“مصدر دبلوماسي”: مارلين خليفة:
برز استخدام الغرافيتي او فن الكتابة على الجدران بشكل واسع في الحراك الشعبي الذي انطلق في بيروت والمناطق في 17 تشرين الاول الفائت. ازدانت جدران العاصمة وشوارعها ومحالها ومبانيها بشعارات لم تكن كلها عفوية او مدونة باقلام مواطنين ساخطين، بل كانت من صنع فنانين منضوين في الحراك
لم تكن بيروت المدينة العربية الوحيدة التي نشط فيها فن الغرافيتي ابان الانتفاضات او الحراكات الشعبية التي تتولد من غضب ينصب على وضع لا يعجب المواطنين. واذا كان حراك اللبنانيين وتذمرهم من الاوضاع الاقتصادية والمعيشية وقضايا فساد تعوّق تقدم بلدهم لم ترق الى مستوى الثورة التي تطيح انظمة ومنظومات برمتها، فان عدوى الغرافيتي طاولت العاصمة اللبنانية منتقلة اليها من مدن عربية عصفت بها ثورات حقيقية. لم يأت الامر عفويا، بل جاء عبر فنانين لبنانيين واخرين اجانب، عملوا ليل نهار على تلوين الشوارع والساحات بشعارات ورسوم تحاكي غضب الشارع اللبناني وتصرخ بصوت الشباب الوانا على الجدران في فن يعتبر من المحرمات في ظروف مماثلة. لكن هذا الفن وجد في لبنان مساحة ثقافية وسياسية غير مألوفة عبر افساح حرية التعبير، ما جعل هؤلاء الفنانين الذين يربو عددهم على الثلاثين، يمارسون هذا الفن المحرم من السلطات في بلدان عربية كثيرة مثل دمشق والقاهرة وتونس، علانية وفي وضح النهار، ويرسمون الشعارات ثم يمحونها بعد ايام لكي يحدثوها مجددا من دون ان يدنو منهم احد او يتعرضوا لأي مشكلة.
في المقابل، سجل اصحاب المكتبات حركة كثيفة منذ بدء الحراك الشعبي في بيع بخاخات الالوان. قال احد اصحاب المكتبات في منطقة المتحف لـ”الامن العام” ان مكتبته شهدت تهافتا غير مسبوق على شراء بخاخات البويا التي تستخدم في فن الغرافيتي، واشار الى ان معظم من يبتاعونها هم من الفنانين، لكنهم يختارون النوع الارخص الذي لا يتجاوز سعره الـ3500 ليرة وهو مخلوط بالتينر ويصلح للشوارع، بينما يصل سعر البخاخ الذي يحظى بنوعية جيدة الى 20 الفا.
ليس ما يحصل في بيروت امرا استثنائيا. فالغرافيتي او الكتابة على الجدارن هي احد ادوات الانتفاضات والثورات، يمنح لمسة شبابية غير رسمية تخرق منظومات اجتماعية وسياسية قائمة وتعبّر بوضوح عن غضب المهمشين والفقراء وفئات واسعة في المجتمع، تعتبر نفسها بعيدة من المشاركة في القرارات السياسية والاقتصادية.
كان رسام الغرافيتي البريطاني جايسون كامب يطلي الجدار قبالة بناية اللعازارية باللون الاسود مع مساعد له، مغطيا كل الشعارات التي ملأت الحائط. وقد شارك كامب مع فريق من الرسامين اللبنانيين يتجاوز عددهم الثلاثين رساما في خلق جدران للثورة في مدينة بيروت، ابرزها في الاسكوا، جسر الرينغ وساحة الشهداء. “اليوم نمحو ما كتبناه قبل الثورة لصالح شي اكبر نعده”، يقول كامب الذي اخبرنا انه يعد العدة لشعارات جديدة سيدونها. واعتبر ان “فن الشوارع ينشط في الثورات لانه يمثل الناس الذين لا صوت لهم وغير الممثلين ومن يعانون من الحكومات، فيتجهون الى الشوارع ليسمعوا اصواتهم ويبعثوا برسائلهم. في الثورات غالبا ما يجتمع الفنانون مع بعضهم البعض ليخلقوا ما يشبه الشهادة الحية عن كل ما يحصل في الميدان وللناس”.
المميز في حراك 17 تشرين الاول، وفق كامب، انه “خلق فرصة لمنح الناس اصواتا وليعبّروا عما يؤمنون به، اذ ان الامر يتعلق بالتعبير عن اوجاعهم اكثر مما يشكل ثورة بالمعنى الفعلي للكلمة”.
ليست كل الشعارات الموجودة في شوارع بيروت وعلى جدران مبانيها مكتوبة بخطوط المواطنين، فكتابات هؤلاء يسهل رصدها وهي باقلام ملونة عادية تعتمد اسلوبا بدائيا واضحا وشعارات عفوية، منها على سبيل المثال لا الحصر “شلاح طايفتك”، “آل جعفر نطالب بالعفو العام” وسواها، بالاضافة الى شعارات مطعمة بشتائم اقتبس بعضها من ثورات اخرى، الى شعارات مطلبية مثل “إلتهم الغني”، “امّم المصارف” وسواها.
لكن معظم الشعارات التي زنرت جدران المدينة لم تكن وليدة اللحظة، بل اعدتها مجموعة من الفنانين المنضوين في هذه الانتفاضة ويربو عددهم على الثلاثين، علما ان بعضهم يعمل بشكل فردي. في هذا السياق يقول كامب: “لقد وفرنا ادوات الرسم اللازمة والبخاخات لهم لكي يعبّروا عما يجول في خواطرهم، وفي اذهان الكثير من الناس الذين ليست لهم اصوات مسموعة. هم لبنانيون في غالبيتهم، لكن قلة منهم من فرنسا وبريطانيا، علما ان معظمهم متخصصون في فن الشوارع”.
ابرز الشعارات التي كتبها هؤلاء الفنانون على جدران المدن والشوارع اللبنانية: “بيروت تكلمت، Beirut Spoke”، على جدار الاسكوا نساء يحملن اعلاما لبنانية وبورتريه مع اقنعة، ونقرأ الشعارات الاتية: “جلسة معالجة نفسية جماعية”، “الطائفية مش دينك شطبها هيي حرقت ديني ودينك”، “ثورة على خوفنا”، “ثورة… اضراب عام”، “ليسقط النظام”…
يعمل كامب وفريقه في لبنان للمرة الاولى خلال حراك شعبي، الا انه يعمل مع مجموعة فنانين على مشاريع غرافيتي متنوعة في مؤسسته في بيروت وفي بلدان مجاورة منها سوريا، عاكسين جمال المدن بالالوان.
في حالة بيروت تحديدا، استعاد الغرافيتي النقاش السياسي من الحيز الخاص الى النقاش العام، وهو هدف سياسي بامتياز، اذ تحولت الشوارع والازقة الى منابر للتعبير سواء بالغرافيتي او بتجمعات تستقبل حلقات نقاش، منها على سبيل المثال لا الحصر حول كيفية رصد الفساد ومحاسبة السياسيين.
لكن الشعارات المدونة وخصوصا تلك العفوية منها، تعبّر عن هواجس وهموم وغضب شريحة من الناس تعتبر نفسها مقموعة وتختلف من بلد الى آخر.
في سوريا مثلا، بدأ الحراك في درعا من خلال غرافيتي طلاه تلامذة على جدران بعض المدارس. في تونس اشتهر ما يعرف بجدار القصبة الذي شكل فضاء مشتركا للثورة التونسية التي اطاحت الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، حيث اختلطت على هذا الجدار تعابير السياسة والدين والشعر والجنس والحب وكل ما تم السكوت عنه، بحسب الكاتب سليمان الكامل الذي يروي في حوار صحافي “كيف ان الجدران في مدن تونس وقراها كانت صامتة وفارغة حتى اندلاع الثورة. عندها تكلمت الجدران بطلاقة، ثائرة على المكرهات الدينية والسياسية والاجتماعية ولم تكن مؤدبة ولا مهذبة وشتمت ونهرت وكفرت من دون حياء”. عند رفع الاعتصام في القصبة، برز مطلب تمثل في ان تتم المحافظة على الاقل على جزء من هذه الكتابات التي اعتبرت اثرا مكتوبا لهذه الصفحة من التاريخ، فانشئت صفحة فايسبوك بعنوان: لا لمس كتابات القصبة.
هذا التعبير الثوري في الشارع يستجلب القمع سواء من السلطات، او من مناوئين لهذه الشعارات يقومون احيانا بتشويه معانيها او بطلائها بالوان قاتمة او يرمى الطلاء عليها على عجل، ويستخدم احيانا القانون لمنع الكتابة على الممتلكات العامة او الخاصة.
في القاهرة يروي رسام الغرافيتي المصري المعروف بـ”جنزير” كيف ازالت جهات معينة جدارية لشهداء سقطوا، ويقول في حوار صحافي: “للموتى وجوه، واسماء، وتاريخ، وازالة نصبهم التاريخية تعتبر وجها آخر للعنف والسيطرة”، (جريدة “صوت الشعب” عدد 23 حزيران 2011).
لعل اشهر معلم للغرافيتي عالميا هو جدار برلين السابق، جدار الفصل بين شطري المانيا الشرقي والغربي الذي بني عام 1961 وتم فتحه بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989.
منذ البداية سيطرت السياسة على كتابات الجدار، ومع اندلاع الحركة الطلابية عام 1968 اضحى جدار برلين مثل حائط مبكى يفرغ عليه المعارضون والمحتجون شحنة غضبهم تجاه المجتمع والسلطة. اما ابرز الشعارات التي خلدتها الكتب عن هذا الجدار: “لتسقط رسمتي مع الجدار”، “المانيا الشرقية = معسكر اعتقال… الولايات المتحدة = النازية”، “اللعنة على الشرطة”، “الرب يريد نقودا سائلة!”، “ما نريده، لا يمكن شراؤه”.
تطور فن الغرافيتي في الولايات المتحدة الاميركية عموما وفي نيويورك تحديدا، قبل ان ينتشر في ولايات عدة مثل فيلادلفيا وشيكاغو. وقد ظهر اولا عند عصابات الشوارع التي استخدمته لتحديد نطاق سيطرة كل عصابة. لكن الغرافيتي الذي يرسمه الناس العاديون لا يزال بدائيا، الا ان له بعدا نفسانيا اكيدا سواء ممن يرسم الغرافيتي او ممن يراه ويتأمله، وهو بالتأكيد نوع من النشاط السياسي.
في هذا السياق، يقول المحلل النفساني الدكتور شوقي عازوري لـ”الامن العام” ان “من يكتب على الجدران يكون اسقط ما يعرف بالرقابة الداخلية الموجودة. ثمة رقابة داخلية عند الانسان غالبا ما تتظهر من خلال السخرية او النكتة. من هنا تكثر في الثورات الفيديوهات الفكاهية الطابع والنكات، وهي تعبّر عن مكبوتات تتظهر علانية عبر اساليب عدة منها الغرافيتي والكتابة على الجدران”.
ويشرح قائلا: “من يلجأ الى التعبير بهذا الفن، الغرافيتي اي الرسم على الجدران، لا يمكن ان يقوم بذلك الا وسط ظروف استثنائية تسقط خلالها الرقابة الذاتية”.
لكن كيف يؤثر تلقي المواطن للغرافيتي المرسوم من رسامين ومتخصصين يوجهون سلوكه وافكاره؟
يجيب عازوري: “يشبه الامر نكتة لها بعد جنسي، فهي تضحك بقالبها كنكتة، لكن التعبير عنها بسرد جدي وعادي يثير الغضب والتململ وقد يجرح بعض الاشخاص. الامر سيان في مضمون الغرافيتي الذي يسقط الرقابة الداخلية عند المتلقي، فيحصل تواصل بين الرسام والمواطن ويتشاركان سويا في الافكار من دون ان يعرف بعضهما البعض. هذا الفن يساعد حتما على اسقاط الرقابة الداخلية لدى المواطنين”.
*نشر هذا التحقيق في العدد الـ75 من مجلة “الأمن العام” في عدد كانون الأول 2019.