“مصدر دبلوماسي”
كتبت رانيا حتّي:
مع تطوّر المشهد الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، أدخل رواد الجيوبوليتيك مقاربة جديدة معاصرة عُرفت بالجيو-إقتصاد.
يرتكز هذا المنهج الى تحليل توازن القوى على المستوى العالمي والإستراتيجيات الإقتصادية وخصوصا التجارية منها التي تقررها الدول.
تلك المقاربة يمكن استخدامها كأداة تصوّر للمنافسة الصينية-الأميركية الشرسة عبر محاولة تفسيرها بشكل أوضح والتي تجمع بين مفهومي الجغرافيا والإقتصاد في إطار التحوّل في تناول الأحداث الإقتصادية والإستراتيجية وتداعياتها على الأمن القومي. باختصار: “إنها حرب بدون قتلى” بحسب ما قال يوما الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.
في ظلّ الحرب الجيو- إقتصادية بين بكين وواشنطن لإبراز الهيمنة والقوة والقدرة على العالم، لا بد من طرح الإشكالية التالية: هل ستتحول الحرب الجيو- إقتصادية الى حرب عسكرية مباشرة بين الثنائي اللدود؟ أم سيكون هناك تعاون واعتماد متبادل وترجيح فرضية جديدة الـ G2 في المستقبل؟
للتذكير أنه في العام 2009 وصف بريجنسكي مساعي انشاء مجموعة
G2
بأنها مهمة قيمة لكلتي الدولتين.
السلاح الإقتصادي الصيني بأهمية تحديات الأرض
مع بداية العولمة منذ تسعينيات القرن الفائت، سعت الصين خدمة لمصالحها الوطنية وتحقيقاً لطموحاتها وحوافزها في آسيا الوسطى والمنطقة الى اعتماد إستراتيجية تنافسية شرسة في المجالات الإقتصادية، بخلاف استراتيجية نظيرتها الأميركية المرتكزة الى الوسائل الهجومية عبر العقوبات الإقتصادية والمالية، والوسائل الدفاعية كالحماية الجمركية. ولكن، يبقى لكل دولة منهما ثقافتها الخاصة في الحرب الإقتصادية.
فالأساس بالنسبة لبكين يكمن الحصول على موارد الطاقة ولا سيما الهيدروكاربونات الكازاخستانية والتركمانية، فضلاً عن سعيها لإيجاد أسواق جديدة لتصدير فوائض الإنتاج الوطني، عبر فتح منافذ طرق جديدة لتصدير السلع المصنعة التي تؤمّن لها ديمومتها وحماية إقتصادها الوطني. والأهم بالنسبة للصين، أهميّة استقرار الجوار من الإرهاب (الإيغور).
في هذا السياق، أطلق الرئيس الصيني العام 2013 في كازاخستان مبادرة ” طريق الحرير الإقتصادية” التي تهدف إلى ربط الصين بأوروبا مرورا عبر آسيا الوسطى وما يرافقها من تطوير للاتصالات وتعزيز التبادل الاقتصادي والثقافي وعقد إتفاقيات تجارية ومشاريع للبنى التحتية، للطاقة والنقل حيث تقدم “وضعًا مربحاً للجميع” للدول المشاركة، وبغية لتخفيف الضغط الذي تمارسه واشنطن على مستوى التبادل التجاري خلقت الصين مناطق تبادل خاصة في المحيط الهادىء.
إستراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة العملاق الصيني الإقتصادي ولحماية الأمن القومي
أثارت تلك الحوافز الصينية الإقتصادية مخاوف الولايات المتحدة جراء التصاعد الحاصل جيو – إقتصادياً فاتهمتها بتدمير سوق العمل في الكثير من الدول المتقدمة. استدعت واشنطن في إطار “الأسلحة المعتمدة” للمواجهة فرض المزيد من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية التي تدخل واشنطن لحماية إقتصادها الوطني، حيث أمر ترامب بتنفيذ حظر على شركة “هواوي” من بيع منتجاتها في الولايات المتحدة. استفاد ترامب من قانون صدر في العام 1977 يسمح له بتنظيم التجارة وحظر بيع سلع وخدمات في الأراضي الأميركية طالما تمثل “خطرا غير مقبول” على أمنها القومي.
هذا القرار المتمثل في منع شركة مصنعة من بلد آخر من بيع منتجاتها، يرتبط بشكل كبير بالدور “المهيمن” الذي تلعبه الصين في صناعة التكنولوجيا بحسب ما ورد في ذلك القانون. ونذكر بأن الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون كان قد أنشأ منذ العام 1992 “مجلس الإقتصاد القومي” كجهاز مرتبط بمجلس الأمن القومي”، وبين عامي 1993 و1997 فرض عقوبات على ما يقارب الـ 26 بلداً.
في المشهد الحالي، يدرج إقرار الإدارة الأميركية لـ”قانون قيصر” في إطار تلك الأسلحة الأميركية الهجومية المعتمدة والهادفة الى قطع الطريق على الإستثمارات الصينية لإعادة الإعمار في سوريا و لمنع بكين من أية محاولة لبناء أيّة مشاريع إعمارية، وبنى تحتية وتنفيذ طرق وغيرها في دمشق.
كل ذلك، يهدف الى التضييق على الصين و شدّ الخناق حول طموحاتها الإقتصادية والحدّ من تصاعدها. كما وقّعت الولايات المتحدة على ما يسمى “قانون سياسة حقوق الإنسان للإيغور لعام 2020”. ما اعتبرته الصين يشكل انتهاكا صارخ للقانون الدولي وللمبادئ الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية، وتدخّلا بارزا في شؤونها الداخلية. يأتي هذا القرار، بعد ترويج ترامب لمقولة “الفيروس الصيني” وتشويه صورة الصين العالمية. ما يتضّح، بأن واشنطن تسعى من خلال هذا القانون الجديد الى تهديد الإستقرار الصيني وزعزعة أمنها ومصالحها التنموية في مقاطعة شينجيانغ وحيّ الصين، سيما بعد مساهمة الصين لتعزيز الأمن الإقليمي من ضمن إتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول المجاورة المحيطة بها في ظلّ تهديد الإيغور لنفوذها، ما يُحدث إنقلاب في المسرح الإقتصادي. في هذا الإطار، حذّرت بكين الجانب الأميركي من التدخل في شؤون شينجيانغ الداخلية وحثت على تصحيح الخطأ على الفور والتوقف عن استخدام هذا القانون للإضرار بمصالحها وإلا فإن الصين ستردّ بحزم وستتحمل الولايات المتحدة جميع العواقب الناجمة عن ذلك”.
في مشهد محتدم وساخن وما تتعرّض له الصين قد يزعزع “أمنها القومي”، فهل أصبحت الحرب العسكرية وشيكة بين الثنائي اللدود بعد الحرب الجيو-إقتصادية ؟
إقترب المسرح التنافسي في ظلّ التصاعد الصيني التكنولوجي والاقتصادي والتجاري من الإنفجار فيما تشعر الولايات المتحدة بأن هيمنتها الأحادية على مجمل دول العالم تتراجع.
كما لم تعد واشنطن قادرة على ردع العملاق الصيني من التقدم والتطور والتوسّع الإقتصادي في العالم ومنطقة الشرق الأوسط والمحيط الهادىء في ظل تراجع الإقتصاد الأميركي الحقيقي وما كشفته جائحة كورونا من تصدّع داخلي وبطالة إجتماعية كبيرة .
في الخاتمة، تلك الحرب الجيو- إقتصادية الضروس بين الصين والولايات المتحدة الأميركية بدأت تخترق “الأمن القومي” للثنائي اللدود.
من الواضح بأن أي تهديد لهذا “الأمن الإقتصادي” سيشكل إعلان حرب عسكرية. لكن في ظل توازن الرعب بوجود السلاح النووي بيد القطبين المتنافسين ومشهد التوازن في القوى الإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، فإن الحرب النووية غير واردة لأنها ستكون مدمرة للجميع.
إلاّ أن مثال هجوم فييتنام على كمبوديا و هجوم الصين على فييتنام قد أعادا استخدام مصطلح الحرب العسكرية بعد انعدام الحروب الجيو-إقتصادية فائدتها. ولعلّ الحرب ستتحول إلى حرب عسكرية لتحسم بالنهاية المشهد على أرض الواقع لإظهار القوة والمقدرة، إلاّ إذا قصدت الولايات المتحدة من استهداف الصين بتلك القوانين دفعها نحو مفاوضات مباشرة لتؤسس معها ثنائية تعاونية واعتمادا متبادلا وتبادل أدوار، ما يرجّح فرضية بريجنسكي G2 بحيث سيكون للصين شروط جديدة لضمان حماية مصالحها في نظام عالمي جديد قد تظهر ملامحه قريباً.
*رانيا حتّي: أكاديمية وباحثة لبنانية