“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
وسط اشتعال الحروب واندلاع الثورات المتنقلة وانعدام الثقة بين الدول كما بين الشعوب والحكام، وفي ظل مخاطر انزلاق صراعات تاريخية الى مواجهات مباشرة صاروخية او حتى عبر اذرع وكيلة، تبدو الديبلوماسية الاستباقية او الوقائية حلا مهما. فما هي خلفية هذا المفهوم تاريخيا وضمن الامم المتحدة؟
بدأت تباشير الديبلوماسية القديمة في القرن الثالث. اذ كان المبعوثون الديبلوماسيون في حضارات الشرق الاقصى يسافرون ناقلين الرسائل من حكامهم الى كبار الملوك. لم يكن هؤلاء يتمتعون بالحصانات والامتيازات الديبلوماسية التي نشأت لاحقا، (اتفاقيتا فيينا الديبلوماسية والقنصلية)، بل على العكس كانت مهماتهم محفوفة بالمخاطر ومن دون اية ضمانات بالحماية. كان هؤلاء عرضة للخطف والسجن وحتى الاغتيال. كانوا يخضعون في البلد الذي يحملون اليه الرسائل الى القواعد التي يخطها الحاكم الذي يقرر مدة بقائهم ومتى يغادرون، وحتى حرية حركتهم، وفي حقهم في العودة الى موطنهم. كان الديبلوماسيون في ذلك العصر، يواجهون فعليا ما يمكن تسميته عوائق لا يمكن التكهن بها في القيام بالمهمات الديبلوماسية التي كلفوا بها درءا لمخاطر محتملة.
في العودة الى النظام اليوناني القديم وبحسب كتاب “فهم الديبلوماسية الدولية”، تم التعرف على 3 انواع من الممثلين الديبلوماسيين:
– الرسل: يرسلون في مهمات محددة وقصيرة وذات خصوصية عالية.
– المبشرون: لديهم حصانة معينة لحمايتهم الشخصية.
– الوسطاء: يقودون الوساطات من بلدهم الام.
كان لدى الرومان مبعوثون ديبلوماسيون، وكذلك حرص الفراعنة المصريون على وجود علاقات مع البلدان المجاورة عبر المهمات الديبلوماسية.
شكلت الديبلوماسية اليونانية نموذجا متقدما في العصور القديمة، حيث وضعت قواعد لاحترام الحصانات الديبلوماسية، الاتفاقات والاحلاف التي تنشأ من التفاعل الديبلوماسي والمعايير العالية للنقاش العام. هذا ما اتاح للديبلوماسيين ان يكونوا اكثر فاعلية في اعمالهم. بالنسبة الى الاتفاقات، كان الديبلوماسيون اليونان يعملون وفق قواعد صارمة جدا، وكانت الاتفاقات تخضع لموافقات مجالس العموم. بلغ حد الشك في عمل الديبلوماسيين انه في العهد اليوناني كانت كل مهمة مؤلفة من عشرات الديبلوماسيين وقد يبلغ عدد السفراء عشرة في البعثة الواحدة. كان هذا الامر ايضا لصالح التعبير عن معظم اراء الشعب الذي تعبر عنه البعثة المرسلة من الدولة الى دولة اخرى، لكن غالبا ما كان ينعكس الامر على فاعلية عمل البعثة بسبب الاختلافات في الرأي بين اعضاء البعثة. كان اعضاء البعثة يقفون امام الملك او المجلس المرسلين اليه ويلقون خطبهم تماما كما يحصل حاليا في الاجتماعات الدولية الكبرى.
لعبت الاديان دورا في حل النزاعات في العصر القديم. فاليونانيون مثلا كانوا يعتمدون على الالهة مثل زوس الذي يكتب لهم ماهية القرارات والمبادئ، وبالتالي كان من الصعب جدا نقض المعاهدات والتحالفات، خصوصا انها قامت بالهام من الالهة. من القواعد المدنية التي وضعها اليونانيون اتفاقات عادلة للسجناء، عدم استخدام الاسلحة المسمومة، احترام الهدنات، منع الحروب في اثناء الاحتفالات الدينية او الرياضية، عدم التعرض للهياكل الدينية والسفارات. كذلك طور اليونانيون اول شكل للمنظمات الدولية، حيث اقيمت مهرجانات على غرار الالعاب الاولمبية وكانت نوعا من مد جسور العلاقات الدولية، اذ كانت تتم النقاشات في اثناء تلك الاحتفالات حول اتفاقات التعاون.
لعل الفرس من اوائل من اعتمدوا الديبلوماسية الاستباقية في تفاعلهم مع المدن – الدول اليونانية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. في الواقع كان الفرس – بحسب الكتاب المذكور- اكثر نجاحا في الديبلوماسية من الحروب ضد اليونان. كانوا يهدفون الى الحفاظ على توازن السلطة بين مدن الدول اليونانية عبر انشاء اتفاقات حيادية لكي لا تكون اية مدينة يونانية قوية في حال نشوب حرب بينهم وبين اليونانيين.
كان للرومان احترام خاص للمعاهدات الدولية التي كانت تستخدم لنشر السلام وبناء التحالفات وتقليص الانقسامات. قبل عام 264 تم عقد اكثر من 150 معاهدة، وهذا ما قوّى روما عسكريا.
بالنسبة الى الديبلوماسية الصينية، يقول الكتاب انه كان هناك تأثير كبير لكتاب “فن الحرب” الذي كتبه الخبير العسكري الصيني سون تزو عام 500 قبل المسيح، وارتكز على فكرة تقول ان النصر يجب تأمينه عبر دحر العدو من دون قتال، وذلك عبر اتباع طريقة تقييد حركة العدو وتحقيق النصر عبر الهجوم عليه معنويا وذهنيا من خلال تضليله والتلاعب به من خلال رؤيته لهيكلية الصراع. هذا ما اسبغ على الديبلوماسية الصينية طابعا اقل عنفا، ورافق تاليا تاريخها.
هل يمكن للديبلوماسية ان تعيد صناعة عالم افضل؟ وما هي الادوات لذلك؟
الافضل ان يكون ذلك عبر النظام والقيم. بالنسبة الى الذين يعملون على السلام، لا يمكن تحقيق ذلك من دون ديبلوماسيين يعملون بانتظام على القضايا العميقة، مثل الفقر، الصحة، الحكم غير الديموقراطي، وتضاؤل الفرص امام التطور الانساني. بالنسبة الى البعض، الامر مستحيل نظرا الى تشابك الظروف والتناقضات الموجودة، ومن الصعب اقامة التوافق بين هاتين الوجهتين، ولعل الافضل وضع اولويات قريبة وبعيدة الامد، لكن طبيعة هذه الاولويات تبقى عرضة للنقاش.
نتوقف عند طريقتين تمكن الديبلوماسيين من ايقاف العنف محليا ودوليا: الديبلوماسية الوقائية ومحكمة العدل الدولية.
* تستبق الديبلوماسية الوقائية نشوب النزاعات والتهديدات للسلام والامن عبر القضاء عليهما قبل وقوعهما على المديين القصير والمتوسط.
* العدالة الجنائية الدولية تسهل التغيير السلمي عبر العمل بعمق اكبر، وهي تفرض مسؤوليات جنائية مباشرة على الافراد بغض النظر عن القانون المحلي. وهي تساهم تاليا في حل النزاعات بعمق وعلى المدى الطويل.
* الديبلوماسية الوقائية ليست مفهوما حديثا، بل كانت في صلب اهتمامات ماكيافيلي الذي طالما نصح الديبلوماسيين الجدد بجمع المعلومات ليس فقط عن الامور التي هي في طور التفاوض، او الامور التي انتهت، بل تلك التي لم تحصل بعد.
* في سياق الامم المتحدة: من الناحية السياسية، ان الامين العام للامم المتحدة السابق داغ هامرشولد كان اول من لجأ الى الديبلوماسية الوقائية كجزء من صلاحياته، وذلك بغية العمل بحيادية. يو ثانت وكورت فالدهايم طورا مفهوم المساعي الحميدة، وبنى خافيير بيريز دو كويار اهمية على انظمة التحذير المبكر
Early warning systems عبر مكتب البحوث وجمع المعلومات.
Office for Research and the Collection of Information
ORCI في حين ضم بطرس غالي هذا المكتب الى داخل القسم السياسي، واصدر مسودة حول اجندة السلام والديبلوماسية الوقائية وحفظ السلام. ودفع كوفي انان بالامور الى اجندة من اجل تجنب النزاعات المسلحة، في حين استخدم بان كي مون سلطته ليوجه الانتباه الى الرابط بين تغير المناخ وتجنب النزاعات.
اخيرا، شجع انطونيو غوتيرس على مقاربة متكاملة تتضمن معالجة جذور القضايا، عبر تحسين التنمية المستدامة وخفض بطالة الشباب، مع بذل جهود اممية قوية لتشجيع قدرات الوساطات وعمليات اتخاذ القرار.
هذه المبادرات للامناء العامين ادت الى تطور تدريجي في مفهوم الديبلوماسية الوقائية، التي انتقلت من مفهوم الديبلوماسية التقليدية الى المساعي الحميدة (اي التوسط الحيادي)، الى شكل اكثر تعقيدا للالتزام الديبلوماسي الذي يتعلق بادارة الصراع والاوضاع التي تليه.
اما التعريف المعتمد حاليا للديبلوماسية الوقائية في الامم المتحدة فهو: عمل ديبلوماسي يتم اتخاذه في مرحلة مبكرة من اجل تجنب الخلافات بين افرقاء، ومنع تطور هذه الخلافات الى صراعات بغية الحد من انتشار تلك الموجودة حاليا.
هذا التعريف يقود الى سؤالين: هل من اسناد او دعم قانوني لمفهوم الديبلوماسية الوقائية؟ اذا كان الجواب ايجابيا، فما هو الاطار الدستوري لدعمها؟
من وجهة نظر القانون الدولي تؤدي محكمة العدل الدولية دورا استشاريا. وبحسب المادتين 10 و11 من شرعة الامم المتحدة، تتمتع الجمعية العامة للامم المتحدة بسلطة واسعة في موضوع تجنب النزاعات، كونها تطور التوصيات وتنبه مجلس الامن الى الاوضاع التي قد تشكل خطرا على السلام الدولي والامن.
لكن قرارات الجمعية ليست ملزمة وهذا ما يؤثر على فاعليتها. هذا الامر تم تعويضه عبر المادة 34 من شرعة الامم المتحدة بأن على مجلس الامن ان يحقق في النزاع، او في اي وضع قد يؤدي الى نزاع لمعرفة ما اذا كان هذا الامر واستمراره قد يشكلان خطرا على السلام والامن.
تعطي المادة 99 الامين العام للامم المتحدة سلطة تنبيه مجلس الامن الى اي امر يهدد، في رأيه، تثبيت السلام الدولي والامن (شرعة الامم المتحدة عام 1945).
ان عمليات حفظ السلام تقدم الامن والدعم في بناء سلام سياسي مبكر. هذه العمليات تديرها دائرة عمليات حفظ السلام UN department of peacekeeping operations (DPKO)
في 21 ايار 2017، تضمنت 15 مهمة واضطلع بها 83499 كتيبة قتالية ومراقبا عسكريا، و10276 مدنيا محليا و1599 متطوعا لدى الامم المتحدة.
بما ان مجلس الامن تنبه جيدا الى ان معظم الحروب الاهلية هي بسبب عدم وجود سياسة استباقية، فقد انشأ مع الجمعية العامة للامم المتحدة عام 2005 لجنة بناء السلام Peacebuilding Commission (PBC). كذلك انشأ الامين العام صندوق تعاضد لبناء السلام عام 2006 لدعم الانشطة والاعمال والبرامج والمنظمات التي تتطلع الى بناء سلام مستدام في البلدان التي تخرج من الصراعات.
تواجه الديبلوماسية الوقائية تحديات عدة:
اولا، تتطلب مستوى ونوعية تنسيق بين مختلف الوحدات التي تضطلع بمهمات تنبيهية مبكرة في سياق الامم المتحدة.
ثانيا: المزيد من التنسيق بين الامم المتحدة من جهة وبين المنظمات الاقليمية المتخصصة بشؤون الاستباق وبناء السلام منها.
اخيرا، ان استدامة النتائج تتطلب توسيع التزامات الديبلوماسية الوقائية من خلال دائرة صناع القرار وكبار الرسميين، وصولا الى المجتمع المدني.
ليس مؤكدا بعد كم من الوقت يمكن للامم المتحدة ضمان هذه الديبلوماسية الاستباقية، لان ادارة الصراعات الدولية ترتكز اساسا على جهود وساطة من فريق غير منحاز، يتمتع بمهارات تفاوض قوية وصدقية عالية في اعين الاطراف المتنازعين.
الا ان عمليات حفظ السلام، تتطلب مهارات متنوعة، منها التكتيكات العسكرية، المساعدة الانسانية، واعادة البناء بعد الحروب. هذا يقع غالبا خارج حقل المهارات الديبلوماسية.
بالاضافة الى ذلك، تتمتع الديبلوماسية بميزات مختلفة: الانفتاح، الحوار، الغموض البناء، وهذا قد لا يتوافق بشكل تام مع استرتيجيات حفظ السلام وبناء السلام.
من ناحية اخرى، ان بروز قضايا جديدة منها الارهاب والجريمة المنظمة والدول الهشة والتهديدات البيئية شجعت فكرة العصابات المدربة او الديبلوماسيين الاستطلاعيين من اجل اكمال عمل الديبلوماسيين التقليديين. من خلال خبرة الامم المتحدة في الوساطات خلال الصراعات، يتطلب بناء سلام مستدام قيادة قوية ليس في التفاوض فحسب بل ايضا في تنفيذ الاتفاقات. دور الوسيط لا ينتهي عند التوصل الى اتفاق، لأن مندرجات او احكام الاتفاق ستكون عرضة لتفاوض مستمر من الافرقاء خلال عملية التنفيذ. اذا تركت المواضيع الناشئة فجأة مهملة، فان عملية السلام برمتها ستنهار. من الامثلة على سبيل المثال لا الحصر، فشل اتفاق اروشا الذي ادى الى 800 الف قتيل في رواندا عام 1994.
*نشر هذا التقرير في “مجلّة الأمن العام” في عددها الـ77 الصادر في شباط 2020.