“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
ليس من تشكيك إيراني بأحقية المطالب التي يرفعها اللبنانيون منذ 17 تشرين الأول المنصرم وملخصها معاقبة الفاسدين وضخ دم جديد من اللبنانيين الأكفاء بعيدا من المحاصصات الطائفية والمذهبية ووقف الهدر وبدء ورش إصلاح شاملة للنهوض بالإقتصاد. إلا أن ذلك لا يعني أنه لا ينبغي البحث بعمق في هوية هذا الحراك لمعرفة كيفية التعاطي معه ومع مطالبه وللفصل بين مكوناته النقية وتلك المتسلقة التي تريد تحويله الى ورقة أميركية عموما وإقليمية من دول خليجية تناصب إيران العداء.
يذهب الموقف الإيراني بعيدا في عقلانيته، فحتى اللبنانيين الذين لم ينزلوا الى الشوارع للتظاهر هم في عمقهم مع الحراك المحق بمطالبه، ولا يجب رجم هذا الحراك بكليته، فإسقاط قطرة دم في إناء شهي وصحي قد تجعله ملوثا بكليته وهذا ما يحدث في لبنان.
لا يندفع الإيرانيون الى توجيه الإتهامات عشوائيا، فالتفتيش عن النقاط الملوثة يتطلب الكثير من الحذر، حتى اتهام السعودية والإمارات العربية المتحدة خصوصا بتمويل هذا الحراك كما يرشح من أوساط لبنانية متابعة لا يمكن اثباته، لكن في الوقت عينه ليس من الحكمة تجاهل احتمال هذا التدخل، لأن لا أحد يمكنه انكار وجود مجتمع في لبنان يميل لهاتين الدولتين ويعمل بأوامرهما نظرا الى المصالح المشتركة. نقاط عدّة وضعت علامات استفهام حول هذا الحراك ابرزها حادثة بناء جدار فصل عند نفق نهر الكلب، ومقتل الشاب علاء أبو فخر. يحمل هذا الحدثان وجها إيجابيا أظهر مقدار الوعي الذي يحمله الشعب اللبناني ورفضه الإنجرار الى الفتنة والحرب، وسلبية تشير بوضوح الى وجود فرقاء يريدون الذهاب بلبنان الى حد الفوضى في سبيل قلب التوازنات، لكنّ السواد الأعظم من اللبنانيين يريدون التغيير من ضمن ضوابط ومن ضمن المؤسسات، تغيير يواكبه فعل رقابة قاس.
يتأمل الإيرانيون بهدوئهم المعتاد مجريات الحراك اللبناني، معتبرين ان المطالب الشعبية محقة. تعتبر أوساط عليمة بمواقف ايران بأنه طالما كانت علاقات طهران بالشعوب اوثق منها مع الدول والسلطات الحاكمة وهي تراهن على الشعوب في سياستها الخارجية والداخلية بشرط ألا يتم السماح للولايات المتحدة الأميركية الاستثمار في الظروف العامة في المنطقة لإحداث مكاسب تسوقها لدى اللوبي الصهيوني على مشارف انتخابات رئاسية اميركية ستحصل بعد بضعة أشهر.
قبل التطرق الى هذا المحور، يمكن التأكيد بأن إيران تعتمد وتثق بالمسؤولين في “حزب الله” الذي تعتبره أكثر مسؤولية من اي تيارات أخرى إذ انه يدرك حساسيات لبنان ويعرف السير بين الألغام المنصوبة ويتشبث باستقرار لبنان.
ليس من رابط بين التظاهرات في لبنان والعراق وطهران، فلكل بلد خصوصية وليس لدى الولايات المتحدة الأميركية هذه السلطة السحرية لتحريك الساحات كلها في التوقيت عينه، لكن الثابت هو أن التدخل الأميركي واضح في الساحات كلها للإستثمار في مطالب الشعوب، فقد تغيّر النهج الأميركي أخيرا سعيا الى تقديم مكاسب وانتصارات ترضي اللوبي الصهيوني تحقيقا لإعادة انتخاب دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية. هذا يعني، بأن الكباش سيستمر لقرابة الأشهر الثمانية المقبلة، حيث تحاول بعض الأطراف الإقليمية المرتبطة بهذه الأجندة تحقيق تغييرات لصالحها، ومنهم بعض الزعماء اللبنانيين الذين سيستثمرون حتى النهاية في مطالب الحراك المحقة لإحراق منافسين لهم في السلطة آخذين ضوءا أخضر من أميركا وأدواتها الإقليمية.
لكن، يبدو بأن الشعب اللبناني واع جدا وهو لن يسمح لآخرين بتنفيذ مشاريعهم وأجنداتهم الخاصة وقد ظهر الوعي اللبناني سواء الشعبي أو من السلطات الرسمية في كيفية التعاطي مع الحوادث الجارية مقارنة مع بلدان أخرى، وبالتالي لا يوجد قلق إيراني من هذا الموضوع بل إن القلق هو من “جهل الأميركيين لنسيج المنطقة وسوء الدراية والجهل لدى بعض الدول الدائرة بالفلك الاميركي والتي تريد جرّ لبنان والمنطقة الى نقطة خطرة”. بالعودة الى الفوارق بين الساحات، ففي العراق أجندة أميركية واضحة ظهرت مع السماح لإسرائيل بضرب مواقع للقوات العراقية، وضرب أمن العراق الذي لا يهم أميركا البتة. في لبنان توجد مطالب معيشية تحاول أميركا استثمارها لكي يتمكن ترامب من أن يقدم هدية ما للصهاينة عبر اضعاف مجتمع المقاومة وهذا سيشكل له نتيجة ايجابية في الإنتخابات المقبلة. أما تظاهرات إيران التي شارفت على نهايتها فهي انبثقت من سوء فهم لرفع أسعار الوقود من قبل الفئات الشعبية الفقيرة التي سرعان ما عادت وفهمت أن رفع الأسعار سيترجم دعما أكبر للعوائل الفقيرة والمتوسطة التي ستحظى بمبالغ شهرية من الحكومة على حساب الفئات الغنية، كما أن الاحتجاجات لم تكن شاملة بل في مدن معينة وهي ليست شبيهة البتة بتلك التي وقعت منذ عامين أما الأستثمار فجاء من مجموعات مرتبطة بأجندات خارجية. فالشعب الإيراني الواقع تحت ضغط كبير لم يتلقف سياسة الحكومة أولا لكنه عاد واقتنع، أما من بقوا في الشوارع فهم من يلعبون من تحت الطاولة الأميركية التي يراهن لاعبوها على احداث شغب عام عبر ضرب ركائز كمحطات الوقود والمصارف ومراكز الشرطة وهي ركائز الإستقرار في أي مجتمع. وبالتالي، ما يحدث اليوم هو أن الأميركيين يستفيدون من أوراقهم في داخل كل مجتمع ومن خلاياهم النائمة في الأوطان لتحريك الشوارع ضد السلطات. تعتبر الأوساط العليمة بأن “حزب الله” لعب دورا مسؤولا جدا لا بل كان الأشد اتزانا بين كل التيارات والأحزاب الاخرى وهو منع الأمور من الإنزلاق نحو اللاعودة ولم يستخدم أوراق قوته حتى السياسية والإنتخابية، قد يكون “الحزب” تعرض للإحراج في مكان ما لكنه وقف مع مطالب اللبنانيين المحقة في حين أن بعض الأحزاب وجدت فرصة للعب بأمن لبنان واستقراه لتحسين دورها عنوة بمستقبله السياسي.
بالاختصار، يقرأ الإيرانيون مرحلة صعبة في الأشهر التي ستسبق الانتخابات الاميركية، وهذا هو جوهر الموضوع أما الرهان فهو على الوعي الذي أظهره اللبنانيون في أكثر من فخّ نصب لضرب استقرار بلدهم.