“مصدر دبلوماسي”: مارلين خليفة:
نظّمت “كلية العلوم الإقتصادية” في جامعة القديس يوسف محاضرة ونقاش مع الخبير الإقتصادي والمالي الدكتور فريدي باز بعنوان: الأزمة النقدية من نقطة الانعطاف الى النقطة الحاسمة. قدّم عميد الكلية جوزف جوانييه المحاضر وقال أنه أحد موجهي عالم المصارف وهو خريج كلية الإقتصاد في الجامعة عام 1974 وبروفسور محاضر فيها لأعوام طويلة.
قال باز الذي تحدث أمام حضور متنوع تقدمه رئيس الجامعة الأب سليم دكاش ووزير العمل كميل ابو سليمان وخبراء وأكاديميين واعلاميين وطلابا بأن “الأزمة النقدية التي يمرّ بها لبنان وهي حادّة وشائكة، وأود الإشارة الى أن الكلام في هذا الملف غالبا ما يرافقه الكثير من الإثارة، وأنا لا أحب الإثارة وسأضع الموضوع في إطاره العلمي والتقني والأكاديمي الى حدّ ما، احتراما للحرم الجامعي الموجودين فيه وللطلاب الحاضرين.
سأعتمد التبسيط قدر الإمكان، بناء على طلب أصدقاء، لكن ليس لدرجة تسخيف الموضوع لأنه مهم جدّا”.
وشرح باز:” توجد 3 نماذج من الأزمات التي قد يتعرّض لها بلد على غرار لبنان يتميز بحجم اقتصاد صغير ومنفتح نحو الخارج. نطلق على هذه النماذج تسمية “أجيال”. بمعنى: نموذج الجيل الأول والثاني والثالث، ولعل الجيل الثالث يمثل الأزمة الأشد حدّة ونحن في خضمّها لسوء الحظ”.
أبرز الأسباب التي أدت الى الإنهيار:
لبنان في الأزمة الأشد من الأزمات المالية والإقتصادية إذن وهي حادّة في بلد بحجم اقتصاد صغير ومنفتح وصل لبنان الى هذه المرحلة المتقدمة بسبب عدم اتخاذ السلطات المعنية أي اجراء استباقي فانتقلت من أزمة الجيل الأول فالثاني فالثالث والتي تعني عمليا “التوأمة بين أزمات عدة: أزمة اقتصاد حقيقي وأزمة مالية عامّة الى أزمة مدفوعات خارجية، الى أزمة سيولة مصرفية” وهو بحسب ما وصفه باز: خليط أو “كوكتيل” متفجّر وستكون للأزمة تداعيات كبرى تنعكس تشوّهات على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والمالية والمصرفية”.
يشير باز الى أن أزمة الجيل الثالث ستكون أكثر حدّة في لبنان لأنها “تحصل في سياق اقتصاد يتعرض لإقتطاع، وضعه كالآتي: تخطى التضخّم الـ10 في المئة أو هو قريب منها، معدّل البطالة فيه يصل الى 40 في المئة، توزيع غير عادل للدخل، وتعاني البنى الأساسية فيه من وهن كبير والتقديمات الإجتماعية معدومة”.
لم تأت هذه الأزمة من فراغ وهي ليست فجائية. بل هي “تظهير لأزمة بنيوية متعددة الجوانب منها ما له علاقة بالإنتاج والعرض، ومنها ما يتعلق بالإستهلاك والإستثمار، وأخرى تتعلق بالمالية العامة وبالمدفوعات الخارجية”. ويشير باز الى أنه مهما كانت طبيعة الأزمة الاقتصادية فهي غالبا ما تتمثل بقيمة النقد.
وانتقل باز لشرح كيفية وصول لبنان الى هذه الأزمة نلخصها بالنقاط الآتية وهو اختار البدء منذ عام 1992 الذي شهد تشكيل أولى الحكومات بعد الحرب وبدء الكلام عن إعادة اعمار لبنان والإقتصاد.
قبل التوغل في التفاصيل يشير باز الى الآتي: “لقد بنينا اقتصادا منحرفا جدّا بل مختلا أصبح ماكينة لبناء دين سواء داخليا أو خارجيا، وليس اقتصاد انتاج”.
أبرز العوامل التي ذكرها باز نلخصها كالآتي:
-نستهلك كلبنانيين أكثر من مقدرتنا على الإنتاج.
-بناء اقتصاد خدمات حيث أصبحت الخدمات تمثل 74 في المئة من العرض
-عدم انتاج سلع وسطية والتي تحتاج اليها وظيفة الانتاج لكي تصدر وهذا ما يشتكي منه اليوم جميع الصناعيين.
-نسبة نمو متقلبة، نمو غير مستدام ولا يخلق فرص عمل.
-النتائج من هذا النموذج المختل: عدم خلق وظائف، نموذج لا يسهم في محاربة الفقر ويؤدي الى هجرة الأدمغة.
وتطرق الدكتور باز الى وضع المالية العامة منذ عام 1991 لغاية اليوم وهي لم تكن افضل من الاقتصاد المختل الذي تمّ بناؤه وأبرز نقاط اختلال المالية العامة:
-إن جباية الرسوم والضرائب من قبل الدولة كانت ما دون الممكن بفجوة وصلت الى 10 في المئة بين الضرائب والرسوم التي كانت تحصلها الدولة وبين تلك التي من المفترض أن تحصّلها بالنسبة الى مروحة الرسوم والضرائب الموجودة.
-تركّز 72 في المئة من الإنفاق على امتداد 27 عاما على 3 ابواب: الأجور وخدمة الدين العام والتحويلات الى شركة كهرباء لبنان.
-لم يبق أي شيء للإنفاق الإستثماري ولبناء بنية تحتية تعزّز الإقتصاد اللبناني.
-جراء ذلك صرنا نرى عجوزات متكررة في الموازنة ترجمت بخلق مديونية متعاظمة وصلت اليوم الى مستويات لا يمكن للإقتصاد السيطرة عليها.
-هذا ما يسمّى غياب المرونة المالية، اي انه ليس لدى الدولة مرونة لكي تستخدم الموازنة لكي تصلّح أو لكي تحفّز وفقدان المساحة المالية هو الذي يعرّض مرونة البلد الى مواجهة الصدمات، أي أننا نواجه اليوم صدمات وتحديات من دون أدنى مرونة.
-قدّم باز ارقاما مخيفة عن الإستيراد والتصدير بين عامي 1992 و2019 أدت الى عجز في الميزان الغذائي: بين 1992 و2019 استورد لبنان بـ340 مليار دولار وصدّر بـ59 مليار دولار! بينما في بداية الحرب اللبنانية وتحديدا قبل بدايتها بين 1974 و1975 كانت الصادرات اللبنانية تمثل 65 في المئة من الواردات.
-جراء هذه الأرقام وقعنا في عجز في الميزان الغذائي الخاص بلبنان وصل الى 3 مليارات دولار في الأعوام الثلاثة الأخيرة وبالتالي لا اكتفاء ذاتي غذائي.
-يستورد لبنان سنويا ب،350 مليون دولار اجبان والبان وحليب من السعودية وبحوالي المليون دولار ورود أي أن اللبنانيين يعيشون اكثر من قدرتهم.
-غطينا هذا العجز برمّته من خلال الرساميل الوافدة بعد ان بلغ العجز في الميزان التجاري 281 مليار دولار. دخلت الى البلد رساميل وصلت الى 290 مليار دولار كان يمكن ان تبني بنى تحتية واقتصادا تنافسيا، لكن الحكومات المتعاقبة اختارت الانفاق غير المجدي الممول بعجوزات وبمديونية وهذا سبب رئيسي للمعضلات التي نعيشها اليوم.
-خلقنا نموذجا يعتمد على الانفاق والمديونية ولم نصرف الى الاستثمار ما خلق تبعية للخارج في استيراد السلع والخدمات التي نحتاجها والأصعب من ذلك تبعية لكي يرسل الينا الخارج الأموال التي نحتاج اليها لكي نموّل السلع والخدمات التي نستوردها.
وسأل باز الى اين وصلنا اليوم؟
الجواب:
-على صعيد المالية العامة، لدينا دين يشكل اليوم 150 في المئة من الناتج المحلي وهو زاد اليوم بالتأكيد لأن الناتج تضاءل بينما كبر حجم الدين.
-بلغ العجز في الموازنة 10 في المئة والاحتياجات التمويلية للقطاع العام (اي الاستحقاقات التي عليه أن يدورها)
أما مجموع العجز الحالي بلغ 26 في المئة من الناتج المحلي، والأصعب أن احتياجات البلد التمويلية بالنسبة الى الإلتزامات تجاه الخارج تبلغ 174 في المئة من الناتج.
الهندسات المالية
بدأت أزمة الجيل الثالث في لبنان عمليا مع الهندسات المالية التي اعتمدها مصرف لبنان عام 2016 وكانت مؤشرا على أننا نواجه ضغوطا وصعوبات. لكن نقطة التحول بدأت في 2011 مع بداية الحرب في سوريا ومع تراجع أسعار البترول وتأزم وضع المنطقة والتأزم في العراق والتشنج السعودي الايراني ودخول اسرائيل على الخط ما أثر على حركة الرساميل الوافدة الى المنطقة عموما والى لبنان خصوصا.
النتيجة: تراجعت حركة الرساميل إذن بوتيرة كبيرة جدّا. هي بلغت 17 مليار دولار سنويا بين 2008 و2010، وانخفضت الى الـ14 مليار في 2011، والى 12 مليار في عام 2018، والى 3 مليار في الأشهر السبعة الأولى من سنة 2019. وهذا يعني وكأنه لم يعد يدخل الى البلد اية اموال، كذلك حصل عجز تراكمي في ميزان المدفوعات، وعجوزات في المالية العامة.
ويقول باز أنه في هذه الفترة قرر مصرف لبنان أن يقوم بتثبيت سعر الصرف بطريقة مرتجلة لكي يحفز المصارف على المساهمة بجلب الرساميل التي يحتاجها البلد لاستمرارية تمويل النموذج الذي بنيناه عام 1992. فتدفقت الأموال وولد “حيوان أو “ديناصو” بات من الصعب السيطرة عليه، فبنيت موجودات تساوي الـ400 في المئة من الناتج القومي لكن نشأ تحدي كيفية السيطرة عليها وسط اقتصاد غير منتج وعدم وجود مكان تتوجه نحوه هذه الفوائض لدى المصارف سوى الدولة. هكذا توجهت المصارف الى المصرف المركزي ووظفت اموالها على شكل ودائع، والى الدولة بشكل اكتتاب سندات خزينة محلية او يوروبوندز.
فحصل استبعاد للقطاع الخاص، وخرجت المصارف الأجنبية لأنها وجدت ألا مصلحة لها في هذا النموذج، وهذا ما أرغم مصرف لبنان الى اللجوء الى رزمات القروض المدعومة مع أن الأمر ليس من اختصاصه، وليس من مهامه. إن مهمة مصرف لبنان هي ادراة النقد وليس تحفيز الاقتصاد، وهذا يقع على عاتق الحكومة. سنويا، يطلق صندوق النقد الدولي تقريرا ينتقد فيه مصرف لبنان عل القروض المدعومة التي يعطيها وينصحه بـ”تنظيف” ميزانيته والخروج من هذا الأمر لأنه ليس من صلاحياته.
إن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية خلق دولرة كبرى في الإقتصاد اللبناني.
كانت لدينا مثلا عام 1992 ودائع مقيمين بالدولار 4 مليارات و370 مليون دولار، وفي أيلول 2019 بلغت 91 مليار دولار. كثرت الودائع بالدولار وتضخمت جراء الفوائد المتراكمة وسط عدم وجود مخزون كاف من العملة المركزية بالدولار الحقيقي في مصرف لبنان ولأن المصرف المركزي ليس مصرف الملاذ الأخير بالدولار بل هو بالليرة اللبنانية. تقلص الإحتياطي بالدولار منذ 4 اعوام وكتبت الوكالات العالمية وصندوق النقد الدولي تقارير تحذر لكن لم يصغ اليها احد بحسب باز.
أبرز الحلول:
دخلنا إذن اليوم في دوّامة تغذّي نفسها بالسلبيات.
يقول باز: “يجب أن نكون واعين بأننا اذا كنّا متمسّكين بمعاييرنا، ما قبل الازمة بالنسبة الى مستوى معيشتنا ورفاهيتنا فعلينا أن ندرك بأن لا إمكانية لدينا للحفاظ على هذا الوضع. فالحياة في لبنان ستتغيّر بالتأكيد. لبنان قادم على مرحلة جديدة وعلينا أن ننسى ماضينا. لأن كل ذلك تغيّر”.يضيف: ” لدينا دينامية دين داخلي غير قابلة للاستمرار، وخصوصا بالنسبة الى النمو السلبي وبالنسبة الى الفوائد العالية والى وضع الإدارة.
ولدينا التزامات تجاه القطاع الخارجي غير قابلة للاستدامة والاستمرار، لأننا اليوم نحن في وضع تقريبا
Sudden Stop in flows
إذ لا تتدفق أموال الى البلد. إن عملتنا هي 50 في المئة
Overvalued
وبالتالي لدينا اليوم
Roll over risk
اي انه ليس باستطاعتنا تدوير هذه الإلتزامات باستمرار.
ولدينا بالطبع تآكل كبير جدّا بالنسبة الى احتياطي القطع”.
يتابع باز:” نظريا، إن ما يمكن أن يجنبنا الهبوط الحاد هو بالتأكيد حكومة تقوم بإصلاح هيكلي سريع جدّا على فترة قصيرة جدّا”.
30 مليار دولار يحتاجها لبنان
“نحتاج الى 30 مليار دولار على الأقل كمساعدات خارجية والحل يكمن في أن نطلب استمرارية مؤتمر “سيدر”، ونطلب مساعدة أصدقائنا و نتوجه الى صندوق النقد الدولي…نقوم بكل ذلك في آن لأنه من الصعب جدّا تجميع 30 مليار دولار أميركي من مصدر واحد”.
ويشير:” نحتاج اليوم الى فريق عمل متمرّس، ليست الحكومة وحدها كافية، نحن نحتاج الى خبراءللتفاوض مع المؤسسات الدولية”.
وختم بهذه الرواية:” سئل باني سنغافورة الحديثة رئيس وزرائها السابق لي كوان يو يوما لم اعتمدت هذا النظام القاسي في تحديث سنغافورة ومحاربة الفساد وكنت غير سهل مع الاعلام ومع المعارضين ؟ فقال:” ان سنغافورة تشبه سفينة، فهي تبحر في بحر هائج، اذا وضعنا على متنها مجموعة سعادين يقفزون فيها على الجهات كلها فماذا يحصل؟ ستغرق حتما.