“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
بدأت ملامح الاعداد لموجة ثانية من “ثورة 17 تشرين” من خلال اعادة تحريك “ساحات الثورة” في تظاهرات متنقلة بين المناطق اللبنانية ومن خلال تغريدات “الثوار” التي انطلقت بشكل فجائي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومثلها “فرّخت” مراكز ابحاث وصفحات رقمية تديرها جهات اكاديمية واعلامية معروفة لاعادة نفخ الحياة في “ثورة” خمدت بشكل تلقائي لأكثر من 4 أشهر وذلك قبل اعلان التعبئة العامة في لبنان في 15 آذار الماضي والتي فرضها فيروس كورونا المستجد.
لكن هذه الموجة الثانية من الثورة ليست عفوية ولا تنطلق من حالة الافلاس التي يتخبط بها لبنان ووصول سعر الدولار الى 3200 ليرة واحتجاز ودائع الناس وزيادة معدلات البطالة، بل إن هذه العوامل هي كلها ادوات للاستثمار في الصراع الاقليمي المستمر بين المملكة العربية السعودية من جهة وإيران من جهة ثانية بحضور أميركي قوي داعم للسعودية بطبيعة الحال، هدف هذه الثورة الاساسي ليس اطعام اللبنانيين واعادة الاموال المسلوبة بل اجتثاث “حزب الله” وتجريده من سلاحه!
في هذا التقرير عودة الى استراتيجية ايران في المنطقة ومحاولة صدها من قبل المحور العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والمستمر منذ اندلاع الثورة الاسلامية في العام 1979.
استثمرت ايران في الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 فأسست “حزب الله”، الذي نجح طيلة اعوام بأن يشكل لها قاعدة عسكرية وسياسية في المنطقة، لكن اهم ما نجح فيه “حزب الله” هو تكوين التفاف لبناني حوله كحزب لبناني تمكن عبر المقاومة المسلحة من اخراج اسرائيل من لبنان عام 2000، وتمكنه عبر استراتيجية اعلامية ذكية من أن “ينسي” اللبنانيين انه يتبع للولي الفقيه في إيران وذلك بالابتعاد من السياسة المحلية وحساسياتها قدر الامكان وايكالها الى حلفائه المحليين وفي مقدمتهم رئيس المجلس النيابي ورئيس حركة أمل نبيه بري. كذلك نجح “حزب الله” في اقامة علاقات مقبولة ومستقرة مع سوريا على مدى اعوام كونه يعرف ان سوريا هي الرئة الحيوية امام المشروع الايراني الاقليمي ونجح الحزب في لمّ أطياف الفصائل الفلسطينية حول ايران وخصوصا تلك التي ترفض العملية السلمية. فتمكنت ايران من ان تكون في صلب القضية الاحب الى العرب الا وهي قضية فلسطين.
وتمكنت ايران عبر اذرعها في العراق من الامساك في الشأن العراقي وخصوصا بعد الاحتلال الاميركي فأمسكت العراق عبر حلفائها وعبر اجهزتها الامنية، وامسكت بأفغانستان بعد سقوط طالبان واصبحت الولايات المتحدة الاميركية مضطرة للتفاوض معها كما في العراق. نجحت ايران في تهيئة ارضية لمشرعها الاقليمي كونها كانت دائما في موقع المبادر بينما كانت الدول العربية الاخرى في موقع إما المتلقي أو الذي يقوم بردود فعل فحسب وخصوصا وأن ايران لم تتورع في التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول عبر تحريك اطراف موالية لها وهذا ما حصل في بلدان مثل البحرين والمملكة العربية السعودية والكويت، وآخر الأمثلة مساعدة الحوثيين في اليمن الذي يعتبر الحديقة الخلفية للمملكة العربية السعودية. حين بدأ الاختلال في النفوذ الايراني في سوريا بدءا من العام 2011 لم يتورع “حزب الله” عن التدخل موجدا الحجة الدامغة التي اقنعت اللبنانيين (بمعظمهم) الا وهي الدفاع عن لبنان بوجه “الارهاب التكفيري”.
في المقابل، زاد الوضع العربي والخليجي تعقيدا مع الانقسام الخليجي بين السعودية والامارات ومعهما مصر ضد قطر التي وجدت بتركيا وايضا بإيران اصدقاء وحلفاء لها. هذا الوضع أدى الى نشوء توتر مذهبي قوي بين السنة والشيعة، وفي لبنان انعكس هذا الانقسام على المسيحيين فصار جزء منهم وخصوصا اولئك الذين يؤيدون التيار الوطني الحر مع المحور الممانع والآخرين مع محور السعودية .
يعتبر حزب الله اساسيا في الاستراتيجية الاقليمية لإيران، ولا ينفك الدبلوماسيون الايرانيون الذين يعملون في لبنان على كيل الإطراء له ولحنكته معتبرين بأنهم استثمروا في حزب تمكن من تنفيذ الاستراتيجية الايرانية مع حفاظه على وجهه اللبناني. هذا الاطراء لا ينطبق على حلفاء المملكة العربية السعودية في لبنان، الذين وبعد استشهاد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عجزوا عن تطوير اية استراتيجية بناء لصد النفوذ الايراني غارقين في التناحر الداخلي وفي الصفقات الربحية فراكموا الثروات وخسروا ثقة المملكة.
في ظل هذا الواقع، تحاول السعودية وحلفائها بناء واقع عربي جديد من اليمن وصولا الى لبنان وسوريا والعراق ، وذلك عبر الدبلوماسية الناعمة بظاهرها والخشنة في مضمونها مستندة الى دعم قوي من رئيس الولايات المتحدة الاميركية دونالد ترامب وهي تمكنت منذ وصول الاخير الى السلطة من تحقيق انقلاب جذري في المزاج الاميركي ضد ايران على عكس المزاج القريب منها الذي مثله الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما والذي توّج بالاتفاق النووي الايراني.
كذلك تمكنت السعودية التي لم تصمد بتكتيكاتها في سوريا من منع اي حل سياسي هناك لا يأخذ في الاعتبار النفوذ العربي، وفي لبنان كان انسحابها المالي والاقتصادي ورقة ضغط اخرى، تشتد تدريجيا منذ العام 2015، وكأن لبنان موضوعة على عنقه يدان تخنقانه تدريجيا وهو الآن بات في مرحلة التنفس الاصطناعي. استثمرت السعودية وحلفاؤها في العقوبات الاميركية ضد حزب الله، واستثمرت بالفساد اللبناني في المؤسسات الذي قضى على مقومات الدولة وافلسها حتى انها استثمرت في ضعف لبنان ولم تحيّد الزعامة السنية التي توقفت عن مدّها بالدعم لأنها غير مقتنعة بأن أداءها يصبّ في صالح الخط العربي. وقعت السعودية في هذا السياق ببعض الاخطاء بسبب التدخل المباشر (عملية دفع سعد الحريري الى الاستقالة عام 2017 من الرياض) لكنها في معظم الحالات تشبهت بايران فلم تقم بأية حركة تدخل مباشرة في لبنان لكنها استثمرت العوامل الداخلية لصالحها وهي اليوم تقف متفرجة على “جماعة الممانعة” وايران يستغيثون للحصول على طوق نجاة لاعادة العجلة الاقتصادية الى طبيعتها ومنع قيام ثورة شعبية هائلة سواء في البيئة الشيعية او في البيئة اللبنانية ككل. تنتظر السعودية اليوم ان يستسلم لبنان كليا لإرادتها وان يقوم اللبنانيون ضد “حزب الله” وصولا الى تجريده من سلاحه وتهميشه والقضاء عليه.
لا شك بأن هذا الهدف طموح جدا، وتحقيقه دونه عقبات جمة ابرزها ان للحزب شعبية لبنانية واسعة بغض النظر عن القناعة العقائدية لبيئته وهذا ليس تفصيلا، اما نقطة قوة السعودية فقدراتها الدبلوماسية الدولية والمال الذي تملكه والقادر على حل مشاكل لبنان بـ”شخطة” قلم.
تقوم المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة خصوصا بالاستثمار بصمت في الثورة، متمكنتين من تحريك الاعلام ونجومه بطريقة كبيرة في لبنان وفي العالم العربي، ولعلّ هذه الورقة هي من بين اوراق القوة التي فشلت ايران في الامساك بها وهي ذي تأثير قوي على الرأي العام.
تمكنت السعودية والامارات عبر امساكهما بالاعلام اللبناني والعربي سواء التقليدي او الجديد من مغردين وبلوغرز ومؤثرين وبالسيطرة على صروح اكاديمية ومراكز دراسات رئيسية من أن تنتج بيئة صديقة لها ولو أن قدراتها تقتصر على العالم الافتراضي، صوّرت ايران ومشروعها كمسخ حقيقي لاعبة على وتر الفرس الآتين للقضاء على الدول العربية قاطبة، في وقت لم تتمكن ايران من ان تجاريها في هذا المجال.
ما سيحكم نهاية الامور بين الدولتين الاقليميتين هي تسوية بين الرياض وطهران، لا تبدو معالمها ظاهرة للعيان لغاية اليوم، ولذلك نرى الموجة الثانية من “الثورة” التي ستنطلق في لبنان فور انتهاء فترة التعبئة بسبب وباء كورونا، وقد بدأت تباشيرها الاعلامية تتظهر للعيان. لن يسقط حزب الله ولن يسلم سلاحه، محتفظا بشعاره “وإن حزب الله هم الغالبون”، ولن تتراجع المملكة العريبة السعودية هذه المرة بقيادة أمير شاب ومتحمس ومدعوم اميركيا يمتلك ورقة المال الأساسية وخصوصا بعد تداعيات كورونا، ولم يبرح لبنان ان يكون ساحة خصبة لهذا الصراع الذي بات قاتلا له في ظل افلاسه المالي.