“مصدر دبلوماسي”- كتبت ليلى حاطوم:
تطرح الكاتبة في الشؤون الدولية والخبيرة الإقتصادية ليلى حاطوم رؤيتها لتداعيات تخلف لبنان عن دفع ديونه الأجنبية المستحقة في 9 الجاري، سواء سياسيا أو قانونيا، وتطرح حلا بديلا اعتمدته مصر عام 2012. لكن ما تكشف عنه حاطوم مرعب في ما يختص بحملة السندات الذين تتجاوز نسبتها الـ25 في المئة، وهم باتوا أجانب بسبب بيع المصارف اللبنانية لحصصها، هؤلاء يستطيعون رفض قرارات الحكومة اللبنانية بإعادة الهيكلة أو الجدولة و”جرّ” لبنان الى ما لا تحمد عقباه. التفاصيل:
وقف لبنان أمام خيارين أحلاهما مُر: إمّا أن يدفع سندات اليوروبوند بقيمة ١،٢$ مليار التي تستحق يوم الإثنين ٩ آذار الجاري، أو أن يتخلّف للمرة الأولى في تاريخه عن دفع التزاماته المالية ليدخل سجلّ الدول المُتعثّرة التي توقفت عن الدفع، في حين يشبه الرأي الشعبي اللبناني “كرة القدم”، إذ تتقاذفه آراء العديد من الخبراء الفعليين والمستجدّين والمستحدثين والذين لم يتكلموا في الاقتصاد إلا عندما أصبح “سلعة رائجة”.
نشطت لجان الخبراء الماليين والاقتصاديين والقانونيين على مدى الأسبوعين الماضيين في السراي الحكومي لتدارس هذا الاستحقاق، بينما حسمت “عين التينة” وهي مقر الرئاسة الثانية -أي رئيس المجلس النيابي نبيه بري- قرارها بأن عدم الدفع هو الحل الأنسب.
وعلى الأرجح أن وزير المال (غازي وزني) لم يخرج عن خط “عين التينة،” وخصوصا وأنه قام في شباط الفائت بتلزيم شركة “لازارد” المتخصصة بإعادة الهيكلة، بعد مخاض قصير وفي جولة مناقصات مشكوك في طريقة الوصول إلى نتائجها بحسب الزميلة كنزى وزّاني في جريدة “لوريان لو جور” الشهر الماضي.
إذن، إن خيار محاولة إقناع حملة السندات بإعادة الهيكلة كان أمراً محسوماً، وما لم يكن قد حُسِمَ بعد هو خيار التخلف عن الدفع ووضعهم أمام الأمر الواقع أم الدفع للسندات الآنية الاستحقاق واعادة الهيكلة او الجدولة للسندات اللاحقة.
الجميع تأخر باتخاذ قرار حتى دخلنا في الوقت بدل ضائع، وكان من المفترض أن يكون محسوماً منذ كانون الثاني الفائت، طالما لم تكن هناك حكومة قبله. ومن المنتظر أن يُفرج رئيس الحكومة مساء اليوم السبت عن عن الخيار الصعب.
في المقابل، حصل تأخير من قبل مصرف لبنان في التحرك لمنع المصارف من التصرف بسندات اليوروبوند في ظل الظروف الاستثنائية لكبح الجشع الذي خلقه وغذاه لدى المصارف لعقدين عبر صفقات “السوابات” (تبادل السندات بآجال لاحقة) وشهادات الإيداع، أو على الأقل لإجبارهم على بيعها له بسعر السوق، كما حصل في تشرين الثاني الماضي.
أما الذين سيقولون بأنّ التداول بالسندات حر يمكن الرد بأن رياض سلامة، (حاكم مصرف لبنان) الذي أراد قانونا يجيز له صلاحيات”رب المال“ الاستثنائية في القطاع المالي، كان باستطاعته تهديد المصارف بدلا من تركها على غاربها، ومن أقدر من سلامة على ذلك؟ إلا أن الإرادة منتفية كانتفاء ارادته في تحديد وحماية سعر صرف الليرة.
أما المصارف، فلا ربّ لها في التعاملات المالية سوى الربح ولو على حساب الوطن. فقرارها الجشع غير المحسوب واللاوطني ببيع الحصص المسيطرة لصناديق استثمارية أجنبية منح تلك الصناديق القدرة في التحكم بخيارات الدولة اللبنانية وبمصير الشعب مالياً، ما يُشكّل خيانة عُظمى وجريمة لا تُغتفر.
وبرأيي، لو وجد جهاز قضائي حقيقي ومستقل في هذا البلد، لكان لاحق المصرفيين بهذه التُهمة ومن منطلق مصلحة الدولة العليا وأمنها المالي بدلاً من ”تضييفهم“ قهوة وشاي من مال الشعب ومن ثم توديعهم بابتسامة وإصدار قرار غير مدروس ليُصار بعد ذلك إلى تجميد العمل به لاحقاً، والمسرحية طويلة.
خيارات الدّفع أو التخلف
قبل أن أدخل في خيارات الدفع أو التخلف وما يترتب عليها، يجب على الشعب اللبناني أن يعي ٣ حقائق تتعلق بالسندات:
١- السندات المستحقة وتلك التي تستحق لاحقاً تسمح لمن يحمل أكثر ٢٥ في المئة من مجمل قيمة السندات بتعطيل ورفض أي قرار من الحكومة وبقية حملة السندات بالنسبة لإعادة الهيكلة أو الجدولة. وكان الأمر صعباً في الماضي حيث أنه كان يتوجب اتفاق عدة جهات تحمل سندات بهذه القيمة لوقف هكذا قرار، لكن مع قيام بعض المصارف اللبنانية ببيع معظم السندات التي يحملونها الى جهات أجنبية محددة، فهذا سمح لتلك الجهات الأجنبية وبخاصة آشمور من أن تتملك حصصا تفوق الربع المعطّل، وهو ما سمح لآشمور برفض اقتراح اعادة هيكلة سندات آذار عدة مرات خلال الاسبوعين الماضيين.
٢- إن اتجاه الحكومة لإقناع صندوق الاستثمار آشمور بقرار اعادة الهيكلة يعني أن الحكومة كانت قد اتخذت قرارها بعدم الدفع. ولكننا لا ندري إن نجحت حتى اللحظة بإقناع آشمور بتغيير موقفه.
3- حتى تشرين الثاني ٢٠١٩ كان نحو ٧٠٪ من السندات السيادية التي تستحق في مارس و٨٠-٩٠٪ من السندات التي تستحق في نيسان وحزيران هي بيد المصارف المحلية، مما يعني أنه كان أسهل على الحكومة أن تعيد جدولة عبر عمليات السواب المعتادة والتي جعلت الكثير من اصحاب تلك المصارف أثرياء… أو هيكلة الاستحقاقات.
لكن المصارف- ولغاية في نفس يعقوب- اختارت أن تنتحر برصاصة في الرأس، فباعت السندات للخارج بدلا
من أن تبيعها للمصرف المركزي كما حصل مع سندات تشرين الثاني. وصحيح أن عملها هذا شرعي، أي قانوني لأن السوق حرة ولها الحق بالتصرف بأملاكها كما تريد. لكن تصرّفها هذا يُعتبر غير مشروع أي غير مقبول من المجموع بسبب تعريضه أمن الدولة المالي والشعب والعملة والاستقرارين المالي والاقتصادي للخطر، وهذا في رأيي يُشكل جريمة خيانة عُظمى بسبب تفضيل مصالحهم الآنية وجشعهم على المصلحة العامة.
ويجب أن يعي اللبنانيون أمراً في غاية الأهمية ولطالما أشرت إليه في نقاشاتي إن على وسائل التواصل الاجتماعي أو مع مسؤولين واقتصاديين وخبراء ماليين، وهو الشق السياسي.
إن وضع لبنان مختلف عن وضع بقية الدول كوننا مُطالبون دولياً بـ٣ أمور، تجعل من التخلّف أو عدمه أمراً في غاية الأهمية وهذه الأمور الثلاثة هي:
١- الحدود المشتركة مع فلسطين المحتلة من إسرائيل
٢- سلاح حزب الله
٣- اللاجئون السوريون واللاجئون الفلسطينيون الذين يستضيفهم لبنان
وسأشرح تأثير الشق السياسي من ضمن الشرح العام في حال تخلفنا عن الدفع أو دفعنا استحقاقات حالية وقمنا بتنظيم اعادة الجدولة او الهيكلة للاستحقاقات اللاحقة بطريقة تسمح للدولة ودائنيها بالوصول للحل.
مع التنبه مجدداً أنه وفي حالة عدم الوصول لحل مع من يملك الربع المعطل للقرارات من بين الدائنين، فهذا يجعل مهمتنا الآن ومستقبلاً أصعب في خفض اعباء السندات، اللهم إلا إذا لجأنا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وهذا في حد ذاته انتحار مزدوج.
التداعيات القانونية للتخلف
في حال كان قرار حكومة حسان دياب عدم الدفع (التخلف عن الدفع) فهذا يستتبع عدة أمور قانونية واقتصادية وسياسية:
١- قانونا يتم استحقاق كافة السندات التي أصدرتها الدولة اللبنانية ولو كانت بآجال لاحقة كافة السندات التي تستحق ما بعد ٢٠٢٠، تصبح مستحقة الدفع fنفس يوم التخلف عن الدفع.
كما يستتبع عدم وجود اتفاق مع دائنين يزيد مجموع ما يملكونه من السندات عن ٧٥٪ إحتمالا كبيرا برفع دعاوى قضائية ضد لبنان في محكمة نيويورك، التي تمت تسميتها كمحكمة الاختصاص وطبعا قانونا يمكن “جرجرتنا” للمحاكم لسنين ودفع عشرات الملايين من$$ في أمور التقاضي وبالآخر ”رح ندفع يعني رح ندفع“.
وبهذا سنكون قد أضعنا وقنا وجهدا وخسرنا المزيد من المال.
ومع الخسارة المحققة في هكذا دعاوى تبرز قضية الحجز على أملاك الدولة ذات الطابع التجاري (كطيران الميدل إيست : 15 طائرة وكل طائرة سعرها بين ٢٠٠$ مليون و٣٠٠$ مليون) وحتى الحجز على أملاك الدولة الخاصة وبيعها، والأملاك السيادية التي يمكن التنازل عن سيادتها (وهنا يُستثنى الذهب من الأمر بعكس ما يُروّج له البعض إن لعدم معرفته المسبقة بالقوانين التي تحكم الذهب السيادي للبنان، أو لمجرد تكرار التهويل السائد).
وللأسف هناك من هو مقتنع أننا نستطيع أن نقول للدائنين الأجانب: “ما فينا ندفع، ولن ندفع وأعلى ما بخيلكم اركبوه” من دون أي مفاعيل تطالنا. والبعض الآخر يقول خليهم يحجزوا على الاملاك لأن ليس لدينا شيء.
يا ليت الأمر بهالبساطة لأنه حينها ستقوم كل دولة بالعالم بنفس الإجراء لسهولته.
أما في حال الوصول لحل توافقي مع الدائنين من باب “خلونا نتحاكى”، فالأمر أيضا ليس بالسهولة التي يتصورها العديد من الشعب.
ينسى البعض، أو يتناسى، أو لا يعرف حقاً أن الدولة اللبنانية لم تخصص أيا من أملاكها بعكس معظم الدول الاوروبية التي لا تملك ايا من شركات الكهرباء او الهاتف وغيرها منالقطاعات الحيوية. وبالتالي لبنان ليس دولة مفلسة لأن لديه أملاك، لكننا دولة متعسرة ماديا، بمعنى ينقصنا “الكاش” الذي “شفطه” جميع من تعاقب على السياسة والحكم إن في مجالس الوزراء او النواب او زبانيتهم في الادارات والمناقصات منذ العام ١٩٩٠.
هذا كلّه يفتح شهية بعض الدائنين للمطالبة بحصص في المقابل.
٢- في الشق السياسي، يمكن بكل بساطة أن تقوم أميركا او الغرب أو حتى الأشقاء العرب بالتحرك نحو الاستفادة من وضع لبنان المتخلف عن الدفع بدون اتفاق يحميه من ومع الدائنين، للضغط في من الملفات التي ذكرتها مسبقا وهي
أ- الحدود المشتركة مع فلسطين المحتلة من إسرائيل
ب- سلاح حزب الله
ج- اللاجئين السوريين واللاجئين الفلسطينيين الذين يستضيفهم لبنان على أراضيه.
إما لابتزاز موقف سياسي من لبنان او لتركيعه في هذا الاطار.
لبنان منذ سنوات للتفاوض مع إسرائيل بشأن اعادة ترسيم الحدود اللبنانية البرية المحددة أصلا
ولأشرح ما أعنيه بكلمات بسيطة. أميركا تضغط على لبنان
في شأن ترسيم الحدود البحرية التي تفصله عن فلسطين المحتلة أعواما. والأمر لا علاقة له بسلام في المنطقة ولا علاقة له بحل يريح لبنان أو كيان الاحتلال… بل بمصلحة اسرائيل في توسيع انتشارها الاحتلالي واعطاء اراضي لبنان لها بطريقة تلغي حق لبنان في مقاومة الاحتلال بحسب القانون الدولي الذي
يجيز للبنان ذلك طالما شبر من أرضه محتلة. كما يعطي اسرائيل اكثر من ٨٠٠ كلم مربع بحري اضافي جنوباً للتنقيب عن النفط والغاز وسهولة التحرك لمد خط أنابيب باتجاه قبرص دون عوائق.
بالتالي يمكن ابتزاز ملف تحريك أي من الدائنين في دعاوى ضد لبنان، والمقابل: نمنع عنكم الملاحقات طالما تقبلون بالترسيم. الأمر ليس سهلا لكنه ليس سيناريو لا يمكن تحقيقه.
ويمكن الضغط من نفس الزاوية لناحية نزع سلاح حزب الله، وهو مطلب قديم متجدد للعديد من الأحزاب السياسية التي أدارت ميليشيات أيام الحرب، والتي تتحالف بين وقت وآخر مع حزب الله في الانتخابات اللبنانية عندما ترى أن مصلحتها تتطلب ذلك (الانفصام بمعناه الأوسع). وكلنا يعلم ما تعنيه تلك المطالبات فيما لو اقترنت برصاصة نعطيها للخارج للضغط على لبنان الذي سيشهد عندها ليس فقط انقساما سياسيا حادا، بل حرب شوارع لأن لا الحزب سيتنازل بسهولة، ولا مناصريه سيقبلون بسهولة ولا الاحزاب الباقية التي تستلذ بالدعم الغربي ستتراجع عندها بسهولة، خاصة ان لدى البعض منهم أحلاما وآمالا بالتقسيم.
وهل تتوقعون أن الولايات المتحدة، التي أعلن جنرالها المتقاعد ويسلي كلارك منذ ١٠ سنوات عن وجودمخطط لاعادة رسم المنطقة عبر اختلاق حروب وفتن دموية للتقسيم، لن تستفيد من هذه الرصاصة التي نسلّمها إياها الان؟ كل خطوة نتخذها يجب أن نحسب الخطوات اللاحقة التي تستتبعها، فهذه لعبة شطرنج والاقتصاد ليس معزولا عن السياسة.
٣- وهنا نصل لبيت القصيد وهو موضوع اللاجئين. لقد كررت على مسامع الكل إن الاوروبيين يحاولون فرض دمج اللاجئين السوريين لدينا بحجة عواطف انسانية وهم دفعوا أموالا مباشرة للاجئين ترغيبا لهم للبقاء ولم تستفد الدولة اللبنانية (أتكلم عن الدولة وليس عن بعض زبانية الاحزاب) انعكس الأمر سوءا لدينا اقتصاديا وامنيا وسياسيا، فيما غيرها من الدول كتركيا والاردن تصلهم المليارات رسميا لمساعدتهم في تحمل عبء وجود اللاجئين على اراضيهم. كما عملت تلك الدول عبر منظماتها غير الحكومية والمنظمات الرسمية حتى على ترهيب اللاجئين ضد العودة الى سوريا التي باتت ٩٠٪ من أراضيها محررة. وذهبت تلك الدول لأقصى حدود الى درجة اتهام لبنان واللبنانيين بالعنصرية علنا عبر تصريحات سفرائها الذين يتدخلون علنا وفي الخفاء وعبر العديد من وسائل الاعلام اللبنانية التي تخلت عن أخلاقها ومهنيتها ووطنيتها إلى الحد بالتشهير ضد من يطالب برجوع اللاجئين.
والأمر ببساطة لسببين:
– لا يريد الغرب اللاجئين، وكلنا رأينا كيف واجهتهم اليونان منذ بضعة أيام. هم يتشدقون بالانسانية طالما هي بعيدة عن حدودهم لكنهم يتناسون أن لبنان ومنذ٩ سنوات لم يغلق حدوده بوجه اللاجئين، ويستضيف اعلى عدد لاجئين في كل كلم مربع نسبة لسكانه على الصعيد العالمي. تتحمل الدولة اللبنانية اكلافا مباشرة وغير مباشرة تخطت ٣٠ مليار دولار على مدى ٩ سنوات جرّاء هذه الاستضافة من الخبز الذي تدعمه الدولة من جيبها، الى الكهرباء ذات الشبكة المتهالكة والتي يستهلك وكثيرا ما يسرق منها اللاجئون مما شكّل ضغطا لناحية اكلاف الفيول او اصلاح الاعطال ، ودون ان تتكرم الدولة السورية بالفهم اننا عندما طلبنا منها مدنا بالكهرباء بأسعار ارخص او مجانا كوننا نستضيف شعبها، فهي رفضت ذلك.
ومن هذا المنطلق، فإن قروض ”سيدر“ التي يهلل لها حرامية الحكم الماضي ولا يعيها الحكام الجدد، مربوطة بشرط أساسي وهو:
”توفير فرص عمل للاجئين السوريين في لبنان“ وهذه كلمات اتفاقية سيدر وليست كلماتي..
– لا يمكن للمخطط الغربي في خلق شرق اوسط جديد ان ينجح في ذلك طالما كان لبنان دولة موحدة بعيدة عن الفوضى الخلّاقة.
هذه الفوضى تسمح أيضا بتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم وهذه ليست كلماتي بل كلمات
الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي تشدق بها في مخططه للسلام عبر قوله توطين الفلسطينيين حيث هم مقابل مال لكل دولة (على سبيل المثال وليس الرقم التقريبي ٢٧$ مليار دولار للبنان مقابل توطين الفلسطينيين، وهذا المال ليس كاش، بل شطب ديون.. يعني بيربحنا جميلة من كيسنا).
٣ – ونصل للشق المالي والاقتصادي، حيث سأشرح موقع لبنان حاليا من ناحية الاقتصاد الموسّع macroeconomy وليس من ناحية الاقتصاد الحصري الضيق microeconomy والتي يحاول بعض الفهلويين التلطي تحت مفاهيمها في محاولة لشرح الآثار المترتبة على الشق الاوسع. وبالتالي الاقتصاد الذي يشمل
مالية الدولة وسياساتها المالية وخططها وعمل وزاراتها المالية والاقتصادية ومصرفها المركزي وقراراته وحجم الديون السيادية للدولة هو الذي يحكم المسار هنا.
لبنان هو دولة لديها ديون سيادية تصل إلى ٨٦$ مليار دولار. من هذه الديون، هناك سندات مدولرة بنحو ٣٣$ مليار دولار.
ومن هذه الـ٣٣$ مليار، حصة الاجانب فيها هي ٣٥٪ تقريباً. ولكي لا نحسب المبلغ كله، يجب التنبيه إلى أن افراد لبنانيين ومؤسسات لبنانية يحملون سندات عبر مصارف خارجية واجنبية محسوبين كاجانب. وبالتالي فإن ديون لبنان الخارجية والتي تستحق بين ٢٠٢٠ و٢٠٣٧ هي فعلياً بين ٨$ و ١١$ مليار دولار.
وبما أن لبنان هو دولة مضطرة للاستدانة على المديين القصير والمتوسط، لذلك فلنسأل نفسنا هذا السؤال: هل من المحرز ان نتخلف عن الدفع الآن ونلغي كل السجل النظيف الذي يجعل المستثمر الاجنبي يثق عندما يضع ماله في سنداتنا (أي إقراضنا)، من أجل هذا المبلغ الكلي؟
خسائر التخلف متراكمة
البعض يقوم بالتهويل بأن لا مال لدى الدولة اللبنانية للدفع، وهناك حملة داخلية وعالمية ترافقت مع هذا التهويل منذ تشرين الثاني الماضي تقف وراءها مؤسسات عالمية ضليعة بأمور إدارة الأزمات المالية وإعادة هيكلة الديون وهي دخلت للبنان من باب النصح والاستشارة وقامت بالتعبئة الإعلامية وتطويع اقتصاديين وسياسيين بعضهم لا علاقة لهم بالعلوم المالية لنشر هذا التهويل، وأن لبنان سيخسر من أموال القمح والفيول و و و لصالح دفع الديون. وهنا انتصر الرأي الشعبوي الذي لا يعرف تبعات أن يتخلُّف لبنان عن الدفع فيضطر(إن استطاع)لإعادة هيكلة ديونه، فالشعب لا يزال حتى اليوم يفكر كما عوّدوه: ببطنه لا بعقله.
أمّا الحقيقة المترتبة عن التخلّف عن الدفع مباشرة ودون تنظيم او وقت كافي للتهيئة قبل التفاوض الجدّي على ما يحفظ حق الدولة اللبنانية ويوافق عليه الدائنون (عدا عن الدعاوى القضائية والضغوط السياسية وامكانية التوطين التي ذكرناها) فتتمثل في تطويل آجال الديون المستحقة وبفوائد متراكمة تصل مع تلك الآجال إلى أضعاف ما كنا سندفعه اليوم.
وبأبسط العبارات: كلما طال اجل الدين، كلما تراكمت الفائدة وازدادت، وهذا عدا عن الشروط الاضافية التي قد توضع على لبنان والتي سيضطر إلى قبولها لتفادي المشاكل الأخرى.
وقد ينجم عنها المزيد من الاقتراض الخارجي،
وبخاصة من صندوق النقد الدولي، ودعونا لا نضحك على بعض، سمّوا لي دولة واحدة أغرقها البنك الدولي بالقروض وخرجت سالمة معافاة دون ان تزداد قروضها؟
ويُسارع البعض إلى القول إن إعادة الجدولة كإعادة الهيكلة وهذا الامر غير صحيح لأن إعادة الجدولة بآجال طويلة وبنفس الشروط ونسبة الفائدة
هو مغاير كلياً لاعادة الهيكلة التي تشهد شطب جزء من الدين مقابل شروط اقسى وآجال طويلة بنسب فوائد أعلى تسمح باسترداد ما تم شطبه بطريقة ناعمة.
في كل الأحوال تترافق عملية التخلف عن الدفع مع “إتساخ” اسم الدولة كمدين، مما يؤثر في شروط حصولها على قروض مستقبلا. كما تترافق مع آثار كارثية و على المديين المتوسط والطويل تتمثل في مزيد من التخلف عن الدفع والاضطرار الى اعادة هيكلة ثانية وثالثة بسبب المتراكمات، وكوننا يجب أن نحسب الواقع غير المنظور هنا وهو ظهور أزمات اقتصادية عالمية واقليمية ومحلية تُساهم في تفاقم العسر المالي، ولمزيد من الضغوط على الشعب.
نصل للخيار غير الشعبوي وهو الدفع (وإعادة الجدولة او الهيكلة المنظّمة):
في هذا الخيار كان لبنان أمام حلّين في كانون الأول الماضي.
ار وأن نُخطر بقية الدائنين قبل بوقت ممتاز لنبدأ عملية التفاوض طالما لا يمكن لأحد تعطيلها
١- إما أن ندفع سندات استحقاق ٩ مارس البالغة ١،٢$ مليار دولار ما دام لم يكن أحد يملك الربع المعطل من مجمل قيمة السندات ولكان للدائنين وقتاً كافيا لترتيب امورهم والتزاماتهم المالية أيضا.
٢- أو أن ندفع سندات استحقاق آذار (١،٢$ مليار) ونيسان وحزيران (٦٠٠$ مليون و ٧٠٠$ مليون)ومن ثم نقوم باخطار الدائنين للسندات المستحقة في العام ٢٠٢١ولغاية ٢٠٢٨
ونقوم بإعادة الجدولة.
أهمية إعادة الجدولة لا إعادة الهيكلة
لاحظوا معي لم أقل هنا إعادة الهيكلة لأنني من المؤمنين بأن لبنان لا يحتاج لإعادة هيكلة بل لإعادة جدولة، وسأشرح ذلك بشكل مبسّط مع الشرح كيف نستطيع الدفع من دون الإخلال بأموال الفيول والقمح التي هوّل بها البعض بغير وجه حق.
كان لدى لبنان إمكانية دفع مبلغ ١،٢$ مليار كاملاً أو شراء السندات بسعر السوق buy back @ market value إلى أن قامت المصارف اللبنانية، وعن جشع كما شرحت، بالبحث عمّن يشتري منها السندات وكأنها تتخلص من أصول هالكة ومعدومة بدلا من التفكير من منظور أوسع يحفظ وجودها ويحفظ أمن الوطن المالي.
.وهي في بيع السندات لصناديق اقتناص الفرص vulture funds أطاحت بخيار الدولة في التفاوض مع الدائنين.
لو دفع اتخذ لبنان في حينها قرار الدفع كان نحو ٨٠٠$ مليون من أصل ١،٢$مليار (الارقام تقريبية لتسهيل الفهم) هي في يد المصارف المحلية، ولكان المبلغ الاجمالي الذي تدفعه الدولة قد ذهب إلى نظام اليوروكلير (نظام تسوية الحساب والدفع) حيث يحصل كل دائن على حصته من ١،٢$ مليار. ولكانت حصة الاجانب وهي نحو ٤٠٠$ مليون قد ذهبت لهم، فيها عادت الـ٨٠٠$ مليون إلى داخل الدولة اللبنانية ومصارفها التي لكانت استطاعت تلبية جزء مهم من مطالب الناس التي تتصرف بهلع وتطالب بسحب دولاراتها.
بعد قيام المصارف بتسليم رقبة الدولة والشعب للصناديق الاستثمارية الأجنبية، تغيّرت نسبة حصص الأجانب من اموال سندات الاستحقاق الـ٣ القادمة بطريقة معاكسة. فباتت الحصة الأكبر من المال الذي سيخرج عبر اليوروكلير سيذهب للأجانب كدائنين بحصص كبيرة، وليس للمصارف المحلية.
لكن ومع هذا وكلّه، لا يزال لبنان يستطيع الايفاء بهالحصص، ومن ثم ”فرك أذن“ المصارف المحلية لناحية الأموال التي ستؤول إليها.قد يكون الحل غير متعارف عليه أو حل مكروه أحيانا أو ما نسميه unorthodox لكنه لن يوصلنا لما سنصل إليه في حال تخلفنا عن الدفع لا الآن ولا عالمدى المتوسط والبعيد.
فيي حال دفعنا سيترتب على الأمر النتائج التالية:
١-عدم وجود دعاوى قانونية مما يستتبع لاستغلالها ضدنا وبخاصة فيما يتعلق بسيادة أراضينا ومياهنا
وعدم استطاعة احد فرض التوطين
٢-عدم إعطاء خرطوشة سياسية لأعداء الوطن
كما سيستتبع الأمر اظهار نية لبنان الحسنة وجديته في الوفاء بالتزاماته وهو ما يؤثر إيجابا في مقدرته مستقبلا على الاستدانة.
أما عن كيفية الدفع فيتطلب الأمر شقّين:
إن القول بأن لدينا ٣٠$ مليار واحد المستشارين الاقتصاديين يؤكد وجود ١٥$ مليار
بينما مصادري المصرفية تُشير إلى رقم تراوح نهاية شباط بين ٢٣$ مليار و ٢٤$ مليار).
لن يجوع اللبنانيون في حال دفعنا، ولن يختنق المصرف المركزي ولا الدولة في حال استعملنا الاحتياطي (واسمه احتياطي لسبب وهو الحاجة اليه في الازمة ونحن في أزمة).
مصر في العام ٢٠١٢ هبط الاحتياطي لديها
إلى ١٥$ مليار ولم تلجأ لقرض صندوق النقد إلا بعد ٤ اعوام من ذلك. لبنان الذي يُشكل محافظة في مصر، يستطيع الصمود ريثما نبدأ بتحقيق النقطة الثانية
ب- خطة مستعجلة تُعالج مزاريب الهدر المباشرة (ريثما يتم وضع خطة إصلاح مالية واقتصادية للمدى المتوسط والبعيد).
ومن شأن إغلاق مزاريب الهدر:
١-حل موضوع عدم التوزيع الصحيح لموظفي القطاع العام حيث لدينا نقص حاد في بعض الادارات وفائض مخيف في ادارات أخرى، وفي حال إعادة هيكلة القطاع العام سيستتبع ذلك خفض عجز ميزان المدفوعات
٢- ويجب أن يترافق مع خفض الانفاق على فاتورة الفيول اويل والمحروقات بطريقة جدّية لأن اكبر مزراب
نخسر عبره العملة الصعبة $$ للخارج هو اعتمادات الفيول اويل)، وهو ما يجب ان نعمل على خفضه مباشرة، ويجب أن يترافق ذلك مع خطوة الدولة بوقف العمل بكوبونات المحروقات لأفراد المؤسسات العسكرية والأمنية، إضافة إلى رفع تعرفة الكهرباء لتتناسب مع سعر برميل النفط الحالي وليس بسعره من عام ٩٣
٣- وقف التهريب عبر المرافى البرية والبحرية والجوية
٤- فرض التعامل بالليرة اللبنانية محليا وحتى عالبعثات الأجنبية ومن شأن هذا إجبار الوافدين والسياح على تصريف الدولارات، وهو ما يجلب الدولار الى الدولة ويُساهم في دعم الليرة
كل هذا سيدر عالدولة ما لا يقل عن ٣$ لـ ٥ مليار دولار سنويا.
لكن أتعرفون أين المصيبة؟ أن أياً من هذه القرارات لن يتحقق لأن ليس من أحد من زعماء الاحزاب والمسؤولين سيوافق عليها وستبقى قرارات مجلس الوزراء بلا تطبيق فعلي.