“مصدر دبلوماسي”- كتبت رانيا حتّي:
في توقيت دقيق تمرّ به منطقة الشرق الأوسط، تسعى إسرائيل لتحقيق طموحاتها السياسية والجيوبوليتيكية عبر تثبيت نفوذها العسكري باستخدام أساليب القضم والضمّ.
تلك الإستراتيجية الإستيلائية، إلتزم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ببدء تنفيذ ما وعد به بتطبيق السيادة الإسرائيلية بضمّ غور الأردن وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية في تموز 2020.
يهدف إطار التكتيك الإسرائيلي الممنهج إلى تكريس الإحتلال في تلك المناطق ليصبح أمرا واقعا غير قابل للتفاوض أو المساومة. إنطلاقاً من هذا السياق، نجد بأن الحوافز الأساسية التي تدفع إسرائيل للهيمنة على تلك المواقع تكمن في أهمية غور الأردن والضفة الغربية من الناحية الجيوبوليتيكية ذات الأبعاد المتعددة.
مقاربة جيوستراتيجية لضمّ غور الاردن والضفة
لذلك، سنتناول أهمية غور الأردن والضفة بمقاربة جيوستراتيجية كمسرح جديد للصراع، لإبراز مصالح وطموحات إسرائيل من جهة، وتفسير سلوكها بشكل أوضح من جهة ثانية.
بغيةتوصيف “الحالة وتحليل تحديّاتها ونزاعاتها المحتملة بطبيعتها الموضوعية، تبرز لدينا الإشكالية التالية: ما أهمية غور الأردن والضفة الغربية كموقع جيوستراتيجي لإسرائيل؟
وهل تلك الأخيرة مستعدة لأجل تحقيق حوافزها وطموحاتها لاشعال حرب جديدة بهدف السيطرة على المنطقة والهيمنة على الإقليم؟
أهمية غور الأردن
بما أنّ ” الجيوبوليتيك تكمن في كل منافسة على النفوذ على أرض محددة ” (ايف لاكوست) بدأ يأخذ موقع غور الأردن صورة منطقة نزاعات جيوبوليتيكية فعلية ومحتملة على أرض محددة. فأهمية غور الأردن يكمن بموقعه في المنطقة الحدودية الفاصلة بين المملكة الأردنية الهاشمية على الضفة الشرقية لنهر الأردن من ناحية، والضفة الغربية من قبل إسرائيل من ناحية أخرى . تمتد منطقة الأغوار وشماليّ البحر الميت على مساحة 1.6 مليون دونم بمحاذاة الحدود الأردنية وتشكّل ما يقارب ثلاثون في المئة من مساحة الضفة الغربية، فغالبية سكانها من الفلسطينيين.
الحدود الآمنة
لذلك، إنّ أي تهديد في ذلك الموقع بمجاله الجغرافي، قد يشكّل لإسرئيل عدم إستقرار لكيانها وخطر على أمنها. ومنذ نشأتها لا تعترف إسرائيل بحدود جغرافية محددة، إنما تعترف فقط بما يسمى بـ “الحدود الآمنة” التي ترسخت بالتصورات الصهيونية ما يشير بحسب مسار غور الأردن ومجرى نهر الاردن “حدوداً آمنة” لإسرائيل من الجهة الشرقية، كما سيشكّل لها التسوية السياسية التي تضمن لها بقاءها وديمومتها.
لذا، إن توسيع كيان الحدود الإسرائيلية بشكل عام تحوّل الى بُعد جيو- استراتيجي وهذا ما طرحه البروفسور اليهودي “موشيه برافر” في كتابه “حدود أرض إسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل والجوانب السياسية والجغرافية” بتوسيع المساحة الجغرافية وإطالة الخط الحدودي الإسرائيلي مع الدول المجاورة.
أهمية منع تواصل الأردنيين مع فلسطينيين الضفة
لا شكّ، بأن غور الأردن يتمتع بأطول مساحة حدودية على الحدود مع الأردن، وقد يشكل خطرا حقيقيا بالنسبة لإسرائيل في حال بقي مع الفلسطينيين. من هنا، ستعمد تل أبيب لضمّه إليها لتمنع تواصل الأردنيين ذات الأصل الفلسطيني مع فلسطينيي الضفة، كما تمنع إقامة جسر أو دعم أو أي تنسيق مشترك بينهم في المستقبل. لذلك إقتضى التصوّر العسكري جعل الحدود المشتركة بين الأردن والضفة الغربية “مقفلة ” بالكامل بحيث لا منفذ عبور أو متنفس للفلسطينيين. لذا عمدت اسرائيل ايضا إلى إنشاء محميات عسكرية إلى جانب الإمتناع عن إصدار تصاريح لاقامة الفلسطينيين.
أراضي الغور والضفة مناطق زراعية خصبة…
إن خنق الفلسطينيين واستباحة ما تبقىّ من أراضيهم لا يقف عند هذا الأمر، فمن الناحية الإقتصادية، تُعتبر أراضي غور الأردن والضفة الغربية ذات أهمية حيوية زراعية خصبة للفلسطينيين وتؤمن لهم “السلة الغذائية” وفي حال تنفيذ الضمّ الممنهج سيحرم العامل الزراعي والمستهلك الفلسطيني من تلك السلّة مما سيؤدي إلى تجويعه، وهو ما تسعى إليه إسرائيل بهدف إخضاعه لشروطها في المستقبل.
أراض ذي قدسية خاصة لليهود
إلى جانب ذلك، تلعب إسرائيل دوماً على دغدغة الشعور الديني والتصورات الثقافية لشعوبها بهدف إستمالتها، وقد ظهر ذلك الأمر في سلوك نتنياهو بإقتراحه قانون اليهودية القومية، وجعل القدس بشطريها تابعة لإسرائيل وتحويل الضمّ من واقع إحتلالي إلى واقع قانوني وشرعي، باعتبارمناطق نابلس وأريحا ذات قدسية خاصة بالنسبة لليهود.
مصادر جديدة للمياه
أما الحافز الأساسي والرئيسي والأهمّ بالنسبة لإسرائيل، هي “الحاجة” للمزيد من مصادر المياه وهو ما أشارت إليه رئيسة وزراء اسرائيل الراحلة غولدا مائير من خلال نظرتها الجيوبوليتيكية للمياه بـ”إرادة إسرائيل الدائمة إحتلال المناطق الأكثر ثروةً في الموارد المائية كي لا تصبح دولتها غير مغلقة جغرافياً”. ما يفسر اليوم أهمية ضمّ غور الأردن والضفة الغربية لما تحتويه من كمية المياه الفلسطينية في الخزان الجوفي في الضفة الغربية الذي يبلغ حوالي 835 مليون متر مكعب من المياه، تستنفذ منه إسرائيل 86.5 في المئة وتهدد المدن الفلسطينية بعدم تزويدها بالمياه من خلال شركة “ميكروت” الإسرائيلية، وحسبما ورد في تقرير منسق الجيش الإسرائيلي لشؤون المياه فإن إسرائيل لا تستطيع تزويد كل من بيت لحم والخليل وجنين بالمياه، بسبب النقص الحاصل في مياه الخزان الجوفي، فيما تتجاهل أسباب النقص العائدة إلى استنزافها للخزان الجوفي. إن هذه المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مرشحة للزيادة مع زيادة حاجات الفلسطينيين المائية في المستقبل بسبب زيادة عدد السكان، فمن المتوقع أن ترتفع هذه الزيادة بشكل كبير في السنوات القادم خاصة بحسب خبراء جيوبوليتيك المياه أن الحرب المقبلة ستكون على المياه في حلول سنة 2030 لاعتبارها ستشحّ وتنضب .
إنّ الحصول على مخزون مياه الضفة الغربية وغور الأردن، أضحى يشكّل بالنسبة لإسرائيل مادة جيوستراتيجية بإمتياز . ولعلّ الهاجس الإسرائيلي من تكرار ما حصل سنة 1985 حين استدعى حالة من الطوارىء في الكيان الإسرائيلي، حين وصل معدّل بحيرة طبريا الى أدنى مستوى ما أدىّ إلى إستنزاف في المخزون الإستراتيجي المائي الإسرائيلي حينها. وهو ما جعل “توماس ناف” يستخلص الوضع بأن ” إسرائيل ستسعى بحزم للسيطرة على المياه أينما وُجدت ” باعتبارها تحتاج ( بحسب الإحصاء ) إلى 2000 مليون متر مكعب تقريباً سنوياً.
بالمختصر، سيلجأ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الى شتّى الوسائل العسكرية لضم وإحتلال أجزاء كبيرة من الضفة وغور الأردن لضمان تلك المادة الحيوية (المياه) مهما كلّف الأمر. من هنا نفهم سلوك الأطماع الإسرائيلية لتلك المناطق وحاجتها المستقبلية الى المياه فضلاً عن أنّ الحروب الإسرائيلية في الحصول على مصادر المياه ستفوق ربما أهميتها في المستقبل مادة النفط ، حيث ستضمن لإسرائيل ضمان وجودها الثابت في فلسطين كما اعترف بن غوريون بإحدى مذكراته بأن ” أساس الصراع مع العرب في المستقبل سيكون على المياه وعلى ضوء نتيجته يتوقف مصير الكيان اليهودي وقوته”.
التحكم بالمنافذ الاستراتيجية
إن مقاربتنا الجيوستراتيجية لموضوع غور الأردن و الضفة الغربية أفضت إلى إستنتاج، بأن تلك المواقع الجيوبوليتيكية قد تحوّلت إلى مادة جيوستراتيجية بامتياز، لأنها مرتبطة بالتحكّم بالمنافذ والطرق الإستراتيجية والموارد الحيوية أهمها “المياه”، بحيث لا يمكن لإسرائيل الإستغناء عنها بتاتاً بعد الآن . فنقطة الإنطلاق لضمّها يبدأ في تموز وقد يصبح واقعاً. ولكن بالمقابل، لن يقبل أهل الأرض (الفلسطنيين) السماح لإسرائيل إنتزاع ما تبقىّ لهم من متنفس حدودي مع الأردن فضلاً عن سرقة مياههم الجوفية وخنقهم بمجال جغرافي محدد، ما يعني إعداهم بشكل مطلق. وخلاصتنا لذلك، ترجّح بأن مسألة القضم والضمّ قد تتم من خلال حرب إذا ما حاولت إسرائيل القيام بعمليات عسكرية غير محدودة، وقد تؤدي إلى إشعال المنطقة بكاملها، إلاّ إذا استطاعت الولايات المتحدة بحسب توقيت الضمّ وعبر قانون قيصر شلّ محور الممانعة بالكامل إقتصادياً وسياسياً لإنتزاع منه تسويات كبرى عبر التفاوض على إبرام صفقة القرن كما تريد إسرائيل.
*رانيا حتّي: أكاديمية وباحثة لبنانية