“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة
تتجه الانظار عند كل محطة حساسة في تاريخ لبنان الى الجسم الدبلوماسي وكيفية تصرف سفراء لبنان في الظروف الاستثنائية، سواء حراك شعبي او انقسام حكومي او فراغ رئاسي، خصوصا وان الجاليات اللبنانية حول العالم تنضم بشكل طبيعي الى فريقين متناقضين
تعكس الجاليات اللبنانية في الخارج صورة مصغرة عن لبنان، وتنتقل اليها التحركات الداخلية والانقسامات السياسية كالشرارة، ما يوجب على السفراء اللبنانيين والدبلوماسيين في البعثات اللبنانية اتخاذ اقصى درجات الحكمة لضبط الاوضاع وعدم خروجها عن السيطرة والابقاء على صورة لبنان الدولة الموحدة.
انحياز السفير او القنصل الى فريق دون آخر يؤدي حتما الى انقسام بين الجاليات ويضرم بينها المشاكل، لأن اللبنانيين في الخارج غالبا ما ينتمون الى تيارات واحزاب متناقضة.
يسبب هذا الموضوع حرجا للدبلوماسيين العاملين في الخارج، لكن غالبا ما يتعاطى السفراء بكثير من الحكمة والهدوء. فهم يقومون بتقييم التعليمات التي تردهم ويعتمدونها في حال صبت في المصلحة العامة، اما اذا وجدوا انها تسبب حساسيات معينة فيتريثون ويأخذون وقتا لمزيد من التقييم.
في ظل الاحتجاجات الشعبية كالتي تحصل منذ 17 تشرين الاول الفائت، هل يجد السفير حرجا في التعبير عن موقف الدولة اللبنانية؟
بحسب القاعدة، يجب ان يكون رأي السفير جامعا، واكثرية السفراء لديهم الخبرة الكافية لذلك، وهم غالبا ما يذكرون بوحدة الوطن والشعب وبالتاريخ الطويل، ولا يعرجون كثيرا على فترات الاضطرابات.
تمكن الجسم الديبلوماسي اللبناني من الحفاظ على وحدته طيلة الحرب اللبنانية ووسط محطات انقسام كان ابرزها عام 1989 حين انقسم لبنان الى حكومتين: اولى برئاسة قائد الجيش انذاك العماد ميشال عون، وثانية برئاسة الدكتور سليم الحص. في حقبة الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الاول الفائت، يجوز السؤال عن سلوك الديبلوماسيين والسفراء في حقبة غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، حيث قرر الشعب اللبناني ان يعبّر عن رأيه معترضا في الشوارع الساحات.
“الامن العام” تحدثت الى عدد كبير من السفراء، اجمعوا برمتهم على ان الجسم الديبلوماسي بقي موحدا في اقسى الظروف ولم يدخل اليه اي شرخ. فما سر ذلك؟
يقول وزير الخارجية السابق عدنان منصور ان “السر يكمن في ان الديبلوماسي اللبناني يتمتع بخاصية مميزة هي الترفع عن التجاذبات الموجودة في الداخل، وهو يعرف انه يمثل بلده، واي تشويش في عمله سيؤثر عليه مباشرة وعلى سمعة بلده وجاليته. لهذا السبب، ايا تكن وجهة نظره وعاطفته، فانه في نهاية الامر يتصرف في الخارج تصرف المسؤول في الدولة على انه سفير لبنان الواحد ولا يدخل في دهاليز السياسة اللبنانية ومتاهاتها والتجاذبات الحاصلة على الارض”.
يشير منصور الى “اننا نلاحظ انه في اثناء الحرب اللبنانية حصلت انقسامات في فروع مصرفية وفي وزارات ومؤسسات عدة، بينما بقيت وزارة الخارجية بكيانها الموحد، وبقي التزام الدبلوماسيين هذه المؤسسة الوطنية، وهي المؤسسة الدبلوماسية”.
في هذا السياق، يمكن ذكر التظاهرات امام السفارة اللبنانية في كندا في فترة الانقسام الحكومي. حينها بذل السفير اللبناني المتقاعد ورئيس تحرير مجلة “الديبلوماسية” عاصم جابر جهده كي لا تتدخل الشرطة الكندية بين ابناء الجالية اللبنانية المتظاهرين. اعطى السفير جابر توجيهاته لوضع النشيد الوطني اللبناني عند صدور الهتافات المسيئة لجهة لبنانية دون اخرى. حين جاء عيد الاستقلال طلب من ابناء الجالية التظاهر بطريقة حضارية امام السفارة، وبعد انتهاء التظاهرة دعا الممثلين الاساسيين في التظاهرة الى المشاركة في احتفالات السفارة بعيد الاستقلال وخاطبهم قائلا: “السفارة ملك لجميع اللبنانيين، ويمكن ان تتسلموا الحكم يوما ما وتكونوا في موقع دفاع عن السفارة وغيركم سيكون في موقع المعارضة”، بحسب ما يروي لـ”الامن العام”.
اضاف: “لم نعمد الى المجابهة قطعا بل الى الاحتواء، ولم نسمح بأن تنقسم وزارة الخارجية في اصعب الظروف”.
الاسلوب الاحتوائي ذاته اعتمده الوزير منصور حين كان قنصلا عاما في الاسكندرية.
يروي: “اراد اللبنانيون التعبير عن ارائهم وارسال برقيات متناقضة بحسب مواقفهم. تمكنت حينها من التواصل مع ابناء الجاليات، ومن اقناعهم باسلوب مهذب بالامتناع عن ارسال برقيات تتضمن اساءات وشتائم. كان التجاوب لافتا من الجميع، وبقيت الجالية اللبنانية متماسكة بكل فئاتها”.
حصل عدم ارتياح دبلوماسي ابان الفراغ الرئاسي لان السفراء هم دوما ممثلون لرئيس الدولة ما يسبب احراجا لهم، وهنا اهمية استخدام السفير لخبرته وحكمته الدبلوماسية.
يمثل السفير لبنان في كل الظروف، وعليه اعتبار اللعبة السياسية داخلية وليس له حق التدخل فيها، وذلك بحسب اكثر من سفير تحدثنا اليهم. لا ينخرط السفير في الصراع الداخلي، لأن الدبلوماسي يمثل الدولة اللبنانية ايا يكن المسؤول او الحاكم، لهذا السبب لا يتدخل الا في عمل سفارته وما يحصل في الداخل متروك للداخل ولا علاقة له به.
يقول الوزير منصور: “لا يستطيع الدبلوماسي ان يكون منحازا الا الى لبنان، وليس الى اية فئة كي لا تتدمر الجاليات. ان انتماء السفير هو اولا واخيرا للدولة وليس لتيار او لحزب او لتنظيم، ولا يمكنه الدخول طرفا مع جهة دون اخرى، والا يتمزق كيان الدولة من خلال السفارة التي يترأسها فتتحول الى جهة منحازة. هذا طبعا غير جائز لان السفير يمثل الدولة اللبنانية في نهاية المطاف، ولا يمكنه تاليا اتخاذ اجراءات تخالف موقفها”.
تظهر براعة السفير الديبلوماسية من خلال قدرته على تجميد الانقسام في داخل الجالية، فلا تتخذ الامور طابع الحدة بين افرادها.
“يلعب السفير دور الجامع الذي يقرب وجهات النظر ويخفف من التشنجات الحاصلة. ومن المفترض ان يحيد جاليته عن مشاكل لبنان لعدم تعميق الخلافات والاحقاد”، بحسب منصور.
ليس بالضرورة ان ترسل الخارجية تعليمات الى سفرائها في ظروف مماثلة، فالامر يعتمد على السفير بسبب ظهور وجهات نظر مختلفة في داخل الجالية اللبنانية خلال الازمات. لكن ذلك لا يمنع السفير من ان يجمع كل اطياف الجالية اللبنانية الموجودة بتياراتها الحزبية المتناقضة والمختلفة بين بعضها البعض في لبنان.
ماذا عن الحراك الحالي؟
يقول الوزير منصور: “لا يجب ان ينخرط الديبلوماسي في حراكات شعبية او انتفاضات بل عليه ان يشاهد مجريات الامور. فالشعب اللبناني يعبّر عن نفسه ولا يمكنه اتخاذ موقف لأن ابناء الجالية اللبنانية سيكونون منقسمين على غرار لبنان، وبالتالي اي موقف متخذ سيحوله الى طرف”.
عام 1976 انقسمت الحكومة اللبنانية بين وزيري خارجية، بحسب ما يروي السفير عاصم جابر: “استقال وزير الخارجية فيليب تقلا من حكومة الرئيس رشيد كرامي، وتم تعيين الرئيس كميل شمعون وزيرا بديلا وكان ايضا وزيرا للداخلية، وبقي كرامي رئيسا للحكومة. ابان حوادث 1976 ودخول القوات السورية الى لبنان، كان الرئيس شمعون في وزارة الخارجية في قصر بسترس بينما الرئيس كرامي في رئاسة الحكومة، فعمد الاخير الى ارسال تعليمات الى السفارات مناقضة لتعليمات الوزير شمعون، ممارسا بذلك صلاحيات وزير الخارجية بسبب الانقسام السياسي الذي حصل انذاك، فكان السفراء يقرأون تعليمات الرئيسين كرامي وشمعون معا ويطبقون التعليمات التي يرون فيها مصلحة لبنان”.
يشير احد السفراء الى ان الحدث النافر الابرز الذي واجهه سفراء لبنان، كان وجود حكومتي الرئيسين ميشال عون وسليم الحص. في تلك المرحلة، وقع بعض السفراء في صراع بين عاطفتهم وهي مع سيادة لبنان واستقلاله، وبين توجيهات مغايرة لذلك. يروي السفير: “كانت تصلنا برقيات من قصر بسترس من الامين العام لوزارة الخارجية الامير فاروق ابي اللمع ومن الرئيس سليم الحص. عمد بعض السفراء الى الانتقائية في البرقيات التي تردهم واضعين سيادة لبنان واستقلاله اساسا لتوجهاتهم”.
لم ينقسم السلك الديبلوماسي اللبناني يوما. عند انعقاد مؤتمر عدم الانحياز في بلغراد، وقف المندوب اللبناني في اثناء تلاوة المقررات النهائية وطلب الكلام متحفظا عن البند اللبناني، ومطالبا بانسحاب الجيش السوري من لبنان خلافا لتعليمات اخرى. لم يتم تغيير القرار برمته، لكن السفير المذكور طالب بأن يذكر في هامش القرار اشارة الى ذلك، وهذا ما حصل.
مهما تضاربت عواطف السفراء الشخصية، حافظ هؤلاء على الجسم الديبلوماسي موحدا، مستفيدين من هامش التقييم المتروك لهم، معتبرين ان وظيفتهم الرئيسية هي الدفاع عن مصالح لبنان، ومتصرفين بما يمليه حسهم الوطني مهما كانت التعليمات.
*نشر هذا التحقيق في عدد كانون الأول 2019 من مجلة “الأمن العام”.