الإقليمية والدولية، إذ يتضّح بأن الصين تسعى من جهة للتوسّع بمشاريعها الإستثمارية في سبيل المنفعة المتبادلة. تكمن أهمية بكين بهذا الإنفتاح على لبنان باعتباره يتميز بموقعه الجيوستراتيجي على بوابة البحر الأبيض المتوسط وعقدة مواصلات بين آسيا أوروبا و أفريقيا حيث تستفيد الصين من استراتيجية الموقع لتحقيق “الحزام والطريق” والذي يندرج من ضمن طموحاتها الجيو – إقتصادية في المنطقة. بالمقابل، تسعى الولايات المتحدة لشدّ الخناق على لبنان من ضمن التضييق الإقتصادي عبر الدولار وعبر إلتزام الدولة اللبنانية التقيّد بقانون قيصر، ولقطع الطريق عن أي مساعدة دولية قد تُمنح إليه لا سيما المشاريع الصينية الإقتصادية بالتحديد.
ولكن بالرغم من التنافس الشرس بين بكين وواشنطن، فإنّ طروحات التوجه شرقاً، لا تعني إقفال الباب غرباً، فمن حق لبنان كأي دولة سيادية في العالم أن يختار التوجه نحو أي خيار يُسهم في نهوض إقتصاده الإنتاجي وتطويره بغض النظر عن الدولة التي سوف يتعامل معها، إن كانت شكل أنظمتها ليبرالية، إشتراكية أو مختلطة، فالدستور اللبناني ثابت وواضح بمقدمته الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة.
إذاً، لا يبقى أمام الحكومة اللبنانية إلاّ إتخاذ قرارات جريئة لإخراج لبنان من دائرة ” قوس الأزمات” الإقليمية والدولية ومعالجة الأزمات الإقتصادية الداخلية بعيداً عن الفوضى العالمية، وتحييد لبنان عن الصراعات بجميع محاورها والإنفتاح فقط بما يخدم مصلحة لبنان العليا وليس ما يخدم سياسة الدول الخارجية التي تسعى إلى ترسيخ نفوذها في لبنان و المنطقة تحقيقاً لمصالحها القومية.
*رانيا حتّي: أكاديمية وباحثة لبنانية