“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
دخل مفهوم الديموقراطية التشاركية للمواطنين الى قاموس العمل الوطني، مقوضا اعتقادا سائدا بأن الانتخابات وحدها هي الطريق السليم الى الديموقراطية. ليس سهلا ادماج الديموقراطية التشاركية في مفاهيمنا الحالية، خصوصا في ظل احزاب سياسية اعتادت احتكار القرار، وبالتالي توجد صعوبة كبرى في معرفة كيفية تحويل الديموقراطية التقليدية وتوأمتها مع الديموقراطية التشاركية واقناع الاحزاب بذلك
يكمن دور الاحزاب السياسية في انتاج برامج طويلة الامد. لكن السؤال المطروح: كيف يمكن توأمة شرعية الاحزاب مع شرعية مشاركة المواطنين العاديين والسماح لهم بانتاج برامج تخصهم؟ وهل يمكن ان تكون الهيئات النقابية اجساما وسيطة؟
يشير مدير مرصد الوظيفة العامة والحكم الرشيد في جامعة القديس يوسف البروفسور باسكال مونان الى “اننا نعيش اليوم ازمة نظام حقيقية تطاول مؤسساتنا وهي ازمة ديموقراطية”. ويعتبر ان “في هذا الزمن الاستثنائي، وفي هذه المرحلة الانتقالية، حان الوقت للانتقال من مرحلة التشكيك الشعبي الى مشاركة المواطنين الحقيقية والكاملة”.
كما يؤكد مونان انه “يجب العمل اكثر من اي وقت مضى على ردم الهوة بين المواطنين والحكام، والبحث عن اشكال تنظيمية جديدة وعن مشاركة المواطنين”. ويلفت الى ان نشوء الديموقراطية التشاركية المنبثقة اصلا من النظام الديموقراطي “تتيح المساهمة في تطبيق سياسات وخدمات ذات منفعة عامة. هذه الديموقراطية التشاركية تسمح بفرض مبدأ المساواة والمسؤولية الجماعية بشكل يجعل السياسات العامة اكثر تناسبا مع متطلبات المواطنين وحاجاتهم”.
لكن كيف يمكن ان يحصل التحول من الديموقراطية التمثيلية الى الديموقراطية التشاركية؟
يجب التنبه بحسب ما يشرح البروفسور في جامعة ليل ريمي لوفيبر لـ”الامن العام” الى ان الديموقراطية هي “في الاساس تمثيلية، اذ تبقى الانتخابات اللحظة الاهم في اي مسار ديموقراطي، ولم نعثر لغاية الان عن اي بديل لها. وبالتالي، يتعلق الامر بكيفية تطوير هذه الديموقراطية التمثيلية نحو ديموقراطية اكثر تشاركية”.
يقدم لوفيبر طريقتين: “ان يشارك المواطنون في الانتخابات فيقترعون، ما يشكل اسهامهم المباشر والرئيسي في الحياة السياسية، بعدها وفي المدة الفاصلة بين الانتخابات التي جرت والاستحقاق المقبل يتاح لهؤلاء ان يكونوا جزءا من بعض القرارات”.
امثلة كثيرة يمكن ادراجها في هذا المجال، مثل “استشارتهم عبر استفتاءات رأي والقيام بورش عمل على الصعيد المحلي تأخذ في الاعتبار ما يحتاجون اليه، وقد يكون بكل بساطة ناد رياضي في منطقتهم، ويمكن استخدام القرعة لاختيار مواطنين يعطون رأيهم في مشروع بناء مصنع على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي يتم الاكثار من اشكال المشاركة في الفترة الفاصلة بين انتخابات واخرى. كذلك يجب اشراك المواطنين في النقاشات التي تحصل بعد الانتخابات وفي القضايا التي سوف تثار في البرلمان مثلا والتي تطاول حياتهم، وما هي امكانات المشاركة واتخاذ القرار”.
يعطي لوفيبر مثلا عن الموازنات التشاركية، مشيرا الى انه “توجد في فرنسا مجموعات تطرح موازناتها على المواطنين ليشاركوا في اتخاذ القرارات، فيقدم المواطنون في المحلة مشاريع ينشرونها على موقع الكتروني خاص، بعدها تعرض المشاريع للاقتراع لاختيار المناسب منها بعد دراسة جدواها وكلفتها، وفي المسار يتم اختيار 15 مشروعا عبر الموقع، ويمكن بعدها ان يقترع المواطنون عبر الانترنت لاختيار المشاريع التي يفضلونها. وبالتالي، في هذا المشروع عن الموازنات التشاركية يقترح المواطنون المشاريع ويختارونها عبر الاقتراع، وبالتالي فان المنتخبين ليسوا هم من يقررون”.
ويشير الى ان في الامكان تطبيق هذه الاجراءات والنماذج الحية للديموقراطية التشاركية في لبنان ايضا. لذا يمكن تبني الديموقراطية التشاركية في لبنان ايضا، لكن يبقى السؤال عما اذا كانت تصلح للبرلمان؟
يلفت لوفيبر الى ان “بعد اجراء الانتخابات يمكن ان ينظم النواب مشاورات ونقاشات في دوائرهم بغية نقل وجهات نظر المواطنين الى البرلمان في اجتماعاته العامة. هكذا تستند الديموقراطية التمثيلية الى اشكال من الديموقراطية التشاركية ويمكن دمج طرق عدة”.
كيف يمكن توظيف الديموقراطية التشاركية في محاكاة الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في لبنان في 17 تشرين الاول الماضي، اعتراضا على السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية؟
يعتبر لوفيبر “ان اللبنانيين في الظاهر يريدون المشاركة في القرارات، لكنهم لا يزالون في مرحلة ضبابية. انهم مثلا ينادون بتغيير النظام، لكنهم متشبثون في الوقت عينه بجماعاتهم التي ينتمون اليها”.
ما هو الحل اذن؟
يقول لوفيبر: “يجب ان يمارس اللبنانيون الضغط على ممثليهم لكي يغيروا سلوكهم، وبالتالي يجب ان ينبثق التغيير من الاشخاص المنتخبين. ان المنتخبين هم من يواجهون عادة استياء المواطنين وعليهم ان يتخذوا قرارات. هنا ينبغي الاشارة الى ان مهمة المواطنين ليست القيام بعمل النواب المنتخبين، لكن يترتب عليهم ان يقترحوا اجراءات معينة من اجل تهدئة المواطنين”.
يضيف: “على المواطنين ان ينتفضوا، لكن على الطبقة السياسية في الوقت عينه ان تقترح عليهم حلولا. من السهل القول للمواطنين ماذا تقترحون علينا؟ لا، هذا ليس مقبولا. عليكم انتم كنواب منتخبين ان تغيروا في سلوككم وتقترحوا حلولا انقاذية، لانه دوركم وواجبكم”.
ويثير لوفيبر موضوع الفساد الهائل المتفشي في لبنان، لافتا الى انه “يجب البدء بتأمين استقلالية السلطة القضائية وسلطات التحقيق. يمكن مثلا استخدام القرعة لاختيار لجنة حكم تراقب المنتخبين. في فرنسا مثلا لدينا نظام نفرض من خلاله على المنتخبين التصريح عن ممتلكاتهم وبالتالي هنالك سبل عدة، اذ يمكن مثلا تنظيم استفتاءات شعبية او عقد مشاورات، كما يمكن انشاء هيئة تحكيم من المواطنين”.
اين يمكن تطبيق الاختيار عبر القرعة وفي اي سياق؟
يروي لوفيبر ان “اليونانيين استخدموا هذه الطريقة حين كانوا يبتدعون فكرة الديموقراطية، فعمدوا اليها حيث كان يتم اختيار جميع ممثلي الشعب عبر القرعة وذلك قبل وجود الانتخابات. المنحى الايجابي لهذا الامر هو ان جميع المواطنين يكونون ناخبين ومنتخبين على حد سواء وبالمناوبة. هذا ما يضمن تداول السلطة وتعاقب المنتخبين، وبالطبع لا يمكن نسخ النموذج اليوناني على الوضع الحالي. فقد كانت اليونان في تلك الحقبة مقسمة الى مجموعة من المدن، بحيث كان المواطنون فيها يتمتعون بوعي سياسي متقدم جدا قياسا ببلدان اخرى. يتم استخدام القرعة في محافل تمثيلية وفي الجمعيات التشريعية، ويمكن ان يكون جزء من المنتخبين مختارين عبر القرعة، وهذا ممكن على الصعيدين المحلي والوطني في آن واحد، اي في البرلمان. هذا الامر يسهل التطبيق، بحيث يتم اختيار مواطنين بالقرعة وادراجهم في اللوائح الانتخابية الوطنية، ويتقاضون رواتب كما النواب العاديين وتتم مساعدتهم على التدرب، ويتم انتخابهم على اللوائح الوطنية فلا يكونون ممثلين لمناطقهم فحسب. يتم اختيار هؤلاء عبر القرعة، لادراجهم في اللوائح الانتخابية الوطنية”.
هل يمكن اختيار هؤلاء حتى لو لم يكونوا اساتذة جامعيين او ذوي اختصاص؟
يقول البروفسور لوفيبر: “لا ترتبط الديموقراطية بالاختصاص والجدارة فحسب، والا لم نعط حق الانتخاب للمواطنين اذا لم يكونوا اكفياء للانتخاب؟ هنا ينبغي القول ان النواب غالبا ما يصوتون على مشاريع كثيرة لا يفقهون منها شيئا، وذلك بناء على طلب احزابهم، وهؤلاء ليسوا اكفياء في كل القضايا التي تطرح عليهم.
لدى المواطنين جدارة وكفاية لمعرفة الحياة اليومية وهذا امر مهم جدا لصناعة قوانين ملائمة، قبل وضع القوانين من المهم جدا معرفة كيف يعيش الناس؟ يوجد عدد كبير من الاشخاص التقنيين والمتخصصين والاداريين الذين يساعدون النواب على وضع التشريعات، لكن السياسة هي خيارات ولا تتعلق بالكفايات الادارية والتقنية فحسب”.
يشير لوفيبر في معرض حديثه الى نقطة مهمة توضح ان اللامركزية الادارية لا تعني الديموقراطية بالضرورة، ويشرح: “اذا تم منح صلاحيات للسلطات المحلية، واذا مارس المنتخبون السلطة من دون اشراك السكان المحليين، نكون قد منحنا سلطات للمنتخبين وليس للسكان. وبالتالي اللامركزية لا تعني الديموقراطية حتما”.
*نشر هذا التقرير في العدد 76 من مجلّة الأمن العام اللبناني في عددها عن شهر كانون الثاني 2020