“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
تستأثر بيروت بعناية خاصة من طهران، فالعاصمة اللبنانية هي باب سوريا والعراق وصندوق الرسائل السياسية تاريخيا بين الخصمين اللدودين في الخليج: إيران والسعودية.
يعتبر “التفهّم” أحد فنون الدبلوماسية الايرانية وهو يتجلّى بشكل كبير في السياسة المتبعة في لبنان وسوريا والعراق.
يعتبر لبنان والعراق الساحتين الاشد سخونة اليوم في الصراع الدائر في المنطقة بدعم اميركي واضح. ويتسلح الايرانيون بتسلسل منطقي مختلف تماما عن ذاك المعتمد خليجيا في بلد الارز. لسان حال الإيرانيين بحسب مصدر دبلوماسي على اطلاع وثيق على السياسة الايرانية في المنطقة أنه اذا ارادت المملكة العربية السعودية الفوضى في لبنان وصولا الى تغيير النظام، فهي لن تحقق افضل من اتفاق الطائف وهو اعلى مستوى يمكنها الوصول اليه، فليس من مصلحة السعودية أن يبقى لبنان في حالة الفوضى الى ما لا نهاية، لأن الفوضى لا تصب في مصلحتها ولا حتى في مصلحة الاهداف الاميركية وهي تصدير الغاز الاسرائيلي الى اوروبا وهذا يحتاج الى استقرار، وايجاد موطئ قدم لاميركا مع روسيا في شرق البحر الابيض المتوسط وهذا يحتاج الى استقرار، ولن تبادر اميركا الى اغراق بلد ما في فوضى وهي تبني فيه سفارة تبلغ تكلفتها ملياري دولار اميركي وهذا يحتاج الى استقرار. فالفوضى الشاملة في لبنان ليست في صالح الاميركيين والضغط لن يكون الى ما لا نهاية ولديه عتبة معينة. ويقع لبنان اليوم بين المطرقة الاميركية التي تستثمره لصالح “صفقة القرن” واسرائيل، والسندان السعودي الذي يعتبره ورقة تفاوض مع ايران في مقابل اليمن”.
استعادة معادلة الردع بعد اغتيال سليماني
يشتدّ الضغط الأميركي الأقصى على ايران في المنطقة في اشتباك بلغ اوجه مطلع السنة الجارية مع اغتيال الولايات المتحدة الاميركية بأمر من الرئيس دونالد ترامب لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني ما استتبع ردّا ايرانيا بقصف قاعدة “عين الاسد” في العراق حيث ترابض قوات أميركية وذلك ايرانية بصواريخ دمرتها وأدت الى اصابات (ارتجاجات في الرأس) لأكثر من 63 جنديا اميركيا، ما اعاد توازن الرعب بين الطرفين. لبنان البلد القابع على فوهة بركان المنطقة، لم يسلم من الاشتباك الاميركي الايراني المتجدد، ومن الضغوط والعقوبات التي تأتيه من الأبعدين اي الولايات المتحدة الاميركية ومن الاقربين اي الدول الخليجية المتحالفة معها ضد ايران ومحورها في المنطقة، ولا يسلم ايضا من تشبث ايران بان يبقى لبنان ضمن مناطق نفوذها، ما يجعل هذا البلد الصغير يتلقى الصفعات الواحدة تلو الاخرى من كل حدب وصوب.
وهل سيؤثر اغتيال اللواء سليماني على الاستراتيجية الايرانية في المنطقة؟ تشير الاوساط انه “كانت للقائد الشهيد رؤية استراتيجية قوية لكنها ضمن الاستراتيجية الايرانية مع تميز شخصي له، كل ما حققه الاغتيال هو مكسب لترامب في الانتخابات يقدمه للاسرائيليين، بالنسبة لرد ايران في العراق فهي واثقة جدا من نفسها. والايرانيون كما الاميركيين يعرفان بعضهما بشكل ممتاز، اكتفت ايران بهذا الرد لأنها لم ترغب بأن تتسبب بمشاكل لاصدقائها في المنطقة وخصوصا وانها في موقع التفوق وهذا ما تريد الحفاظ عليه، لكن ساحة الردود مفتوحة وليست محدودة برد صاروخي فقاعدة الخيارات واسعة وصولا الى خروج الأميركيين من المنطقة”.
زيارة لاريجاني “طبيعية”
شكلت زيارة رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني محطة جديدة للهجوم الاقليمي على لبنان، فتحرّكت الادوات الداخلية وخصوصا الاذرع الاعلامية وأبواقها للقول بأن زيارة لاريجاني هي محاولة ايرانية جديدة “لاختطاف” لبنان من حضنه العربي أو بأن “حكومة حسان دياب هي ذراع ايرانية في لبنان”، إلا أن المعطيات الواقعية كما شرحتها لموقع “مصدر دبلوماسي” أوساط دبلوماسية على معرفة عميقة بالمناخ الايراني تشير الى ان الزيارة تأتي من منطلق اهتمام ايران بلبنان كدولة صديقة ولو كان الرئيس سعد الحريري او حتى سواه رئيسا للحكومة فإن الزيارة الايرانية كانت ستتم ايضا. وعن قول رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بأن لاريجاني شخصية انتهت ولايتها ولا دور لها، قالت الاوساط ذي المعرفة الوثيقة بالمناخ الايراني بأن ” لاريجاني يتطلع الى منصب اعلى وقد يترشح للرئاسة الاولى في ايران، واقل دور له اليوم هو انه سيكون شريكا اساسيا في صنع القرار في الجمهورية الاسلامية الايرانية وفي عمل المؤسسات الايرانية، وهذه اللغة التي تم استخدامها لا تليق الا بالسنيورة”.
إيران مستعدة للتعاون مع جميع اشكال الحكومات اللبنانية
قبل التطرق الى عمق الاشتباك في المنطقة بين الولايات المتحدة الاميركية وايران وبينهما لبنان والعراق وسوريا، يبدو بأن الايرانيين المعروفين بصبرهم الطويل لا يزالون منفتحين على كل عناوين التعاون الممكنة مع لبنان حتى لو تمّ صدّهم مرارا من قبل مسؤولين لبنانيين، متأملين دوما بأن يتعاطى لبنان في علاقاته الدولية بحسب مصالحه الاقتصادية والمالية والاستثمارية وايران قادرة على الاسهام في مساعدته في توليد الطاقة الكهربائية وفي الادوية. تشير الاوساط المذكورة:” ليس هدف الايرانيين الكسب الاقتصادي او المالي، يمكن لايران ان تفكر بالاقتصاد مثلا في سوريا، لكن العنوان الاقتصادي ليس اساسيا لها في لبنان بل الحفاظ على استقراره، ولهذا فإن ايران مستعدة للتعاون مع جميع اشكال الحكومات التي قد تأتي الى لبنان ولو تضاربت معها سياسيا”.
تفّهم ايراني لا حدود له!
هذا “التفهّم” الايراني مثير للانتباه، فالايرانييون يتفهمون مثلا ان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي تلقى الدعوة تلو الاخرى لزيارة ايران سواء من وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف واخيرا من لاريجاني لم يلبّ الدعوة لغاية اليوم، ويتفهم الايرانيون ايضا “نطنطات” الوزير السابق وئام وهاب بين ايران والسعودية والامارات العربية المتحدة ويصفونه بـ”الحليف”، ويتفهم الايرانيون دور روسيا في سوريا ويتفهمون اعتبارات الجميع مستعدين لتقديم تسهيلات لكل الدول الصديقة في المنطقة ومنها لبنان. وعن العلاقة السعودية السورية المستجدة تقول الاوساط انها “تتفهم هذه العلاقة وتشجعها لانها مهمة لاستقرار البلدان”.
وتسأل الاوساط:”لا يمكن فهم العقل السعودي احيانا من قبل الايرانيين، ولولا التدخل الايراني لكانت سوريا اليوم بيد الاتراك، فأين تكمن مصلحة السعوديين؟ فهم يتأثرون بالأميركيين بشكل لا يمكن فهمه”.
ايران تعتبر ان الحرب السورية انتهت
تعتبر الرؤية الايرانية ان الحرب في سوريا انتهت لصالح محورهم، لكن الاميركيين لا يزالون يضغطون على دول المنطقة لانه وبحسب رؤيتهم فإن لبنان والعراق وسوريا هم ملف واحد متصل وتتابع ادراة ترامب هذا الملف الجامع من منظور امن اسرائيل وصفقة القرن ويشتد الضغط بغية الوصول الى اهداف محددة، وبالتالي لا يمكن تفكيك العناوين التي يتم العمل عليها في هذه البلدان لانها تصب في النهاية ضمن استراتيجية اميركية واحدة. تريد الولايات المتحدة الاميركية قلب الطاولة على دول المنطقة وكان اغتيال سليماني هدفا رئيسيا لتأثيره خصوصا على العراق ولبنان وايران، لكن الاوساط الدبلوماسية التي هي على معرفة وثيقة بالمناخ الايراني تقول لموقعنا:” لقد انتهت الايام الصعبة ونحن اليوم بحالة جيدة أقله سياسيا لكن ليس اقتصاديا بطبيعة الحال”.
يحلل العقل الايراني الازمات الاقتصادية المتوالدة والمستجدة في دول المنطقة لا سيما في لبنان والعراق بعد اندلاع انتفاضتين متزامنتين منذ نهايات 2019 : للموضوع الاقتصادي جذور عميقة تعود الى 30 عاما خلت ما أدى الى مثلث من الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن معالجتها في ظل محاولات التخريب المستمرة والمتعمدة ضد لبنان والعراق. ويبقى الحفاظ على الاستقرار هو الطريق الأسلم للبنان وابعاده من الفوضى الامنية وهذا تفكير تتشارك فيه اوروبا وتحديدا فرنسا مع ايران خوفا من انتقال آلاف اللاجئين اليها.
لولا “حزب الله” لكان لبنان في مكان آخر
يعتبر الايرانيون ان ثمة استقرار معين موجود اليوم في سوريا ولبنان يبقى ان يتجاوز لبنان الازمة الراهنة. بطبيعة الحال، يثني الايرانيون على دور “حزب الله” ويعتبرونه صمام الامن والاستقرار في لبنان وعاملا رئيسيا في معادلة الردع الاقليمي ولكن ايضا عاملا مهما للامن الاجتماعي. يعتبر الايرانيون ان الدور الذي لعبه “حزب الله” في الأشهر الاربعة الماضية هو حازم ولولاه لكان لبنان في مكان آخر، وخصوصا في ظل محطات قاسية مرّ بها البلد منها على سبيل المثال لا الحصر: استقالة سعد الحريري، الاستشارات النيابية وما رافقها، جلسات الثقة…تقول الاوساط المذكورة:” إذا حلّلنا هذه المحطات كلّها نرى ان “حزب الله” نجح في الحفاظ على بيئته بعيدا من المشاكل، وهو ابعد كأس الصراع السني الشيعي وخصوصا بعد ان رفضت اطراف التعاون معه لتشكيل حكومة متنوعة”. تستطرد الاوساط:” إن دور “حزب الله” وحركة “أمل” مهم جدا كذلك دولة الرئيس سعد الحريري الذي لعب دورا ايجابيا في منع الانزلاقات غير المحمودة العواقب”.
فوارق بين “الكاش الإيراني” و”الكاش السعودي”
يبدو الامن اللبناني مهما جدا لإيران، وكذلك امن لبنان الاقتصادي، والموضوع الاخير هو تحدّ مستحدث في الحرب الدائرة بين ايران واميركا والمملكة العربية السعودية وحليفاتها من الدول الخليجية. يتفهم الايرانيون اي رأي يقول انه لولا تدخلهم ودعمهم لفئة معينة في لبنان لما غضبت دول اقليمية مثل المملكة العربية السعودية وقاطعت لبنان. وتسأل الاوساط التي هي على دراية واسعة بالمناخ الايراني:” تتابع المملكة العربية السعودية وضع الطائفة السنية الكريمة في لبنان منذ اعوام، فلم لم تدافع عن بقاء الحريري في السلطة؟ سؤال آخر: هل لإيران نفوذ في مدينة طرابلس فلماذا تعاني المدينة من هذا الفقر ومن هذا الاهمال من قبل زعاماتها المحلية السنية؟ لماذا وضع الناس سيء هناك؟”. تضيف الاوساط:” يمتلك “حزب الله” مؤسسات صحية تمولها ايران وهذا ليس بخاف على احد، وبالرغم من العقوبات المفروضة ينجح “حزب الله” في إدارة هذه المؤسسات ويساعد بيئته عبر بطاقات صحية يستفيد منها ايضا مواطنون لبنانيون من طوائف مختلفة من المسيحيين والسنّة وهو لا يزال يدير المال القليل الذي لديه بشكل جيد لأن لا فساد في ادارة الاموال”. تتابع الاوساط الدبلوماسية ذي المعرفة الدقيقة بالمناخ الايراني:” ماذا عن مؤسسات “تيار المستقبل”؟ ماذا عن الاموال التي دفعتها المملكة العربية السعودية لهذا التيار ولسواه؟ هل اخذها “حزب الله”؟ بالتأكيد لا”. تتابع:” يتحدث سعد الحريري عن “الكاش الايراني”، ولماذا لا يتحدث عن “الكاش السعودي”؟ وهو موجود منذ اعوام، والاجدى ان يقوم بمقاربة موضوعية حول كيف تصرف “حزب الله” بالكاش الايراني وكيف تصرف زعماء السنة بالكاش السعودي، وكيف هو وضع بيئة “حزب ىالله” وكيف هو وضع البيئة السنية؟
السعودية مهتمة باليمن لا بلبنان بحسب الرؤية الايرانية
بالعودة الى التفكير الاستراتيجي السعودي بلبنان، يعتقد الايرانيون بأن لبنان بات خارج سلّم الأولويات السعودية وتعتبر السعودية بأنها خسرت لبنان بعد ان خسرت سوريا. وإذا كانت الولايات المتحدة الاميركية تضع لبنان ضمن اوارقها الاستراتيجية التي تهدف الى التطبيع مع اسرائيل، فإن المملكة العربية السعودية –من وجهة النظر الايرانية- تضع لبنان ورقة تفاوض في حربها في اليمن وهنا بيت القصيد. وتشير الاوساط الى ان المملكة العربية السعودية لا تمانع البتة بأن يتحول لبنان الى الفوضى العارمة بغية تغيير المعادلات الموجودة فيه، وقوّة “حزب الله” أنه يجهض هذه المحاولات السعودية المرة تلو الأخرى”.
في هذا الإطار، تشير الاوساط الى أنه في حال الفوضى فلا بدّ لمن يمسك بزمام الامور “ولبنان ليس بمساحة حلب واليوم انتهت الحرب في حلب”. تضيف:” يرفض “حزب الله” ومعه الايرانيون حتى التفكير بهذا السيناريو لكنه قائم في العقول التي تدفع لبنان نحو الفوضى، لكن العقل الايراني لا يفكر على هذا النحو بل هو لا يترك اصدقاءه وثمة اكثر من نموذج في المنطقة”.
بالنسبة الى العروض الايرانية للبنان وآخرها ما تحدث عنها لاريجاني وكيف للبنان التعامل مع ايران في ظل العقوبات الاميركية، تشير الاوساط المذكورة الى ان الايرانين يتفهمون بشكل كبير موقف لبنان، لكن يمكن ان يكون التبادل بالعملة المحلية وليس بالدولار، ويمكن ايجاد عناوين للعمل المشترك الذي لا يضر لبنان.