“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
تشكل سلطنة عُمان احد اقدم الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، وتعتبر تجربة باني النهضة العمانية السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور التي استمرت طيلة نصف قرن حتى وفاته في 10 كانون الثاني الفائت، نموذجا يستحق التوثيق كتجربة سياسية وانسانية غير مسبوقة
عرفت سلطنة عُمان تغييرات جذرية منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم خلفا لوالده السلطان سعيد بن تيمور الذي حكم البلاد منذ العام 1931 حتى 1970. فتحت وفاة السلطان قابوس في 10 كانون الثاني صفحة جديدة للسلطنة مع تولي السلطان هيثم بن طارق آل سعيد زمام الحكم سلطانا تاسعا لعمان، في مهمة لن تكون سهلة لأنه خليفة باني النهضة العمانية بكل اوجهها السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والانمائية والاجتماعية، ما يطرح اسئلة مشروعة عن التجديد الذي سيقدمه السلطان الجديد.
في العودة الى عملية الانتقال التي لم يشهد العالم العربي نظيرا لها لسلاستها، فانه يتعين في النظام السياسي لعمان، على مجلس العائلة المالكة اختيار سلطان في غضون ثلاثة ايام. في حال فشل في ذلك خلال الفترة المحددة، تتم العودة الى رسالة مختومة ومكتوبة بخط يد السلطان السابق حدد فيها اسم مرشحه كخلف. لكن العائلة تنازلت عن حقها في اختيار السلطان، وطلبت من مجلس الدفاع فتح وصية السلطان قابوس والاطلاع عليها اكراما لهذا الرجل وتقديرا له، وتعزيزا لمكانته وسمعته وسمعة عمان امام الغير. فكان ان وقع الخيار على ابن عم السلطان قابوس هيثم بن طارق ال سعيد الذي ادى قسم اليمين، موجها رسالته حول استمرارية عمان المستقرة وعزمه السير على خطى قابوس.
في وقفة تحليلية من باحثي مركز كارنيغي حول احداث تتعلق بالشرق الاوسط وشمال افريقيا، تم طرح السؤال عن المضاعفات الممكنة بعد وفاة السلطان قابوس؟ فجاء الجواب البحثي كالاتي:
“اختار قابوس خلفا يشبهه. فهيثم بن طارق شخص هادئ، يحب الثقافة الانكليزية كونه خريج جامعة اكسفورد. هو اداري مخضرم تبوأ مناصب حكومية عدة ويولي اهتماما كبيرا للقضايا الاقتصادية، لاسيما رؤية عمان 2040، وهي خارطة طريق للخطة الاجتماعية والاقتصادية الوطنية على مدى العقدين المقبلين. هكذا، ومن خلال خطوته الاخيرة، وجه قابوس رسالة تطمين الى مرحلة ما بعد رحيله. فمن خلال اختيار ابن عمه هيثم الذي عمل في وزارة الخارجية ستة عشر عاما، حرص السلطان الراحل على ابقاء سياسته الخارجية كما كانت عليه في عهده”.
في خطابه الاول بعد تنصيبه رسميا، تعهد السلطان هيثم بن طارق السير على خطى عقيدة قابوس، علما ان السلطان الجديد درس عامين في لبنان حيث انتسب الى مدرسة برمانا العليا في الـ15 في العمر، ومكث فيها بين عامي 1970 و1972 قبل ان ينتقل الى بريطانيا لاستكمال دراسته. وهو عاد وزار لبنان وزيرا للتراث والثقافة عام 2009 حيث وضع الحجر الاساس لدار الثقافة والفنون في وسط العاصمة.
استلهم السلطان قابوس في مسيرة حكمه سيرة الكبار في التاريخ، وابتعد من مظاهر البهرجة والطموح السياسي غير المحسوب النتائج. اتسم حكمه بالعدالة والاتزان والحكمة والرؤية البعيدة الامد، وبتواضع وصمت جعلا سلطنة عمان من امهر الدول التي تقوم بوساطات ناجحة. كذلك حولتها هذه السياسة مقصدا سياحيا لكبار المسؤولين في العالم، لعل من ابرزهم الامير تشارلز الذي كان يمضي معظم وقته في ارجاء السلطنة المعروفة بجمالها السياحي، وهي مقصد بجبالها وعيون مياهها لاسيما الافلاج.
عندما تسلم السلطان قابوس الحكم في 23 تموز 1970 خاطب شعبه قائلا: “ايها الشعب، ساعمل في اسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل افضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب”. يوم وصول طائرته الى صلالة في 27 تموز 1970 بانت فاتحة عهد جديد لمستقبل مشرق للسلطنة التي لم تعرف قبله اية علاقات خارجية، وكانت لعمان علاقات ديبلوماسية مع ثلاث دول فقط هي بريطانيا والهند وباكستان. لم تكن سلطنة عمان عضوا في جامعة الدول العربية، ولا في منظمة الامم المتحدة، وكانت الاوضاع الاقتصادية تتدهور بسبب الازمة الاقتصادية العالمية لعام 1929 ما اثر على عمان بسبب ارتفاع الاسعار وهبوط كبير في ايرادات الجمارك، وايضا بسبب الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945 بعدما تسببت في تدمير البنية الاقتصادية للدول الصناعية، وتأثرت بالتالي الدول المستوردة للبضائع، وطاولت المعاناة التجارة والصناعة ووسائل المواصلات والزراعة والقطاع الصحي وكل مظاهر الانتاج.
كذلك تسلم السلطان بلدا ممزقا بسبب حرب داخلية بين ساعين الى تقسيم الدولة الى جزء للامام في الداخل وآخر للسلطان على السواحل. فواجه هذه المخططات التي دعمتها دول عربية بحزم، ووحد تراب البلاد وبدأ انفتاحا تنمويا مواجها ثورة جبال ظفار للماركسيين الذين تلقوا دعما من حكومة اليمن الجنوبي ومصر عبد الناصر وليبيا معمر القذافي. وهي ثورة امتدت من من الستينات الى نهاية 1975 واخمدها قابوس بعدما تلقى دعما مهما من شاه ايران.
جعل السلطان الجديد شغله الشاغل بدء تحولات فعالة وسريعة عبر حكومة نشطة، واسند الى عمه طارق بن تيمور (والد السلطان الحالي) تشكيل هذه الحكومة في اب 1970.
في خطابه الى الشعب في 9 آب، اعلن عن قراره تغيير اسم البلاد الى سلطنة عمان “بداية لعهد جديد متنور ورمز لعزمنا”. وبدأ تصميم علم وطني يكون شعاره والوانه شهودا على توحيد الوطن، فلا يعد من فروقات بين الساحل والداخل وبينهما وبين المقاطعة الجنوبية. اعاد الجنسية العمانية الى المبعدين من العمانيين، واعلن خطة تطوير الحكومة وتنظيمها لاستيعاب الموارد البشرية من رجال البلاد المؤهلين، مستهلا خططا فورية لتطوير بلاده. ثم اعلن لسكان عاصمة مسقط عن اتاحة رقعة من الارض ليبني عليها الشعب بيوتا افضل، ولتأسيس مشاريع تجارية وصناعية خفيفة، ونقل مقر القوات المسلحة من وادي بيت الفلج الى مكان جديد انسب لحاجات القوات المسلحة الاستراتيجية والتكتيكية، واعلن عن المطار المدني الاول في العذيبة، وقام باطلاق مشاريع الطرق والماء والمجاري، ورفع ممنوعات كثيرة منها حرية التنقل في داخل البلاد والسفر الى الخارج بلا قيود.
اولى السلطان قابوس الزراعة اهمية، ورفع القيود المفروضة على استيراد وامتلاك جميع انواع الالات الزراعية، وانشأ مزارع عدة منها في صلالة، ووضع برامج تنمية مع مسح لمصادر المياه في السهول ومشاريع للري ولتوسيع الاراضي المتاحة للزراعة. كما اجرى تغييرات في نظام جباية الرسوم الجمركية على واردات البلاد من البضائع، وشجع التجارة وخفّض الاسعار على جميع البضائع في كل انحاء السلطنة، واعاد النظر في نظام جباية الزكاة.
اولى عناية للصحة والتعليم والمواصلات والطرق، وارسى نظاما عصريا للمواصلات والاتصالات البرية والبريدية. وتجنبا لازدحام السير، فرض رقابة على اصدار رخص السيارات، ونظم ادارة الكهرباء لتعود الرقابة عليها الى الحكومة. كما نظم الاذاعات والاعلام المرئي وافتتح مستشفيات عدة، مرددا ان “الحكومة والشعب كالجسد الواحد اذا اختل عضو فيه اختل الجسد كله”.
انشغل السلطان قابوس في بداية اعوام حكمه بمسألة التعليم، ووجه جهوده نحو نشر العلم، فافسح المجال لوزارة المعارف وارتفع عدد المدارس من 3 عام 1970 الى 1700 حاليا. افتتح مدارس في كل جزء من اجزاء السلطنة للبنين والبنات، وقد منح اهتماما خاصا لتعليم الفتيات قائلا: “الفتاة هي نصف المجتمع”. اهتم بالتجارة والزراعة والجمارك والشؤون الفنية وشؤون النفط والمعادن والمدرسة الصناعية ومقاطعة اسرائيل كما ورد في خطب عدة له واحياء الحرف الوطنية. طور الموانئ ووسع خدمات المطار، وعقد اتفاقات ثنائية للنقل الجوي بين السلطنة ولبنان ومصر والاردن والسعودية، بحيث اصبحت السلطنة عضوا في منظمة الطيران المدني الدولية. نظّم وزارة العدل والمحاكم الشرعية وبنى المراكز الحكومية، وشجع حركة الحج مشكلا بعثة خاصة لشؤون الحج، ووزع الاراضي الزراعية على المواطنين، وانشأ وزارة الشؤون الاجتماعية لتوفير الرعاية الاجتماعية للعجزة والمقعدين، وقدم المساعدات المالية والعينية، وأهل ما يمكن تأهيله للحصول على مصدر رزق مناسب وقدم المعونات للمتضررين من الكوارث، فقدمت الوزارة الدعم الى ذوي الدخل المحدود وانشأت لهم بيوتا. شجع التدريب المهني على حرف مختلفة في سبيل اعداد جيل جديد من الحرفيين العمانيين، وانشأ دائرة خاصة لخدمات الشباب ورعاية وتنظيم نشاطاته الرياضية والاجتماعية والثقافية والفنية، وارسل بعثات الى الخارج للتدريب على اعمال الخدمة الاجتماعية.
قدّر اهمية الاعلام، فطور المديرية العامة للاعلام والسياسة، معتبرا “ان الاعلام هو المرآة التي تعكس ما يدور في البلاد، وهذه المرآة يجب ان تكون صافية نقية صادقة مع نفسها ومع الاخرين”.
وسع السلطان قابوس دائرة علاقات السلطنة مع الدول العربية والاجنبية، فانضم الى الاسرة العربية في جامعة الدول العربية والى الامم المتحدة، ووقع وثيقة قيام مجلس التعاون الخليجي في ايار 1981 حيث طرح للمرة الاولى تدخلات اليمن الجنوبي وخصوصا على الحدود مع عمان، فتكتل معه الخليجيون وانهوا الشغب اليمني. وضع اسس وزارة الخارجية لتنظيم الجهاز الداخلي وخلق الكادر الاداري لمواجهة الاعمال المتزايدة والمستمرة. افتتحت الخارجية بعثات ديبلوماسية عدة وحدد خطوط السياسة الخارجية العريضة كالاتي:
“* انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لاية دولة.
* تدعيم علاقات السلطنة مع الدول العربية واقامة علاقات ودية مع دول العالم.
* الوقوف الى جانب القضايا العربية في المجالات الدولية.
* الوقوف الى جانب القضايا الافريقية وتأييد نضالها من اجل الحرية والاستقلال. واتخذت عمان موقفا معاديا لسياسة التفرقة العنصرية التي تمارسها حكومة جنوب افريقيا وحكومة روديسيا.
* التزام الخط الذي تسير عليه دول العالم الثالث”.
ثورة ظفار اتخذت موقعها في كل خطبه، وكانت مجموعة من الشيوعيين قد قامت بثورة آزرته في احتوائها ايران زمن الشاه. كان يصف هؤلاء الثوار بـ”العصابة الشيوعية المجرمة”، ومنذ ذلك الحين بقيت العلاقة مع ايران في افضل احوالها.
يقول العارفون ان الاتفاق النووي بين ايران ودول مجموعة الخمسة زائدا واحدا بدأ نقاشه في عمان، وانتهى بتفاصيله الاخيرة في عمان ايضا قبل توقيعه النهائي عام 2015. جرت المفاوضات كلها في سلطنة عمان، وكان وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي عرابا لهذا الاتفاق الى جانب وزيري خارجية ايران محمد جواد ظريف والولايات المتحدة الاميركية جون كيري.
احترم السلطان قابوس المبادئ التي ارساها في السياسة الخارجية ونفذها فعليا ولم تكن حبرا على ورق. هكذا رفضت عمان الحرب على اليمن، ولم تكن من ضمن التحالف العربي لان اليمن دولة جوار. قبل ذلك، وبعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد قاطعت الدول العربية جمعاء مصر، باستثناء سلطنة عمان بقيادة السلطان قابوس، لأنها اعتبرت الامر شأنا داخليا يخص مصر وهي “ام الدنيا” واساس العرب والكل سيعود اليها، وهكذا حصل.
الا ان السلطان قابوس وفي احد خطبه اعتبر ان الخطوة نحو السلام ليست كافية، “فليس السلام وحده هو المهدد بالخطر، بل ان الخطر يكمن في عدم اصلاح الاخطاء التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني، وعدم وضع نهاية للالام والمصاب التي حلت به، وهذه حقيقة يجب ان يعترف بها العالم وان يعمل على ايجاد تسوية تعيد للشعب الفلسطيني كامل حقوقه وتحفظ له كرامته. فلا عناد اسرائيل وتصلبها وتحديها لارادة الامم المتحدة، ولا الاعمال المؤذية التي يقوم بها اولئك الذين يرون ان من مصلحتهم استمرار هذا الوضع يجب ان تقف في سبيل تحقيق هذا الهدف. لذا فان عمان تعلن بصراحة انها ستؤيد بقوة اية مبادرة بناءة يقوم بها اي زعيم عربي او اي زعيم آخر من شأنها ان تؤدي الى تحقيق هذه الغاية”.
ابان الازمة السورية زار وزير خارجية عمان يوسف بن علوي سوريا، في حين ابقت السلطنة على سفارتها موجودة ولم تغلقها يوما، محافظة على علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا انطلاقا من مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول.
تواصل السلطان قابوس شخصيا مع شعبه، وقام بجولات دائمة على اعيان محافظات السلطنة المختلفة وشيوخها تواصلا مع النهج الديموقراطي القائم على مبدأ الشورى. وكانت جولاته تستغرق ما بين اسبوع الى شهر، وذلك من اجل الاطلاع على ما تم انجازه وتحفيز الادارات المحلية المختلفة على تلبية حاجات المواطنين، الى جانب التأكيد على وجود رقابة دائمة على اعمال الادارات الرسمية وادامة التواصل المباشر بين الحاكم والشعب هادفا الى انتقال القيادة والحكومة الى المواطن اينما وجد لمتابعة حاجاته. هذا الامر ساعد في توطيد الثقة بينه وبين القبائل في عمان وامتداداتها في اليمن، حيث قامت سلطنة عمان بمفاوضات عدة لتحرير رهائن اوروبيين كان يتم اختطافهم في اليمن للمساومة، وذلك بناء على طلب دول اوروبية كبرى. فحررت الديبلوماسية العمانية الماهرة والصامتة اميركيين واوستراليين ونمساويين ورعايا من دول اسكندينافية، حتى ان الولايات المتحدة الاميركية طلبت وساطة عمان مرات عدة لتحرير رهائن اميركيين لدى ايران وقد نجحت عمان في ذلك، من دون اي اعلان عن هذا الامر، تيمنا بنهج اتبعه السلطان وتبناه الشعب العماني ويقضي بعدم الكلام عن الانجازات او التمنين بالمساعدة ايا تكن.
في هذا الاطار، وفي اثناء تقبل سفير سلطنة عمان في لبنان بدر المنذري التعازي بعد وفاة السلطان قابوس في مقر السفارة في منطقة الجناح، فوجئ بعدد من الشخصيات اللبنانية، سواء المدنية او الروحية، تخبره عن انجازات ومساعدات ضخمة ومشاريع ساعد فيها السلطان قابوس ولم يعلن عنها البتة. من الاعمال التي عرفت، تأسيس مدرستين نموذجيتين بتمويل عماني في طرابلس وصور، ومركز “لقاء” العالمي للحوار في الربوة. كذلك اوصل احد المعزين رسالة الى السفير المنذري من حفل اقامه اطفال في اوزبكستان كان السلطان قابوس قد تبناهم لأنهم يتامى، وكان هؤلاء يشيدون بالسلطان الراحل ويجهشون بالبكاء حزنا على رحيله.
عرفت سلطنة عمان بمهاراتها في الوساطات الصعبة والتي لم يعلن عنها في سياسة الديبلوماسية الصامتة التي اعتمدها السلطان قابوس، والتي سيبقي عليها السلطان الجديد هيثم بن طارق آل سعيد بحسب مصادر عليمة بالملف العماني. فمنذ ان لمح السلطان عن مرضه في العام 2014، برز الكثير من التوقعات حول مستقبل عمان، ومدى قدرتها على الاستمرار في السياسة التي انتهجها قابوس. لكن السلطان الراحل امسك بيديه زمام الامور مجددا ليختار قيادة تشبهه بالفكر السياسي والسلوك الداخلي والخارجي.
*نشر هذا التقرير في العدد الـ77 من مجلة الأمن العام لشهر شباط 2020.