“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة
تواصل الانتفاضة اللبنانية التي بدأت في 17 تشرين الأول الفائت سعيها في سبيل تعديل سلوك الطبقة السياسية في لبنان عبر الدعوة الى تشكيل حكومة بلا لون سياسي وبلا وزراء يقع قرارهم عند الاحزاب المتهالكة وذلك تمهيدا لاعادة انتاج طبقة سياسية صافية غير ملوثة بالفساد وقادرة على انتاج قانون انتخابات جديد يطيح بالطقم القديم، حكومة تعثر على حلول لازمة مالية ونقدية واقتصادية خطرة جدا تهدد البلد بالافلاس والناس بالفقر المدقع المغمس بحوادث عنف بدأت تباشيرها منذ قرابة الاسبوع.
أحدثت الانتفاضة التي تنقسم في عمقها الى انتفاضات منها العفوي ومنها الذي بات منتظما تحت مظلات سياسية او اقليمية تغييرات مهمة جدا، ليست مرئية حتى لأولئك الذين صنعوها بأنفسهم اي الثوار الذين لا يزال عدد غير قليل منهم يرابط في خيم مضروبة في وسط العاصمة بيروت في ساحتي الشهداء ورياض الصلح فضلا عن خيم ممتدة في الشمال في مدينة طرابلس وفي عكار وصولا الى الجنوب في صيدا والبقاع.
كان اختيار حسان دياب لتولي رئاسة الحكومة التي تشكلت فعليا أمس حدثا في حدّ ذاته، فقبل يوم من زيارة معاون وزير الخارجية الاميركي ديفيد هيل الى لبنان وقع الخيار على دياب وهو نائب رئيس الجامعة الاميركية والاستاذ فيها منذ اعوام طويلة، وبعد ان اشتمّت في الخيار رائحة تسوية خفية او غمزة وامضة بين ايران والولايات المتحدة، تبين أن الامر لم يكن سوى “ارنب” تم اخراجه من قبعة الساسة اللبنانيين كمناورة لامتصاص نقمة الشارع ولاعطاء رسالة للأميركيين بأن الطبقة السياسية جادة في ايجاد حل وصيغة حكومية مطعمة بشخصيات اكاديمية متخصصة تحاكي تطلعات اللبنانيين.
لم يصدق المنتفضون هذه المناورة، لكن لسوء حظّ “المتسعدنين” أن حسان دياب كان صادقا وجديا في توليه زمام المسؤولية، وعمل الرجل الذي يتحصن بـ”وجه البوكر” بجهد دؤوب وكان حريصا على التشاور مع جميع القوى السياسية على اخراج حكومة متخصصين سمتهم القوى السياسية، مع وعد بأن يترك هؤلاء للعمل على حل الازمات المتراكمة والمتفاقمة.
في الشكل سير ذاتية ممتازة، 6 سيدات، بينهم وزيرة للدفاع. في الشكل ايضا غاب معظم صقور الحكومات الفائتة وابرزهم اطلاقا رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي تربع وزيرا على مدى 12 عاما، ومثله وزير المالية علي حسن الخليل، وكذلك خرجت الأحزاب وممثلوها المباشرون برمتهم، استعاد اللبنانيون موقعهم كمصدر للسلطات، اكتشفوا وجوها جديدة من اختصاصيين لهم باع في الشأن العام بلا ان يتعاطوا السياسة مباشرة، كذلك تمّ تعطيل ما عرف بـ”الثلث المعطّل”، والاهم ان رئيس الحكومة هو من خارج نادي رؤساء الحكومات المعروفين منذ زمن الطائف والذين ملّ منهم اللبنانيون.
وبالتالي حققت الانتفاضة الشعبية ما لم يستطع أحد تحقيقه في 30 عاما. بالتأكيد أن الأمر غير كاف، فهذه الحكومة يجب أن تعبد الطريق نحو اصلاحات جوهرية مطلوبة من لبنان على الصعد كافة: معالجة المشكلة المالية والنقدية، وضع حد لتحكم مصرف لبنان بالسوق النقدية ومعالجة حجز المصارف على اموال اللبنانيين، وقف الهدر، محاسبة الفاسدين واسترداد الاموال المنهوبة والمهربة، وضع خطة ليعود لبنان بلدا صناعيا وزراعيا منتجا وتخفيض الاستيراد، كذلك وضع خطة واضحة لعملية انتاج وتصدير النفط والغاز العتيدين وخطة لمعالجة المشلكة الحدودية مع اسرائيل بلا ان يخسر لبنان جزءا من ثرواته، وكذلك معالجة جدية لا ديماغوجية للجوء السوري والفلسطيني الى لبنان، وايجاد اسواق للمنتجات اللبنانية بشتى الطرق، واعادة وصل ما انقطع مع الدول العربية عموما والخليجية خصوصا لكي تعود وترى في لبنان الشقيق الاصغر الذي طالما دعمته وعطفت عليه عوض ان ترى فيه شوكة في خاصرتها.
كل ذلك مطلوب من هذه الحكومة، بالاضافة طبعا الى قانون انتخابات جديد يمهد لانتخابات نيابية يريدها المنتفضون مبكرة. هذه المطالب، لا يبدو بأنها فقط هي التي تدير الحراك الموجود في الشارع المنزلق منذ ايام نحو موجات عنف غير مسبوقة بين جزء من المتظاهرين المنتظمين في مشاريع لا يبدو بأنها تندرج ضمن المطالب الآنفة الذكر، بل لديها أجندات أوسع وأخطر، وهي ترتبط بمخططات دولية لا طاقة للبنان على تحمل تداعياتها.
لقد خرجت جموع هؤلاء المتظاهرين تضرب وتعتدي وتحطم وتتوعد بالمزيد من العنف في سبيل المزيد من الانجازات التي تحاكي الوجع العميق للبنانيين. هذا الواقع مخيف، وخصوصا مع اخبار متواترة عن موجات عنف متصاعدة يتم الاعداد لها وتشجيع مغردين ما يسمونه “العنف الثوري”، وهو عنف يعني أن ثمة دماء سوف تسفك من اجل تحقيق المطالب.
هذا الخطاب مخيف في لبنان لأن العنف في هذا البلد له بداية لكن ليس معلوما كي ترتسم نهاياته ولا كمية الجثث والدماء التي ستتراكم قبل ان يلوح الحل النهائي الذي لن يكون له تاريخ محدد.
احد الاعلاميين العرب عماد الدين أديب كتب بجرأة – كي لا نقول بصفاقة- قل مثيلها ولا ندري إن كان يتسلح بها لو اراد الكتابة عن بلده مصر او عن اي دولة خليجية صديقة له ، كتب ورسم سيناريوهات سوداء لبلدنا لبنان، ولم يلق مقاله أدنى ردّة فعل في لبنان، ولو كتب أي صحافي لبناني ما كتبه أديب عن مصر او عن اي بلد آخر لكان مصيره السجن المؤبد. كتب هذا الصحافي المستفيد من رحابة صدر لبنان وحريته اللامحدودة مقالة بعنوان:” سقوط الدولة في لبنان” مشيرا الى أن:”لبنان على حافة سقوط الدولة الوطنية واعلانها دولة فاشلة في خلال النصف الأول من هذا العام إن لم تحدث معجزة سماوية! وحيث اننا في عصر لم تعد فيه المعجزات متوفرة وحاضرة في حياتنا فإن لبنان العزيز ذاهب الى ثلاثية الافلاس المالي الاضطرابات الاجتماعية والصدامات الأمنية الدموية”.
يتابع هذا الاعلامي الذي طالما رحبت به الربوع اللبنانية “توقعاته” الجهنمية” :”هذه الثلاثية تؤدي تقليديا الى 3 احتمالات: حرب اهلية تبدأ ولا تنتهي مثل افغانستان الصومال واليمن، أو تدخل قوى محلية مثل الجيش أو ميليشيا بدعم شعبي لإعلان الأحكام العرفية وإقامة نظام جديد بالقوة االمسلحّة، أو تدخّل قوّة اقليمية عسكريا أو قوات دولية بقرار أممي لفرض إرادة دولية على القوى المحلية”. ويستنتج بغرور غير مسؤول:” إذن نحن أمام: الفراغ، أو الدماء أو التدخل الخارجي. كافة الاحتمالات مخيفة ظالمة للشعب اللبناني الصبور ولثورة شبابه ونضالهم من اجل اقامة دولة قائمة على العدل والانصاف والقانون عابرة للطوائف والاحزاب والعائلات المتوارثة للسلطة والمال والبلاد والعباد (…).
هذا ما يطمح اليه اعداء لبنان الوطن، ومنهم هذا الصحافي الذي لا ندري إن كان يجرؤ على المطالبة بالعدالة والانصاف لبلدان عربية أخرى غير لبنان، عدالة وانصاف يمران بنهر من العنف والدماء، هذا ما تطمح اليه الدبلوماسية المدمّرة والمتعالية للبعض والتي لا تنظر الا الى مصالح دولها واوطانها مستبعدة مصير وطن وشعب عربي طالما كان صديقا لها ومحبا لشعوبها ومتحملا عنها أوزار نكباتها واخفاقاتها عبر التاريخ، ومتناسية ان لبنان كان وسيبقى ضمن الجغرافيا العربية وان الجغرافيا والتاريخ لا يتغيران. لكن السؤال الأبرز ليس للثوار اللبنانيين المنجرفين في مخططات لا يفقهونها في كثير من الاحيان، بل لمن يقفون وراء بعض المنتظمين منهم من ممولين ومحرضين: هل تحتملون دماء لبنانية على ايديكم؟ إذا كنتم لا تخافون الحرب، اتقوا الله، فدماء الشعب اللبناني ليست ملككم.