كتبت: ليلى حاطوم
خاص بموقع دبلوماسي
دعوني أعرفكم بـ ”كوڤيد-١٩“ أو كورونا ڤيروس هذا الكائن المجهري الذي سافر أنحاء العالم دون جواز وتآخى مع كبار المسؤولين وصغار القوم بلا تفرقة.
ركّع العالم، وضرب اقتصادات أعتى الدول وأكبر أسواق التداولات من أسهم وعملات وشلّ حركة الملاحة الجوية والبحرية والتنقلات البرية محلياً واقليمياً وعالمياً، ونسف أسعار النفط وضرب تجارة الشركات الكبرى والمتوسطة والصغرى والعمال والحرفيين وغيرهم.
كوڤيد-١٩، أو الڤيروس التاجي الحديث، قد يكبّد الاقتصاد العالمي ما قد يفوق الـ٢$ تريليون (ألف مليار) دولار هذا العام، بحسب منظمة التجارة والتنمية (الأونكتاد)، ويمكن أن يفقد العمال في جميع أنحاء العالم ما يصل مجموعه إلى ٣،٤$ تريليون دولار من دخلهم خلال العام الحالي فقط بسبب هذا الڤيروس.
شعاع وسط الظلام
قبل أن أنعي لكم الاقتصاد العالمي، دعوني أتكلم عن ”رب ضارة نافعة“ هنا، فمع شل حركة التنقلات وخفض المصانع لطاقة عملها الانتاجية، انحسرت غمامة التلوث الهوائي والمائي وحتى الضجيج حول العالم وبشكل ملحوظ. فقنوات البندقية في إيطاليا باتت مياهها صافية ويمكن رؤية الأسماك تسبح فيها بحرية وغيمة التلوث انحسرت عن معظم ايطاليا والشرق الأوسط والصين وأماكن أخرى. لكأن الأرض تقوم بإعادة التكوين من جديد.
خسائر العرب
لنبدأ من المنطقة العربية، حيث من المتوقع أن تفوق تراجعات اقتصادات المنطقة بسبب انتشار الـ كوڤيد-١٩ نحو٤٢$ مليار دولار، والرقم مرشح للارتفاع بحسب الاسكوا، في تقريرها الصادر يوم أمس الأربعاء.
وأي ارتفاع لاحق في الخسائر الاقتصادية للدول في المنطقة العربية، تعزوه المنظمة ”لانخفاض أسعار النفط والتباطؤ الاقتصادي الكبير الناجم عن إغلاق مؤسسات القطاع العام والخاص منذ منتصف شهر (آذار) الجاري. وكلما طالت فترة الإغلاق التام، ازدادت الكلفة المترتبة على اقتصادات المنطقة“.
أما بالنسبة للأسواق، فبحسب الاسكوا، تكبدت الشركات في المنطقة العربية بين كانون ثاني ومنتصف آذار خسائر فادحة في رأس المال السوقي، بلغت نحو ”٤٢٠$ مليار دولار.“
وتتوقع الاسكوا أن يخسر قرابة ١،٧ مليون شخص وظائفهم هذا العام في منطقتنا العربية التي تُعاني أصلا من نسب بطالة مرتفعة.
خسائر عالمية وتراجع أسعار النفط
نعود للنطاق العالمي حيث قالت منظمة الأونكتاد إن عدم اليقين الاقتصادي الذي أحدثه كوڤيد-١٩، سيكلف الاقتصاد العالمي على الأرجح تريليون دولار اميركي في العام ٢٠٢٠ وحده وربما أكثر مع توقع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي لما دون ٢٪ ويمكن أن نصل إلى عجز متراكم في الدخل العالمي يفوق الـ٢$ تريليون في حال فشلت الدول في معالجة الداء وآثاره بسرعة.
ومن المتوقع أن تكون البلدان المصدرة للنفط هي أكثر الاقتصادات تأثراً بهذا السيناريو.
فـ كوڤيد-١٩ شل حركة التجارة الدولية ومصانع الصين التي تعتمد على النفط فانخفض الطلب عليه بشكل كبير مما أدى لهبوط أسعاره قرابة ٤٠٪.
ومن الجدير ذكره أن الحرب الاقتصادية القائمة حالياً بين المملكة العربية السعودية ودول أوبك من جهة، وبين روسيا من جهة أخرى، على خلفية رفض روسيا خفض الانتاج لابقاء أسعار النفط عند مستويات أعلى وهو قرار أوبك التي تنتمي لها السعودية بعكس روسيا، أتت لتقضي على ما تبقى من هيبة للنفط.
فقد توجهت المملكة نحو رفع انتاجها النفطي لأقصى حد في محاولة للسيطرة على اسواق روسيا التقليدية، وإعادة الدب الروسي لمطالب أوبك، وتشبثت موسكو بقرارها، فسقطت آخر ورقت توت تستر النفط فوق معدلات ٣٠$ للبرميل وتهاوت يوم الأربعاء لتلامس أدنى مستوى لها في ١٧ عاماً قرب ٢٠$ للبرميل.
وبما أن أسعار النفط الخام تعتمد عليها مجموعة الدول المنتجة والمصدرة للنفط في ميزانياتها، فلا شك أن هذه الدول وخاصة العربية منها، التي لا تزال في طور تنويع اقتصاداتها بعيداً عن المورد النفطي، ستشهد عجزاً كبيراً في موازناتها هذا العام وأحد الأسباب يعود لتهاوي سعر النفط، عدا عن التراجعات في حركة التجارة والنقل وقطاع الخدمات والسياحة وأعمال الشركات.
إنحسار التجارة
ومع تراجعات حركة التجارة العالمية تأثرت وستتأثر سلباً البلدان المصدرة للسلع الأساسية والتي تمر عبرها حركة التجارة أيضاً.
ومع تراجع التجارة العالمية فهذا سيؤثر سلباً على سلسلة التوريد، ومع تزايد الهلع الذي نراه، فإنه سيؤثر سلبا على توافر السلع في المحال والمتاجر، وسيستغل البعض الأمر للقيام باحتكار هذه المواد عبر شراء كميات منها وتخزينها وإعادة بيعها كما حصل في عدة دول، حيث تحركت بعض الأجهزة لإيقافهم عند حدهم ومنع التلاعب بالأسعار لكن دون جدوى في ظل نظام رأسمالي حر.
لا سفر حتى إشعار آخر
أما على صعيد قطاع السفر، والذي شهد إغلاق مئات المطارات وإلغاء آلاف الرحلات اليومية فإن السفّاح الاقتصادي قد ضرب هذا القطاع في جيبه، حيث يتوقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي أياتا (IATA) أن تنخفض عائدات شركات الطيران بنحو ١١٣$ مليار دولار هذا العام. وبحسب الأياتا، فقد قاربت خسائر عائدات شركات الطيران العالمية حتى الآن نحو ٦٣$ مليار دولار، وهذه لا تتضمن فقدان عائدات الشحن الجوي للبضائع.
وبالرغم من أن انخفاض أسعار النفط قد يساعد في خفض النفقات التشغيلية والإيرادات التي فقدتها وستفقدها لشركات الطيران والشحن، لناحية خفض نفقات الوقود، إلا أن الأمر لن يصل إلى نصف حجم خسائر الإيرادات حتى الآن بحسب الأياتا.
ولهذا، من المتوقع أن تتجه شركات طيران إلى خفض عديد طاقمها، كما حدث مع بعض الشركات، أو تقليل عدد الرحلات بسبب نقص عدد الركاب لغاية عودة الوضع إلى مسار أكثر أماناً للركاب وطواقم الطائرات.
وطبعاً، فإن خسائر شركات الطيران لا تتعلق فقط بعمليات النقل، بل أيضاً في تداولات أسهمها، التي ضربها ڤيروس كورونا، وسأعطيكم مثالاً بسيطاً: انخفض سهم بوينج بنسبة ٢٥٪ مع خفض التصنيف الائتماني لها، وزاد الطين بلّة انتشار المرض فتجاوزت خسائر الشركة عشرات المليارات من الدولارات سوقياً.
إجراءات جوفاء
ومع إعلان الدول حزمات مساعدة مالية تراوحت بين بضع مليارات من الدولارات حتى وصلت لنحو نصف تريليون دولار في الصين (نحو ٤٥٠$ مليار دولار مع دفع أجور عمال وخسائر المصانع بسبب فرض الاغلاق وحظر التجول وغيرها من الاجراءات)، وخفض المصارف المركزية عالميا أسعار الفائدة بنسبة وصلت لنحو الصفر كما في قضية المصرف المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، خابت توقعات الاقتصاديين بانتعاش الأسواق والاقتصاد.
وفي غياب تنسيق دولي للانقاذ الاقتصادي، فإن البنوك المركزية ليست في وضع يمكنها حل هذه الأزمة بمفردها حتى الآن على ما يبدو. والحزم المالية التي تم رصدها من معظم الدول لم تكن كافية لحماية اقتصاداتها وأسواقها، حيث من المتوقع أن تدخل أوروبا الاتحادية مرحلة انكماش أو ركود اقتصادي هذا العام.
وبهذا فقد ألقت المصارف المركزية كل ما بجعبتها ولكن في دلو بلا قعر، ولهذا يتخوّف المستثمرون من هذا اللا-استقرار في الاسواق، وعدم وجود وضوح في الرؤية لحل المسألة أو التخفيف من آثارها.
فخفض أسعار الفائدة والحزم المالية كانت كلها بمثابة جرعة منشط لجسد يموت. زادت دقات القلب أول نصف ساعة ثم عاد للمنازعة مجددا.
سيناريو الكوارث
أما المصارف حول العالم فهي تُعاني أيضاً من حالة الذعر وتهافت الناس لسحب قسم من ودائعهم ”كاش“ بدلاً من استعمال بطاقات الائتمان التي استثمرت المصارف مئات الملايين من الدولارات للتحول نحو هذه القطع البلاستيكية في التعاملات بدلا من النقود الفعلية.
ومع ازدياد وتيرة السحب، عجزت المصارف عن تلبية عملائها بالنقود الفعلية فوضعت حداً للسحوبات اليومية وصل لـ٢٠٠ يورو في فرنسا ونحو ٣٠٠٠$ في الولايات المتحدة الأميركية، وتواجه بعض المصارف الأميركية نقصاً في توفير النقد من فئة الـ١٠٠$ حتى.
وتعثرت العقود الآجلة الأميركية (أي العقود المستقبلية) على الرغم من تدخل بنك الاحتياطي الفدرالي، وتم تعليق التداول على المؤشرات في الأسواق الأميركية أربع مرات خلال أسبوعين بعد ثلاثة انهيارات كارثي، وانخفض عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل ١٠ سنوات ٢٦ نقطة أساس. يُذكر أن تعليق التداولات هي خطوة تهدف إلى استقرار الأسواق المتوترة التي تشعر بالقلق من التداعيات الاقتصادية لوباء فيروس كورونا الحديث.
وتستمر تخبطات الأسواق حيث أنهى مؤشر الداو يوم الأربعاء الماضي مسيرة 11 عاما من السوق الصاعدة ليسجل تراجعات بـ٦٪ وليصل مجموع خسائره لنحو ٢٠٪ من ذروته الأخيرة، وسجل مع مؤشر ستاندرد آند بورز٥٠٠ الأوسع نطاقاً هذا الأسبوع أكبر انخفاض يومي لهما منذ العام ١٩٨٧.
في المقابل هبطت بقية المؤشرات والأسهم حول العالم مع إثبات عدم فعالية سياسات معالجة آثار الـ كوڤيد-١٩ او انعدام وجودها أصلا.
وبتقديري، فقد وصلت الأسواق إلى نقطة الانهيار والتذبذبات هي سيدة الموقف ولا أحد يعلم كيف سيفتتح السوق أو ما سيغلق عليه، لدرجة أن حتى المضاربين في الأسواق يحكون رأسهم.
هل من أمل؟
في هذا الوقت، تسعى الحكومات جاهدة لإيجاد لقاح للمرض علّه يُسهم في تخفيف ووقف آثاره العدائية على اقتصادات الدول والعالم، لكن لا شيء مؤكد حتى هذه اللحظة، والعلاجات التجريبية تحتاج لوقت وقد يستمر الأمر لعام وأكثر. فهل تستمر اسواق واقتصادات العالم على نفس الوتيرة، أم أنها ستتأقلم مع هذه الأزمة ريثما تصلها حزمات إنقاذ ذهبية جديدة على غرار ما حدث مع المصارف الأميركية إبّان الأزمة المالية العالمية والرهن العقاري منذ ١٢ عاما؟