“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة
وقع لبنان باعتراف احد مراجعه السياسية الرفيعة في “جورة” أي في “حفرة” عميقة جدا. اختار المرجع هذا التشبيه العامّي ليصف عمق المأزق الذي يتخبط به لبنان بسبب أزماته الاقتصادية والمالية والنقدية المتشابكة والمتوالدة يوميا مشاكل لن تعرف نهايات قريبة، وقد فاقمها فيروس كورونا واضعا ثقلا اكبر على كاهل الحكومة اللبنانية التي لا يتخطى عمرها الشهر وبضعة ايام.
في غمرة هذا الواقع، تعكف حكومة حسان دياب على اعداد خطة اقتصادية لتقديمها الى المجتمع الدولي وتحديدا الى البنوك والصناديق الدولية وللشركة التي اختارتها للتفاوض مع الدائنين بعد اعلان لبنان تخلفه عن دفع ديونه الخارجية اليوروبوندز والتي توازي 30 مليار دولار اميركي.
ووسط توقع بأن يكون معدل النمو 12 تحت المعدل هذه السنة فضلا عن تراكم ارقام مماثلة ومخيفة، ووسط محاولة دياب وفريقه ايجاد حلول تدريجية تبدأ بالخطة الاقتصادية الناجزة والتفاوض مع الدائنين وما سيستتبعها من خطوات تتعلق باصلاح المالية العامة ثم القطاع المصرفي وتبيّن مستويات “القص” الذي سيقتطع من ودائع المودعين الذين استفادوا من الهندسات المالية او اشراكهم بأسهم في المصارف، وبازاء دراسات حول اعادة هيكلة القطاع المصرفي إما عبر الدمج او اعادة الرسملة، لا تبدو هذه الحلول التقنية كافية إذا لم تقترن بمسار سياسي مختلف جذريا عما يعتمده لبنان وتحديدا حيال الدول الخليجية التي اشهرت طلاقها النهائي له بعد ان احتضنته طويلا وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
هل لبنان أهم من كندا؟ هو سؤال يطرحه كثر من الانتليجنسيا السعودية خصوصا والخليجية عموما. ومرد السؤال الى اعلان كندا يوم الخميس في 9 الجاري انها اعادت التفاوض على عقد تسليح بقيمة 14 مليار دولار كندي (10 مليار دولار اميركي ) ابرمته مع السعودية منذ اعوام، وذلك في محاولة لاسترضاء الرياض بعد خلافات معها. وبحسب الوكالات: يمثل اعلان الحكومة الكندية تراجعا عن سياسة رئيس وزرائها جاستن ترودو الذي اعلن في نهاية العام 2018 أنه يبحث عن طرق تتيح لبلاده التنصل من إتمام هذه الصفقة المثيرة للجدل. وينص العقد على بيع اوتاوا للرياض ناقلات جند مدرّعة خفيفة في خطوة تمهد للمضي قدما في تنفيذ الصفقة المجمدة منذ نهاية العام 2018، بسبب اتهامات وجهتها أوتاوا الى الرياض عقب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ومشاركة السعودية في حرب اليمن.
مناسبة هذا الحديث، هو أن لبنان “الواقع في الحفرة” أكرر بحسب تعبير مرجع سياسي مسؤول ورفيع جدا، لن يجد من يمدّ له يد العون، وقد كان اجتماع سفراء مجموعة الدعم الدولية المؤلفة من 10 دول أخيرا عنوانا للرسالة الدولية الموجهة للبنان ومفادها: لا احد سيساعدكم وكل دولة لديها ما يكفيها من المشاكل وخصوصا بعد كورونا الذي رتب تداعيات اقتصادية كارثية على الدول برمتها.
وإذا كان التطلع الى الصين امر شبه مستحيل نظرا للولاء اللبناني الكبير للتعاون مع الولايات المتحدة الاميركية وهي ستضع “فيتو” على هذا التعاون، لم يعد بإمكان لبنان التطلع الا الى “الاشقاء الخليجيين”، لكن التعاطي اللبناني السياسي والدبلوماسي في الاعوام الاخيرة يبدو بأنه فرّغ هذه العبارة من مضمونها، هذا أقله ما يفكر به “الاخوان العرب”.
بالأمس القريب وتحديدا يوم الثلاثاء الفائت في السابع من الجاري، كان بيان لافت لوزارة الخارجية اللبنانية أدانت فيه “الهجمات الصاروخية التي تعرضت لها المنشآت المدنية في مدينتي الرياض وجيزان في المملكة العربية السعودية والتي شكلت تعديا صارخا على السيادة الوطنية لدولة شقيقة وانتهاكا للقانون الدولي وعرّضت سلامة المدنيين الآمنين للخطر”. واضاف البيان:” كما ترحّب الوزارة بالجهود التي تقوم بها كافة الاطراف المؤثرة في الأزمة اليمنية وذلك لخفض التصعيد ووصولا لحل سياسي يؤّمن نهاية لهذا الصراع الدموي”.
يشكل هذا البيان قطعا صريحا مع السلوك الدبلوماسي اللبناني السابق، وتحديدا في فترة الأعوام الستة الأخيرة التي تولّى فيها الوزير السابق جبران باسيل مقاليد الدبلوماسية اللبنانية. في هذه الفترة وقعت أخطاء مميتة في السلوك الدبلوماسي اللبناني بحسب مناخ “الأشقاء العرب والسعوديين”، وهذا ما دفعهم الى “تطليق لبنان بالثلاثة”. في المرة الأولى كاد السعوديون يطلقون لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005 وهو كان رجل السعودية في لبنان والمنطقة لكنهم عادوا واحتضنوه وهندست المملكة خروج سوريا من لبنان وأسهمت في تأسيس المحكمة الدولية بل كان لها اليد الطولى بذلك، ثم عادوا وشاركوا باعادة اعمار لبنان بعد حرب تموز 2006 ودخلوا في تسوية مع سوريا، ثم عادوا وطلقوه مرة ثانية باعلان صريح من وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل عام 2010 إثر الانقلاب على حكومة سعد الحريري واطاحتها. اما الطلاق الثالث والنهائي فجاء بعد سلسلة مواقف “بطولية” اعتمدها لبنان في المحافل العربية والدولية وإثر “تطنيشه” عن اعتداءات طاولت المملكة تفوق بأهميتها الاعتداء الاخير: فبعد ان اعلن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عن مكرمة سعودية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني، وعاد وأوقفها الملك سلمان بن عبد العزيز بعدما تفاجأت المملكة بعدم التضامن معها بعد الاعتداء على القنصلية السعودية في ايران في 2 كانون الثاني عام 2016 إثر الهجمات التي طاولت بعثات دبلوماسية سعودية في طهران ومدينة مشهد عقب تنفيذ حكم الاعدام بـ47 شخصا اتهمتهم السعودية بالارهاب ومن بينهم رجل الدين الشيعي نمر النمر وذلك بالرغم من تضامن العراق الذي يعتبر واقعا تحت المظلة الايرانية بلا شروط، فأوقف الملك سلمان الهبة فورا في شباط 2016، واعلنت المملكة عبر قنواتها الدبلوماسية بأن العلاقة مع لبنان صارت قيد الدرس.
لكن لبنان لم يفهم هذه العبارة، حتى بعد تعثر التبادل الدبلوماسي وتخفيضه لفترة، فحين تعرضت منشآت شركة ارامكو في بقيق وهجرة خريص لهجمتين بطائرات مسيرة وصواريخ كروز في 18 ايلول 2019 في هجوم غير مسبوق اعتبر 11 ايلول سعودي واتهمت فيه المملكة ايران لم يحرك لبنان ساكنا. ويوم سئل وزير الخارجية آنذاك جبران باسيل عن سبب عدم ادانته للهجوم على أرامكو وكان وقتها يحضر اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك أجاب: “استوحيت مما قاله الرئيس الاميركي في الجمعية العمومية عندما طلب من رؤساء وزعماء الدول ان يتصرفوا وفقا لمصالح شعوبهم، وان على كل دولة ان تهتم بكل ما هو لمصلحة شعبها وسيادته واستقلاله” وانا عملت وفق ذلك”.
أضاف باسيل ان موقفه “يعكس فعليا سياسة النأي بالنفس التي نلتزم بها”.
كذلك لم تتضامن الحكومة اللبنانية ولم تصدر اية ادانة في شأن الضربات الصاروخية المتعددة التي استهدفت الداخل السعودي من اليمن. وهنا يشير صديق سعودي ممازحا:” إذا قررت المملكة دعم لبنان فسيكون من أموال أرامكو”!.
بناء عليه، فإن هذا التضامن اللبناني جاء يتيما ومتأخرا ويعتبر انه “تحول شكلي لا يخدع السعودية” بحسب اوساط على اطلاع واسع على المناخ السعودي.
انطلاقا من هذا السياق، لا يبدو بأن مهمة حكومة حسان دياب ستكون سهلة، وخصوصا وان الاوساط المذكورة تصفها بأنها صنيعة “حزب الله” وهذا ما لن تتقبله السعودية بالرغم من عدم وجود اي عداء او خصومة شخصية مع دياب. لكن السعوديين على يقين انه فور انتهاء ازمة كورونا سيتضح للبنانيين اكثر فأكثر مدى خطورة ازمتهم وحينها سيعود لهم الخيار، فالسعودية لن تدعم حكومة يتبناها ويرعاها “حزب الله” ويحرك وزراءها مع حلفائه، وكلما انغمس “حزب الله” اكثر في الملف الداخلي كلما ستبتعد المعونة السعودية او الخليجية مستفيدة من الضغط الذي سيشكله الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتداعياته، ما يشكل تناقضا فاقعا مع الزمن الذي رعت فيه المملكة لبنان حتى عام 2010 وحينها كان يحقق ارقاما اقتصادية جيدة.
من هذا المنطلق، ترى المملكة بحسب اوساط مطلعة عن كثب على المناخ السعودي بأنها هي من تضع الشروط والمعايير لأية مساعدة عتيدة للبنان وهي غير مؤكدة لغاية اليوم. فأية مساعدة للبنان ستكون مشروطة بمعايير محددة. فلبنان ليس أهم من كندا بحسب الرأي السائد سعوديا اليوم. وبحسب الاوساط المطلعة بدقة على المناخ السعودي فالمملكة هي من ستعمد الى تحديد مصالحها بدقة مع لبنان، بعيدا من عواطف الماضي، فلبنان بالرغم من اهميته كبلد لا يشكل مصلحة حيوية للمملكة العربية السعودية التي تنحصر مصالحها ببلدان مثل الولايات المتحدة الاميركية ومصر ودول الخليج واليمن والبحرين. طالما تحركت المملكة انطلاقا من المصلحة العربية مع لبنان (اعادة الاعمار بعد حرب تموز مثلا) لكن ليس لان لبنان مصلحة حيوية لها وبالتالي يمكنها الاستغناء عنه لأنه كان يجب ان يرى اللبنانيون نتائج التبعية لإيران وحين يرونها جيدا “عليهم سلوك الطريق الصحيح والسليم” بحسب تعبير الاوساط المذكورة. وبالتالي تضع المملكة العربية السعودية لبنان اليوم قيد المتابعة والدرس مجددا، مدركة ان لا حل للبنان الا باموال النفط بالرغم من تراجع اسعاره. ويعود السؤال:” هل لبنان أهم من كندا؟
فإذا كانت دولة مثل كندا مستقرة ومتقدمة ومن أهم دول العالم قد راجعت نفسها فكيف الاحرى بلبنان؟”. يرى المناخ السعودي بأن اية عودة للبنان الى السكة العربية هو شأن لبناني لا شأن، للعرب او للمملكة فيه، فلبنان بالتأكيد ليس أهم من كندا.