مقالات مختارة- شوقي عشقوتي
مجلّة الأمن العام
اخيرا، تشكلت الحكومة في العراق بعد خمسة اشهر من ازمة سياسية وفراغ حكومي على وقع احتجاجات شعبية في الشارع، ونجح مصطفى الكاظمي الاتي من خارج الطبقة السياسية في تشكيل حكومة والحصول على تأييد القوى السياسية في البرلمان بما فيها القوى الشيعية المتنافسة. دخل العراق مرحلة جديدة حافلة بالتحديات والمشاكل.
دخل مصطفى الكاظمي في امتحان عسير ومهمة صعبة هي كيفية ادارة التوازن والمساكنة بين ايران والولايات المتحدة على ارض العراق. اسفرت الانتفاضة الشعبية في العراق عن نتيجتين سياسيتين: سقوط حكومة عادل عبدالمهدي، وفتح الطريق امام انتخابات نيابية مبكرة. لكن النتيجة الابرز، التي انكشفت مع اعلان الحكومة الجديدة، تتمثل في ان الشارع العراقي نجح في وضع الطبقة السياسية جانبا واعلن الحاجة الى ضخ دم جديد في الجسم العراقي المريض، وفرض الانكفاء على القيادات الشيعية التي تعاقبت على تشكيل الحكومات، من نوري المالكي وابراهيم الجعفري، الى حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي. كانت النتيجة ان وصل مصطفى الكاظمي الى رئاسة الحكومة من خارج الطبقة السياسية والاحزاب الشيعية ومتمردا عليها، مع برنامج مقتضب من عناوين محددة: اطلاق السجناء السياسيين والذين اعتقلوا في صفوف المتظاهرين، واحتواء ازمة كورونا، وتحسين الوضع الاقتصادي، وتنفيذ اصلاحات ادارية ومالية، واجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتأكيد سيادة العراق وقراره، واقامة توازن بين ايران والولايات المتحدة، بحيث لا يتحول العراق الى ساحة لتصفية الحسابات ويسقط واقعا بين المطرقة الايرانية والسندان الاميركي.
للمرة الاولى منذ استقالة عبد المهدي يحصل توافق سياسي على رئيس جديد للحكومة، ويحصل اجماع غير مسبوق بعدما فشلت محاولتان لتشكيل حكومة جديدة منذ بداية عام 2020 واعتذار محمد توفيق علاوي وبعده عدنان الزرفي. هذه المرة، التقت كل الكتل والقوى الشيعية على دعم الكاظمي الذي تلقى دعم الاكراد والسنة ايضا، وكان منذ البداية المرشح المفضل للرئيس العراقي برهم صالح الذي اشاد به بعد التكليف كـشخصية مناضلة ومثقفة معروف عنه النزاهة والاعتدال والحرص على الحقوق العامة للعراقيين.
يعتبر الكاظمي مطابقا لمواصفات المرحلة. هذا الرجل الاتي من عالم الصحافة (كان مناهضا لنظام صدام حسين ولاجئا مقيما في لندن)، ومن عالم المخابرات (تولى رئاسة جهاز المخابرات منذ العام 2016 في ذروة المعركة مع داعش)، تنتظره مهمة صعبة لانقاذ العراق من كارثة اقتصادية وسياسية، ويعتبر الرجل الانسب والافضل لهذه المرحلة. فقد اتاح له موقعه في رئاسة المخابرات بناء علاقات مع الدول والاجهزة التي تعمل ضمن التحالف الدولي، ومع كل اللاعبين السياسيين على الساحة العراقية، وعلاقته مع الاميركيين ممتازة، ومع الايرانيين جيدة، خصوصا بعدما تمت تسوية بعض الاشكالات وعادت الامور الى مجاريها في الفترة الاخيرة.
مصطفى الكاظمي ينظر اليه في العراق كـمفاوض ماهر قادر على تسخير علاقاته الواسعة مع واشنطن وطهران، وكشخصية حيادية متوازنة، اذ لم يسبق له ان انتمى الى احد الاحزاب السياسية، وصاحب عقلية براغماتية قادر على لعب دور الوسيط السياسي بين الاطراف العراقيين خلال الازمات.
لكن ما يلفت ايضا هو علاقته المتميزة مع السعوديين. خلال زيارة للعبادي الى الرياض عام 2017، شوهد الكاظمي وهو يعانق مطولا صديقه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان. مثلما كان لافتا ان تكون السعودية اول الدول المرحبة بحكومة الكاظمي واكثرها حرارة. لم يقتصر الامر على بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية يبدي استعدادا للعمل مع الحكومة الجديدة على اساس الاحترام المتبادل والروابط التاريخية، فهذا البيان ارفق ببرقيتي تهنئة من الملك سلمان وولي عهده الذي بادر الى الاتصال هاتفيا برئيس الوزراء العراقي الجديد.
يعرف الكاظمي ان رئاسة الحكومة جاءته في توقيت حساس، وان مهمته ستكون صعبة وشائكة. فالعالم يتجه نحو مرحلة كئيبة من التعايش الطويل الامد مع وباء كورونا، وسط كساد اقتصادي غير مسبوق وكوارث اجتماعية وجيوش العاطلين عن العمل وارتفاع معدلات الفقر والجوع. فاذا كانت المرحلة المقبلة صعبة في البلدان التي تمتلك مؤسسات عصرية مستقرة ومتطورة، فكيف تكون الحال في بلدان مثل العراق تفتقر الى مثل هذه المؤسسات والى بنى تحتية ومرافق حيوية؟
يعرف الكاظمي ان اصعب واخطر ملف على طاولته هو ملف الفشل العراقي في مرحلة ما بعد صدام حسين، الفشل في اعادة بناء الدولة وفي اقامة مؤسسات دستورية صلبة تحفظ هيبة الدولة وحقوق المواطن بعيدا عمن المحاصصة الطائفية والفساد العابر للطوائف والقوميات.
اما المهمة الاصعب، فتبقى في كيفية الخروج من الوضع الذي كرس العراق خط تماس بين ايران والولايات المتحدة وساحة صراع وتصفية حسابات، خصوصا بعد انسحاب القوات الاميركية عندما انتزعت ايران لنفسها حق ادارة الشأن العراقي، في ظل عدم ممانعة اميركية ولامبالاة.
مما لا شك فيه ان الانتفاضة العراقية لم تكن فقط ضد الفساد والفشل، انما ايضا وخصوصا ضد تكريس العراق ملعبا لاختبارات القوة الاميركية ـ الايرانية، وللتجاذب الذي بلغ ذروته حين اتخذ الرئيس الاميركي دونالد ترامب قرارا لم يتوقعه احد وهو اغتيال اللواء قاسم سليماني.
حكومة الكاظمي الجديدة في بغداد تقود الى استنتاجين:
– الاول هو ان ايران وافقت على الحكومة التي لا تعد مثالية والافضل بالنسبة اليها. ليست هذه الحكومة التي تريدها ايران وتطمح اليها، لكنها تصرفت واقعيا وسلمت بالتوازن الدقيق في العراق الذي لا يسمح لها بالاستئثار بالحكومة والقرار، وطرد الاميركيين كوجود عسكري ونفوذ سياسي. ما لم تستطعه طهران في الاشهر السبعة الماضية لفرض الحكومة التي تريدها لن تستطيعه في هذه المرحلة، في ظل حصار اقتصادي وضائقة مالية وجائحة الكورونا، وانهيار اسعار النفط، وبعد المتاعب التي واجهتها في العراق منذ مطلع هذا العام، بدءا من اغتيال اللواء قاسم سليماني الذي يصعب ملء فراغه، مرورا بالاحتجاجات الشعبية التي في جزء منها بدت موجهة ضد ايران، وصولا الى الانقسامات بين القوى والمكونات الشيعية، ناهيك بانحياز المكونين السني والكردي الى ناحية الاميركيين.
– الاستنتاج الثاني ان التوصل الى هذه الحكومة وارساء توازن دقيق بين الاميركيين والايرانيين يدشن مرحلة جديدة قديمة عنوانها المساكنة بين الطرفين على ارض العراق. هذه المساكنة التي اهتزت بعنف بعد اغتيال سليماني وتحولت صداما وكادت ان تتطور الى حرب، تفرضها، ليس فقط التوازنات العراقية، وانما المستجدات الاقليمية التي خلطت الاوراق والاولويات، وفرضت على الطرفين تهدئة اللعبة وتبريد المسرح في العراق واليمن والخليج. المستجدات الاميركية التي لها علاقة بالانتخابات الرئاسية، اذ بعدما كان الامر قد حسم لمصلحة ترامب لم يعد كذلك وبات جو بايدن يشكل منافسا جديا ولديه حظوظ وفرص، اثر انقلاب المعطيات الاقتصادية في اميركا ومعها مزاج ترامب وشعبيته.
الرئيس ترامب في الفترة الفاصلة عن الانتخابات لا هدف لديه الا ترميم وضعه الانتخابي المتصدع، مع ما يعنيه ذلك من تفرغ للداخل ووضع كل ملفات الخارج والشرق الاوسط جانبا، بحيث لا مكان حاليا لحروب ولا لصفقات كبرى. والايرانيون ليس امامهم الا انتظار الانتخابات الاميركية والعودة الى كسب الوقت والرهان على سقوطه وفوز بايدن ومعه عودة نهج اوباما. في الواقع، حصل تقاطع اميركي ـ ايراني على تهدئة الصراع وتمرير المرحلة في المنطقة، فكانت حكومة الكاظمي ترجمة لهذا التقاطع واعلان العودة الى سياسة المساكنة في العراق.
يمكن حكومة الكاظمي ان تكون مؤشرا الى ما هو ابعد من مساكنة في العراق، الى تحرك المياه الراكدة بين ايران والولايات المتحدة، والى تحرك مسار المفاوضات من جديد وفتح الطريق لمفاوضات جديدة وقاسية بين الدولتين، ستكون في حال حصولها مختلفة عن المفاوضات في عهد الرئيس باراك اوباما، لانها ستشمل كل ملفات المنطقة ولن تكون محصورة بالاتفاق النووي.
مثل هذا التحرك يبدو مؤجلا الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية التي يكتنفها الغموض.
كادر
الكاظمي قناة اتصال
بين الأميركيين والإيرانيين
يواجه رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي تحديات سياسية وامنية واقتصادية واجتماعية يسعى الى حلها بالموارد المتاحة. ففي موازاة اثبات قدرته على ادارة وتفكيك ازمات معقدة، عليه ان يثبت قدرته في الامتحان الادق والاصعب وفي دوره كقناة اتصال وتواصل بين الجانبين الاميركي والايراني انطلاقا من الاعتبارات والظروف التالية:
- الاشارات الاميركية الى انسحاب وشيك من العراق، او اقله الى اعادة انتشار للقوات الاميركية بعد استئناف الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد في حزيران المقبل.
- الاشارات الايرانية الى اعادة نظر في السياسة والمقاربة المعتمدة في العراق، وهذا التوجه كان بدأ بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني.
- رغبة ومصلحة الجانبين الايراني والاميركي في تعزيز مشروع الدولة العراقية وتمكينها من مواجهة التحدثات، بما فيها التحديات الارهابية التي تمثلها داعش.
- اهمية الساحة العراقية كنقطة فصل ووصل، اشتباك وحوار بين واشنطن وطهران، واهمية دور الكاظمي في احتواء عوامل الاشتباك والتركيز على نقاط التلاقي.
*نشر هذا التقرير في العدد 81 من مجلة الأمن العام الصادر في حزيران 2020.